عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

صبري العدل

موظفون ثائرون.. قراءة في ذكريات صادق حنين حول ثورة 1919

2019.05.01

موظفون ثائرون.. قراءة في ذكريات صادق حنين حول ثورة 1919

شكَّلت ثورة 1919 حدثًا تاريخيًّا مهمًا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، خصوصًا إذا ما قورنت بأي فعل ثوري أحدثه المصريون خلال الفترة التي سبقتها، إذ كانت الثورة العرابية1881م، هي بداية هذا الفعل الثوري، والمحاولة الأولى للمصريين للوصول إلى حكم بلادهم. لكنها لظروف عدة فشلت في تحقيق أهدافها، بل كانت مدعاة لاحتلال مصر من القوات البريطانية التي أتت من أجل الحفاظ على مصالحها في مصر.

ستحاول هذه الورقة أن تضيء بعض جوانب الثورة الشعبية التي قام بها المصريون في محاولة للتخلص من الاحتلال البريطاني، ونيل الاستقلال. وهي ليست محاولة لرصد دور الموظفين في هذه الثورة، بقدر ما هي محاولة لدراسة سبب انفجار الجهاز الإداري للدولة الذي كان قد صيغ عقب الاحتلال البريطاني لمصر في قوالب تخدم هيراركية «الآلةالحكومية» التي صنعها الاحتلال ومنع انفراط عقدها، أو مشاركتها في أي نشاط سياسي مناهض له.

آلة حكومية منظمة وخاضعة للانضباط

لقد كان الاحتلال البريطاني لمصرنقطة تحول في تاريخ الإدارة المصرية، إذ تحولت مصر بالفعل إلى مستعمرة بريطانية، حاول المحتل البريطاني تحويل الجهاز الإداري في هذه المستعمرة إلى جهاز يتمتع بالانضباط والطاعة، لتحقيق الأهداف الكولونيالية. فلقد كان النظام الجديد في مصر عقب الاحتلال البريطاني، نظامًا يعتمد في جوهره على «الانضباط « لخلق نظام حداثي يتماشى وحاجة بريطانيا، ففي الجيش أعيد تنظيمه، وكذلك التعليم المدرسي اعتمد بشكل أساسي على الانضباط، وخلق سيطرة انضباطية على حياة المواطنين، ونال الجهاز الإداري نصيب من هذه السياسة الانضباطية().

لقد كان كرومر المعتمد البريطاني في مصر (1882 – 1907) هو بالفعل صانع «الدولاب الحكومي» في مصر وفقًا لمعايير ضبط محددة تؤدي فيه «الآلة الحكومية»، كما يسميها كرومر في كتابه «مصر الحديثة»، إذ يري أنه «إذا دخل إنسان، لا يعرف شيئًا عن الميكانيكا، مصنعًا به عدد من الآلات البخارية في أثناء تشغيلها، فإنه قد تصيبه الضوضاء الناتجة عن هذه الماكينات بنوع من الصمم ربما يستمرللحظة، وسيكون انطباعه الأولى مشوبًا بالدهشة، من أن قطعة دقيقة الصنع يمكن إنتاجها عبر هذه الفوضى التي يراها أمامه، وعلى هذا الآدمي أن يفهم تدريجيًّا المعدل الذي تدور به عجلة من العجلات، منظم تنظيمًا دقيقًا، وأن مكبس الآلة البخارية، لا يمكن أن يحدث ضربة أقصر أو أطول، حتى ولو كان بمعدل شعرة، عن تلك الضربة التي من المفترض أن يقوم بها، وأن القوة التي تهبط بها المطرقة قابلة للتعديل الكامل، كما يفهم أيضًا أن هناك صمامات كافية ضد وقوع الحوادث، ويفهم أيضًا أن كل جزء من الماكينة يجرى ضبطه كي يؤدي جزءًا محددًا من العمل، ويخضع أيضًا لسيطرة كاملة تمنعه من التداخل مع وظيفة أي جزء من الأجزاء الأخرى»(). 

