عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

محمد عبد الرازق علي

الانتظار السيزيفي.. عن سميرة وجدات مايو وذلك الغائب

2025.12.20

الانتظار السيزيفي.. عن سميرة وجدات مايو وذلك الغائب

 

 إلى زوجته، سميرة الخليل، كتب ياسين الحاج صالح «لديَّ حلمٌ، يا سمور. أن أسمعَ صوتكِ قريبًا، وأن أراكِ، وأن نُرتِّبَ لحياتنا التي انقطعت منذ نحو أربع سنوات وأربعة أشهر. حلمي أن تخرجي إلى الضوء، نمشي معًا ونتكلم، نعيش "حياة كالحياة».

اختفت سميرة الخليل قسريًا في ديسمبر 2013، بعدما اختُطفت هي وثلاثة من رفاقها في مدينة دوما، على يد مجموعة تنتمي إلى «جيش الإسلام». كانت ورفاقها يرتبون للخروج من دوما إلى الرقة ومنها إلى تركيا، وقد سبقهم ياسين بأيام ليمهد لهم الطريق والسكن. لكن سميرة اختفت، وانقطع الحبل السري بينها وبين زوجها والعالم. حاول ياسين العثور عليها، لم يستسلم للقلق أو الإحباط، كان يعرف شعور الأسر ثم الاختفاء عن الأحباب جيدًا، فقد تجرعه من قبل في سجون حافظ الأسد لستة عشر عامًا، حين اختطفه الشبيحة من ساحة كلية الطب في منتصف الثمانينات.

التقى ياسين سميرة لأول مرة في شتاء عام 2000، بعد رحيل الأب حافظ الذي سجن كليهما. التقيا في دمشق كغريبين عنها، قادمين من مدينتين ريفيتين، يحملان على ظهريهما آثار السجن والفرقة عن الأهل، ويتوق كل منهما إلى الحضن الذي سيشرع لهما رحابة الدنيا. قررا أن يتزوجا، ليدمجا رحلتيهما معًا، وعاشا معارضين للنظام، يعملان في الكتابة والترجمة والحب. وحين قامت الثورة في نهاية 2011، واشتعلت الأحداث، صارا مطلوبين للنظام، خصوصًا سميرة التي كانت تواجه حكمًا بالإعدام، فهربا من العاصمة دمشق إلى الغوطة الشرقية، ثم إلى حمص، فدوما.

استقرا فترة طويلة هناك، متخفيين عن شبيحة النظام وأعضاء الميليشيات الإسلامية، وواجهوا مع سكان دوما حصارًا قاسيًا، يقض العظام ويطير العقول، لولا السلوان الذي كانا يجدانه في صحبتهما. خرج ياسين تهريبًا إلى تركيا، ثم اختطفت سميرة، وغيّبت قسريًا بلا أثر. ينادي ياسين في كل مكان يذهب إليه بصوت مبحوح، رافعًا قضية زوجته، لكنه لا يصل إليها. تعاوده ذكريات السجن، ويكتشف أن الفقد تجربة أنثوية بالأساس، وكأن أي فقد يستحث فينا صفاتنا الأمومية تجاه العالم، ليصير كل صوت ووجه وحركة، مجرد إشارة للغائب الذي ننتظر دخوله علينا من الباب الموارب.

خلال ثلاث عشرة سنة، لم تعد سميرة من غيابها القسري، بل انضم إليها أكثر من مئة ألف سوري آخر، غيبتهم سجون النظام والميليشيات بالتساوي. لم يمل ياسين من المناداة والمناجاة، صار حضور سميرة الطاغي -بما يوازيه فقدها القاهر- هويته الجديدة، وربما الوحيدة أحيانًا، تمامًا مثل «جدات ساحة مايو» في الأرجنتين.

تحكي إستيلا كارلوتو، مؤسسة جماعة «جدات ساحة مايو»، عندما التقت بحفيدها بعد 36 عامًا، أنها في تلك اللحظة فقط أمكن لنار قلبها على ابنتها أن تبرد، ولربما استطاعت أخيرًا زيارة قبرها من دون شعور بالألم أو التقصير.