ويرى كرومر أن كل جزء في «الآلة» الحكومية يؤدي وظيفة محددة له سلفًا، ويشير إلى وجود مصنعين لتشغيل «الآلة الحكومية» في مصر، أحدهما؛ مصنع العناصر الأوروبية، والثاني؛ مصنع العناصر المصرية، وأن هناك تناغمًا في العلاقة بين المصنعين، وكان كرومر مقتنعًا بمقولة نوبار باشا في إشارته للحكومة المصرية «أن هذه ليست حكومة، وإنما هي إدارة»(). ومن هذا المنطلق فقد جرى التعامل مع الحكومة على أنها مجرد «جهاز إداري» يؤدى وظيفة سلطوية، وجرى الاعتماد في هذا الجهاز الإداري على عناصر أوروبية ومصرية لكل منهم دور يؤديه وفق السياسة التي رسمت لهذا الجهاز الإداري.

وإذا حاولنا أن نرجع إلى الوراء قليلًا، للبحث عن مؤهلات المصريين لتولى الوظائف الإدارية، فنجد أن المصريين المسلمين كانوا يتجهون إلى التعليم الديني في الأزهر باعتباره التعليم العالي في فترة العصر العثماني، بينما اتجه الأقباط المصريون إلى تعلم الحسابات، إذ كان الأقباط المصريون قد برعوا في الحسابات منذ وقت طويل، فمنذ العصر العثماني كان المباشرون الأقباط يلعبون دورًا مهمًا في إدارة الحسابات، ومن أشهر رموزهم المعلم جرجس الجوهري مستشار على بك الكبير()، والمعلم غالي مستشار محمد على باشا()، ويقول بارنج إن «الأقباط مساحون، وهم أيضًا الكتبة، وهم أيضًا الحسابون، والقياسون، وخلاصة القول هم متعلمو هذه الأرض»، فالأقباط في مكتب المحاسبة واستعمال القلم، فهم بمثابة الفلاح بالنسبة للحقل والمحراث().

في بداية الاحتلال البريطاني، كان تنظيم الجهاز الإداري في مصر، والذى تأثر بشكل كبير بما جاء من توصيات في تقرير «اللورد دوفرين»، وذلك من خلال وضع المستشارين الإنجليز في الوزارات المختلفة فيما عدا الأوقاف والخارجية والحربية، وإن كان دورهم قاصرًا على إبداء الرأي والنصح()، إلا أن دورهم الفعلي بات أكبر من النصح وإبداء الآراء، إلى تحقيق الانضباط داخل «دولاب العمل الحكومي» في كل وزارة. وجرى تنظيم هذا «الدولاب الحكومي» في مصر، إذ وُضع «مستشار إنجليزي» في كل مؤسسة حكومية، هدفه ضبط آلة الدولاب الحكومي، كان أهم هؤلاء المستشارين هو «المستشار المالي»، الذي كان له الحق في حضور جلسات مجلس النظار، هذا بالإضافة إلى وضع عدد كبير من الموظفين الإنجليز والأجانب داخل النظارات، وخلال عام 1906 وفقًا لما ذكره كرومر، كان عدد الموظفين الأوروبيين نحو 1252 موظفًا، بينما كان عدد الموظفين المصريين نحو 12027 موظفًا().

وقد استعان البريطانيون بالأقباط داخل الجهاز الإداري الحكومي، خصوصًا في القطاعات المالية وقطاع الحسابات، ويشير كرومر إلى أن الأوروبي سوف يستقبل القبطي استقبالًا حارًا، ليس بسبب دينه، بل لأن القبطي يستطيع أن يجمع ويطرح، ولأنه يعرف «جدول الضرب» الذي يعرفه الأوروبي(). 

وكان موظفو الجهاز الإداري المصريين تحت سيطرة وأعين الموظفين الكبار من الأجانب سواء كانوا إنجليز أو جنسيات أوروبية أخرى، أو حتى من كبار الموظفين المصريين، فقد كان كرومر يري أهمية الأجانب في المنظومة الإدارية في مصر، إذ أن دورهم مهم وضروري في «تصحيح عيوب الشخصية المصرية»، كما كان يرى أن استبدال العناصر الأوروبية بالعناصر المصرية المحلية سوف يستغرق الكثير من الوقت، حتى يكتسب المصريين المعرفة الفنية، لأن الشخصية المصرية عبارة عن «مصنع» بطيء النمو().

وهكذا بدا أن «الانضباط»، و«المراقبة» أحد أدوات الاحتلال البريطاني في السيطرة على الجهاز الإداري في مصر، فالموظفون المصريون يخضعون لتقويم ومراقبة الموظفين الأجانب، ولا يمكنهم التصرف في الأمور الإدارية بشكل فردى. وتحققت طمأنينة كرومر لدوران «الآلة الحكومية» بشكل منضبط.

ثورة مصرية غير متوقعة

لقد كان القبض على سعد زغلول وزملائه الشرارة التي أشعلت نار الثورة والغضب في قلوب المصريين. ولم تكن السلطات البريطانية تتوقع انفجارًا شعبيًّا ضدها بهذا الزخم الواسع، وبدأت الثورة وانتشرت في ساعات معدودة في عموم البلاد، ولم تتضارب فيها الآراء، ولم يكن أحد يتوقع حدوثها قبل تلك الساعات حتى السلطات البريطانية نفسها، أصيبت بحالة من حالات عدم الاستيعاب. وسوف تبدو هذه الملاحظة واضحة في ردود أفعال المسؤولين البريطانيين غير المستوعبين لما يحدث، فتصيبهم حالة من الإنكار لفترة طويلة من اندلاع الثورة. إذ كانت المشاركات واسعة وشملت القاعدة العريضة من المصريين، من الطلبة والعمال والفلاحين والأطباء والمحامين والموظفين..الخ. 

وكان الطلبة هم أسبق فئات المجتمع المصري للدعوة إلى الإضراب والتظاهر في الشارع، وحدث ذلك في 9 مارس 1919، كان طلبة مدرسة الحقوق هم أول المضربين، وعقد العزم على الامتناع عن الدراسة، وانتخبوا طالبين منهم أحدهم مسلم والآخر مسيحي ليبلغا ناظر المدرسة بعزمهم على الإضراب()، ثم توالت الإضرابات والتظاهرات في المدارس الأخرى، كمدرسة الزراعة العليا، ومدرسة الطب... إلخ.

وكان العمال هم الفئة الثانية من المجتمع المصري التي شاركت في المراحل الأولى للثورة، وكانت أحداث مارس الثورية سـنة ١٩١٩ قد فتحت الباب على مصراعيه لمشاركة الطبقة العاملة مشاركة اتسمت بالطابع الثوري، وكان انضمام العمال عاملًا مهمًا في منح الثورة زخمًا حقيقيًّا.

ففي 15 مارس كان إضراب عمال العنابر، الذين دونهم تتوقف حركة القطارات، وكان عددهم ما بين أربعة آلاف إلى سبعة آلاف عامل، وكان الباعث وراء إضرابهم ما قامت به الحكومة من إلحاق بعض الجنود الإنجليز بهذه العنابر لتدريبهم على مختلف الصناعات، فاعتقد العمال أن الحكومة تهدف إلى إحلالهم بهؤلاء الجنود(). وليس مجال هذه الورقة تناول ما فعلته الفئات والشرائح الأخرى من المجتمع المصري خلال مراحل الثورة المختلفة، سنركز فقط على شريحة الموظفين الحكوميين.

لقد كان الموظفون «محركًا» مهمًا من «محركات» ثورة 1919، بينما كانت القيادة البريطانية ترى في الموظفين، أنهم يعملون داخل «قالب» تمت صياغته طوال فترة الاحتلال، ومدرب على «الطاعة»، لكن هذا لم يمنع تخوفهم من انتشار روح الإضراب بين هؤلاء الموظفين، وهو ما دفع القيادة البريطانية في مصر، في 13 مارس 1919 إلى نشر بلاغ وزعته على الصحف، كان نصه»جناب القائد العام للقوات في القطر المصري ينبه جميع مستخدمي الحكومة باجتناب الحركات السياسية، وبالاستمرار في محل أعمالهم حيث يكونون تحت حماية السلطة العسكرية، ويعلن الجميع أن كل من يحاول أن يتعرض لهم أو يؤخرهم في أداء الأعمال المفروضة عليهم يعرض نفسه للعقاب الشديد بمقتضى الأحكام العرفية»(). 