في عام 1977، انقلب الجنرال فيديلا على السلطة المدنية في الأرجنتين، علق العمل بالدستور، ونشر الدبابات في أنحاء البلاد. في يوم وليلة، انقلبت الأرجنتين عن بكرة أبيها، ملأ المعارضون الميادين والساحات مطالبين الجنرال بالتراجع، لكن فيديلا رد بغشم مطلق، واعتقل ثلاثين ألفًا من معارضيه في أقل من أسبوع، من بينهم كثير من النساء والشابات الحوامل. كانت لورا، ابنة إستيلا، حاملًا في شهرها السادس عندما اعتُقلت مع رفيقاتها، ثم تدهورت حالتها الصحية ووضعت ابنها في زنزانتها، وتوفيت داخل المعتقل. ومثلها مثل كثيرات، وضعن مواليدهن في السجن، لكن السلطة العسكرية رفضت تسليم المواليد إلى أسر المعتقلات، خوفًا من «توارث الأفكار المتمردة»، ورغبة في التنكيل والانتقام. وزعت السلطة المواليد الجدد على أسر أخرى موالية لها؛ ما يقارب الخمسمئة مولود تبعثروا في البلاد، وتعرضوا مع الوقت لأسوأ أنواع النكاية والتعنيف.

هنا، قامت الغريزة الأمومية مجددًا؛ أسست إستيلا مع رفيقاتها وقفة احتجاجية في «ساحة مايو»، الميدان الرئيسي في الأرجنتين. وقفن صامتات، ورفعن لافتات تندد بما حدث لأحفادهن. قلن إنهن أمهات، يردن أن يرين أبناءهن وفقط، نظرة واحدة ستخلصهن من عذاب الفراق الأبدي. تابعت الجدات، وبعض من الأمهات اللاتي خرجن من السجن، الوقوف كل خميس في الساحة، صامتات وباللافتات ذاتها، لا يردن شيئًا، سوى ألا يموت الأولاد في اختفائهم القسري بصمت العالم عنهم.

في منتصف الثمانينات، سقط الجنرال فيديلا -لأن وراء كل جنرال واحدًا آخر أقوى منه- لكن الجدات استمررن في وقفتهن. صارت حركتهن أكثر شعبية، ونشرن خلال البلاد رجاءً لكل من يشك في أصله أن يتقدم بتحليل DNA. ومع بداية الألفية، وتزامنًا مع مثول فيديلا للمحاكمة، بدأ الشباب في العودة إلى أسرهم واحدًا تلو الآخر. عرف أكثر من نصف المخطوفين أمهاتهم الحقيقيات، والجدات اللاتي لم يستسلمن للهزيمة. في الفيلم الوثائقي عن الحركة، تبتسم الجدة الرقيقة إستيلا، ابتسامة تلخص 36 عامًا من الجري والانتظار، وتقول إنها فعلت كل ذلك ليس لأجل ابنتها أو حفيدها فقط، وإنما لأجل كل الأولاد والبنات، كي لا يخاف واحد منهم أن يختفي عن عائلته قسريًا إلى الأبد.

عندما فُتحت أخبار «مسالخ» النظام السوري، كنت أجلس مع رجل تجمعنا علاقة عمل، شاهد شيئًا على هاتفه، ثم قال إن ابن أخته مختفٍ منذ ستة أعوام. جاؤوا وأخذوه -كلنا نعرف من هم- من مكان عمله، ولم يسمحوا له باتصال أو رسالة. فور وصول الخبر إلى والده، دار على كل المشارح في المحافظة والمحافظات المجاورة، ثم الأقسام، والمستشفيات النفسية، لكن لا أثر للولد، كأنه تبخر تمامًا. ستة أعوام والرجل يدور في كل مكان بحثًا عن خبر واحد، باع جزءًا من الأرض، وزوج بقية إخوة الغائب، وجاءت الجائحة واختفت، وكبر أطفال المختفي دون أن يلعبوا معه، وسافرت بهم زوجته لتؤدي العمرة وتدعو له، كل ذلك ولم يظهر. صمتنا للحظات، رشفنا فيها شايًا مرًا، ثم تابع الرجل أن «الحسنة» الوحيدة في كل تلك المعاناة أن أم الولد ماتت منذ 2009، حتى لا تشهد ذلك الانتظار السيزيفي. وضعنا الأكواب مكانها وصمتنا، استسلمنا للحقيقة القاتلة، إن آلة الإخفاء الطاحنة تلك قد تطال أيًا منا، لكننا لا نعلم يقينًا ما الغلطة التي ستجعلنا الضحية التالية.