يذكر عبد الرحمن الرافعي لم يكن للموظفين عمل يذكر في الثورة قبل خطاب وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزونLord Curzon، فالحركة كانت منحصرة في الطلبة والشباب، والمحامين والسيدات، والعمال والفلاحين، وفريق من الأعيان وذوي المهن الحرة، أما الموظفون فكانوا بمنأى عنها، وكان عملهم مقصورًا على الإعجاب بها، وبما بدا من هذه الطبقات من الشجاعة والتضحية... وقد فكر بعض صغار الموظفين في الإضراب مشاركة للأمة في حركتها العامة، لكنهم أخفقوا في مسعاهم، إذ عارضت جمهرة الموظفين، وخصوصًا كبارهم، في الإضراب، خشية عواقبه، وكل ما فعله فريق منهم أنهم وقعوا على عرائض احتجاج على اعتقال سعد وصحبه، رفعوها إلى السلطان، وظهرت هذه الفكرة أول ما ظهرت، بين موظفي وزارة الخارجية، ولقوا صعوبة كبيرة في حمل بعض المستشارين وكبار الموظفين على توقيعها، إذ عدوها تدخلًا في السياسة، بما لا يتفق (في نظرهم) مع طبيعة مراكزهم”(). وهكذا بدأ الموظفون تحركهم للانخراط في الثورة والمطالبة بالاستقلال.

انفراط عقد الانضباط:إضراب الموظفين

لقد كان كيرزون متيقنًا من طبيعة تركيب الجهاز الإداري الذي شكلته السلطات البريطانية عقب احتلالها لمصر، فالموظفون المصريون، كانوا أشبه بـ «ترس في الآلة الإدارية» التي صنعها كرومر في مصر. لكن حان اختبار مدي تماسك هذه «الآلة الحكومية»، أمام أول عاصفة شعبية تداعب وتر الوطنية لدى هؤلاء الموظفين المصريين.

عندما ألقى وزير الخارجية البريطانياللورد كيرزون، خطابًا عرض فيه للثورة المصرية، ووصفها بأنها «لا تعد حركة سياسية، بل هي أقرب إلى السلب والنهب منها إلى السياسة»().وكان مما قالهأيضًا»أن الموظفين لم يشاركوا في الثورة ولم يتجاوبوا معها»، كما ذكر بأن»أحد المميزات العظيمة للأحداث المؤسفة في مصر، هو سلوك العديد من الموظفين المصريين»().

وكان على الموظفين أن يردوا هذه الإهانة التي لحقتهم كمصريين يحبون وطنهم، والرد على محاولة التشكيك في حبهم لمصر، فأعلنوا الإضراب عن العمل، وحددوا مدته بثلاثة أيام، وبدأ الانقطاع الفعلي يوم 2 أبريل، فأصبحت دواوين الوزارات مقفرة خالية إلا من الموظفين الإنجليز والأجانب(). وقد علق مستشار الحقانية على إضراب الموظفين بالقول»إني كنت أظن أنهم سيصنعون أكثر من ذلك»(). 

ووقع الموظفون على عريضة تضمنت الاحتجاج على ما وصفهم به اللورد كيرزون، وقدمت صورة منها إلى قصر عابدين في أول أبريل 1919، وشارك في هذه العريضة جميع الموظفين باستثناء عدد قليل من كبار وصغار الموظفين، ومستشاري محكمة الاستئناف، الذين اجتهدوا للتخلص من ذلك().ويقول صادق حنين في «ذكرياته» إن الإضراب حقق الأهداف المرجوة منه، وهو نفي مزاعم كيرزون عن الجمود الذي عزاه للموظفين، إزاء الحركة القومية، لكنهم بالنظر إلى تطورات الحوادث، رأوا أن في إطالة الإضراب تقوية للعوامل الفعالة في خدمة قضية الوطن»(). لهذا قرروا عدم الاكتفاء بالأيام الثلاثة التي حدودها للإضراب في بادئ الأمر، بل قرروا الاستمرار فيه إلى أن يجاب طلب الأمة، برفع كل قيد عن سفر زعيم الوفد سعد وأصحابه إلى مؤتمر السلام().

وكان إضراب الموظفين مقصورًا تقريبًا على القاهرة، أما موظفو الأقاليم فلم تصلهم الدعوة إلا متأخرًا، فلم يشترك منهم في الإضراب إلا القليل()، ولاشك أن إضرابهم قد آثار حماسة الجماهير، لأنه حادث فريد في تاريخ مصر، فلأول مرة في مصر يضرب فيها موظفو الدولة عن العمل لأسباب سياسية، فلم يسبق أن أضربوا عن العمل لأي سبب من الأسباب.

وأجيبت مطالب المصريين حين أعلن اللورد أللنبيAllenby في 7 أبريل السماح بالسفر لرئيس الوفد سعد زغلول وأصحابه ومن يشاء من المصريين. وشكل حسين رشدي باشا وزارته للمرة الرابعة في 9 أبريل()، ومع تشكيل الوزارة الجديدة كان الظن أن يهدأ الموظفون، ولا يعودوا إلى الإضراب، لكن العكس قد حدث فقد تجددت فيهم روح الإضراب مع تشكيل الوزارة الجديدة، وألفوا اللجنة التي سبق لهم التفكير فيها، منذ إضرابهم الأول، وسميت «لجنة مندوبي موظفي وزارات الحكومة ومصالحها»، وجرى انتخابها بواسطة الموظفين، فكان موظفو كل مصلحة يجتمعون فيها ويختارون مندوبًا عنهم، ومن هؤلاء المندوبين تألفت اللجنة، وقد بلغ عددها 32 عضوًا، ثم صاروا 57 عضوًا(). 

وتشير التقارير البريطانية عن أحداث يوم 9 أبريل إلى أن «جميع موظفي الحكومة كانوا متغيبين عن العمل في الوزارات، وجميع موظفي البريد والغالبية العظمى من موظفي السكك الحديدية في حالة إضراب... وكان هناك قدر كبير من أعمال الشغب والنهب من قبل حشود مسلحة بالعصي والقضبان الحديدية... كما كانت هناك العديد من حالات التحريض العلني على العنف من قبل الطلاب وغيرهم، مع اعتصام موظفي الحكومة وترهيبهم»(). وتعكس هذه التقارير البريطانية صورة الثورة في عيون المحتل البريطاني، إذ يراها عمليات تخريبية تهدف إلى السلب والنهب، وأن الموظفين غير موالين للثورة لكنهم واقعون تحت التهديد والترهيب، وكأنهم أصيبوا بصدمة وعدم تصديق لما يحدث.

وبدأت لجنة الموظفين أولى اجتماعاتها بوزارة الحقانية في 10 أبريل 1919، وقررت إضراب جميع الموظفين عن العمل، بدءًا بالسبت 12 أبريل، حتى يتم الاستجابة للمطالب الآتية: أولًا: أن تصرح الوزارة بصفة الوفد الرسمية. ثانيًا: أن تعلن الوزارة أن تشكيلها لا يفيد الاعتراف بالحماية. ثالثًا: إلغاء الأحكام العرفية وسحب الجنود المسلحة من الشوارع ومن البنادر والقرى، وتفويض الأمن والنظام إلى البوليس المصري. واستثنى من قرار الإضراب موظفو مكتب مجلس الوزراء لمدة أسبوع، ثم رجال البوليس والسجانون الموكلون بحراسة المسجونين، وأطباء الحكومة ومن يري من هؤلاء الأطباء أنهم لازمون لهم ().

وقد رفعت اللجنة قرارها إلى رئيس الحكومة رشدي باشا، وطالت المباحثات بينهما دون اتفاق، وأصدر رشدي باشا بيانًا في 12 أبريل صرح فيه بأن السماح للمصريين بالسفر سيحقق الأماني الوطنية، ودعا الأمة إلى الهدوء والسكينة، وأن وزارته تأمل «في حل يرضى الأمة...»()، كما دعا الموظفين إلى العودة إلى العمل، وأن استمرار الإضراب يؤدي إلى الفوضى وارتباك الأعمال، كما أشار في بيانه إلى سعى الحكومة لتحقيق المطلب الخاص بإلغاء الأحكام العرفية، وأنه من المحال إلغاؤها بجرة قلم، وسيتم التفاهم مع السلطات العسكرية حول هذه النقطة، لكن لجنة الموظفين رأت أن البيان لايحقق مطالبها، فاجتمعت في وزارة الحقانية يوم 13 أبريل، وكان عدد الحاضرين 50 مندوبًا، وقرروا بالإجماع استمرار الإضراب إلى أن تجاب مطالبهم، كما قرروا أنه في حال لحق بأعضاء اللجنة أي ضرر بسبب مواقفهم، فإن الموظفين متضامنين معهم وسيستمر الإضراب إلى يرفع عنهم هذا الضرر، وهو ما دفع رشدي إلى إصدار بيان ثان في 15 أبريل حث فيه الموظفين على العودة إلى أعمالهم، وتحميلهم مسؤولية عواقب الاستمرار، لكن اللجنة اجتمعت وقررت الاستمرار في الإضراب، ورفض تهديد الحكومة، وكتبوا تقريرًا بمطالبهم ورفعوها إلى السلطان فؤاد، وترجموا نسخًا منه وزعت على معتمدي الدول ().

وكان لهذا الإضراب أثره الكبير والواضح، في تضامن فئات الشعب المصري مع موقف الموظفين، ففي 16 أبريل أضرب التجار وأصحاب الحرف والمهن الحرة، وعقد مؤتمر موسع بالأزهر، برئاسة «الشيخ بخيت» مفتي الديار المصرية، وحضره مندوبون يمثلون طوائف المجتمع المصري، وبعد أن ألقيت الخطب، أعلن المؤتمر تضامنه مع الموظفين في إضرابهم حتى تتحقق المطالب، وكتبت عريضة بما قرره المؤتمر، ورفعت إلى السلطان، مع ترجمة للقرار وزعت على معتمدي الدول. وانقطعت الحركة في المدينة وأصيبت بالشلل التام بسبب الإضراب، حتى الكناسين تضامنوا مع حركة الإضراب مما اضطر الحكومة للاعتماد على المساجين لكنس الشوارع، واستعاضت عن سائقي عربات الرش بالعساكر الهنود، وكانوا جميعًا يعملون تحت حراسة الجنود الإنجليز().

والواقع أن السلطات البريطانية كانت تمتلك ثقة أكبر في الجهاز الإداري للوزارات المصرية، إذ تم تركيبه بطريقة تضمن لهم السيطرة الكاملة على الموظفين، وهذا ربما يفسر الكثير مما يرد في الوثائق البريطانية، من أن الموظفين خضعوا للتهديد والابتزاز، وهم مشاركون في الثورة على غير رغبتهم، لكن الواقع هو عدم إدراك المسؤولين البريطانيين لطبيعة الثورة المصرية التي اتسمت بالطابع القومي، وأن الدوافع الوطنية كامنه في نفوس كل مصري حتى هؤلاء الموظفين، وأنهم لن يقبلوا أن يقال عنه إنهم منحازون إلى الإنجليز وغير آبهين بما يحدث من تطورات في طول البلاد عرضها.

وفى 17 أبريل أضرب عمال البريد في الزقازيق، بينما تزعم الوثائق البريطانية أنه جماعة «اليد السوداء»Black Hand في بني سويف قد هددت الموظفين، بينما استمر إضراب الموظفين في طنطا(). كما أضرب موظفو البريد في الإسكندرية، وحدد موظفو وعمال بورسعيد 20 أبريل كيوم للإضراب()، وتشير هذه الوثائق إلى أن الدعاية للمؤتمر الذي عقد بالأزهر وترأسه الشيخ بخيت، قد شملت دعاية مناهضة لبريطانيا حول أن الجنود البريطانيين يحرقون القرى، كما أن الإنجليز سيرفعون الضرائب على المصريين، وأن الشيخ بخيت قد بارك مطالب اللجنة الرسمية، وأن يتم جمع أموال بمئات الآلاف من الجنيهات، باستخدام القوة والتهديد والوعيد، خارج القرى. ويتم جمع هذه الأموال من أجل دفع رواتب الموظفين المصريين، التي يرفض الإنجليز دفعها().

على أية حال، فقد أدي هذا الإضراب إلى تهديد الحكومة باعتقال كل من يحرض الموظفين على الإضراب، وقالت في البيان»توجد حملة لإرهاب مستخدمي الحكومة وغيرهم، فالقائد العام للقوات البريطانية في القطر المصري يأمر بالقبض على جميع الأشخاص الذين يعثر عليهم وهم يقومون بهذه الأعمال»().وتماشيًا مع وجهة النظر البريطانية في الثورة، زعم اللورد أللنبي ـ الذي عين مندوبًا ساميا لبريطانيا في مصر في مارس 1919 ـ أيضًا أنه كانت هناك حملة قادتها ما يسمي بـ «لجان الدفاع الوطني»، بهدف الترويع والتهديد بالضرب للموظفين الحكوميين وتحطيم المحلات لأصحاب المحلات التجارية(). ولاشك أن المسؤولين البريطانيين في مصر، كانوا يخشون بشكل أساسي انخراط الموظفين بالثورة، وما يترتب عليه من تعطل المصالح الحكومية وإصابتها بالشلل مما يزيد من حماسة المصريين لاستمرار التظاهر والإضرابات والثورة.

وقد أجبر الإضراب حكومة حسين رشدي إلى تقديم استقالتها في 21 أبريل 1919، وفى 22 أبريل تلقى رشدي من السلطان فؤاد ردًا بقبول استقالة الحكومة، وعندما أذيع خبر استقالة الحكومة اجتمع عشرة من مندوبي لجنة الموظفين، بصورة عاجلة في ليلة 21 أبريل وقرروا عودة الموظفين إلى أعمالهم، إذ اعتبروا استقالة الحكومة ترضية لمطالب الموظفين، ونشر قرار اللجنة مع قرار أللنبى في وقت واحد، فعاد الموظفون إلى أعمالهم يوم 23 أبريل 1919، بينما امتنع عدد قليل من الموظفين عن العودة للعمل خشية أن ترتبط عودتهم بالخوف من تهديدات أللنبى ووعيده، إذ أصدر منشورًا يتوعد الموظفين بالعقاب الصارم في حال استمروا في الإضراب، وحال عودتهم قبض على البعض منهم، كما منع البعض الآخر من استئناف أعمالهم().

واجتمعت لجنة «مندوبي موظفي وزارات الحكومة» بمبنى وزارة الحقانية في الساعة العاشرة صباح 25 أبريل 1919، وبعد اطلاعهم على محضر اجتماع المندوبين العشرة من أعضاء اللجنة، عقب استقالة حكومة رشدي، والذى دعوا فيه الموظفين للعودة إلى أعمالهم، تم إقرار ما جاء من قرارات هذه اللجنة المصغرة، وتأييد عودة الموظفين إلى أعمالهم، مع الاحتجاج على معاملة الموظفين الإنجليز لبعض الموظفين المصريين العائدين من الإضراب، فلا يجوز استخدام هؤلاء الإنجليز مراكزهم للانتقام من صغار الموظفين المصريين الذي استجابوا للإضراب، الذي أقرت الحكومة السابقة أنه كان إضرابًا لتأييد المطالب القومية، كما طالبت اللجنة في قرارها بضرورة الإفراج عن المعتقلين من الموظفين، وإعادة من منعوا من العمل إلى وظائفهم(). وكان هذا آخر اجتماع للجنة، ولم تجتمع بعد هذا التاريخ، فقد أدت مهمتها في إحراج وزارة رشدي وإجبارها على الاستقالة، ولعبت دورًا مهما في تماسك كتلة الموظفين المضربين وعدم انقسامهم وضياع جهودهم.

وهكذا استمر الإضراب لمدة ثلاثة أسابيع، من 2 حتى 23 أبريل، ولم يأبه الموظفون بخصم الأسابيع الثلاثة التي أضربوا فيها عن العمل من رواتبهم، في الوقت الذي كانت فيه المدينة تعانى من التوتر الشديد نتيجة حملات الاعتقال والصدامات والمواجهات بين المتظاهرين والسلطات البريطانية().

في 21 مايو 1919 تشكلت وزارة سعيد باشا، بعد أن ظلت مصر دون وزارة لمدة شهر كامل، وقد قوبل تشكيل هذه الوزارة بالاحتجاج والتظاهرات العدائية لها في القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الأخرى، ورفعت العديد من العرائض للاحتجاج على تشكيلها، ومنذ بداية تشكيل هذه الوزارة أعلن سعيد باشا أن وزارته معنية بتحسين حالة الموظفين، وذلك بهدف صرف أنظار الموظفين عن الاهتمام بالشأن العام، وقد نفذ ما وعد به فقرر مجلس الوزراء في 26 يونيو تخصيص مبلغ 800 ألف جنيه لمنحهم العلاوات، في شكل استبقاء لإعانة الحرب مع زيادتها بنسبة 50%، وبالإضافة إلى ذلك قام بتحسين درجات عدد كبير من الموظفين، وأغدق عليهم الرتب والنياشين، وذلك بهدف اجتذاب الموظفين إلى جانب الوزارة، وقد نجحت هذه السياسة جزئيًّا في صرف عدد كبير من الموظفين عن القضية الوطنية والالتفات إلى مصالحهم الخاصة().

وهكذا فشلت الترتيبات البريطانية لقولبة الموظفين داخل «الآلة الحكومية»، إذ كان هذا التحدي اختبارًا لمدي قوة وانضباط الجهاز الإداري للدولة، وتأكيد أو نفى المزاعم البريطانية بأنه خارج العمل السياسي. وفى المقابل نجاح اختبار مدي وطنية موظفي الدولة ضد تأكيدات وزير الخارجية البريطاني كيرزون بأن هؤلاء الموظفين منضبطين وفقًا للقواعد البريطانية، ولن يشاركوا في أي عمل سياسي، لكن هذه الأحداث أثبتت خطأ نظرتهم، وانفرط عقد الانضباط الإداري الذي تفاخر به كرومر والمسؤولون البريطانيون من بعده.

ذكريات صادق حنين زعيم الموظفين 

تأتي «ذكريات» صادق حنين في إطار ثلاثة أحاديث، أدلى بها سنة 1968، ونشرتها مكتبة الإسكندرية ضمن موقع ذاكرة مصر المعاصرة، وكانت بين أوراق بطرس باشا غالي الذي قامت المكتبة بفهرستها وتصويرها ووضعها على الموقع المذكور(). وتتألف هذه الذكريات من ملفين أحدهما يقع في تسع ورقات، وسوف أشير إليه في الحواشي باسم ذكريات(1)، وهو تحت رقم (B2095) بينما الملف الثاني فيتألف من أربع وثلاثين ورقة، وسوف أشير إليه بذكريات(2) وهو تحت رقم (B2097)، إضافة إلى الرد على مقال لأحمد بهاء الدين في مجلة المصور سنة 1969، وسوف أشير إليه باسم المجلة وتاريخ صدورها. ومن خلال المعلومات القليلة المتحفظة من المؤلف ـإذ نرى في هذه الكتابات تحفظًا كبيرًا من صاحبهاـ ويمكننا أن نضع تصورًا لدوره وما تعرض له من ضغوط بسبب موقفه المؤيد والمتزعم لإضراب الموظفين الحكوميين.

والنظرة الفاحصة لما جاء من قضايا في “ذكريات” صادق حنين، نراها تتطابق كثيرًا تمامًا مع ما جاء في مذكرات فخري عبد النور، وبما أن صادق حنين شارك في ترتيب وتبويب مذكرات عبد النور، فإنه من المرجح أنه كتبها بعد فترة طويلة لم يتذكر أحداثها بشيء من التفاصيل، فحاول اقتباس ما يخصه في مذكرات عبد النور وصاغه في شكل “ذكريات”. أو لعل شخصية المؤلف المتحفظة بطبيعتها، كانت سببًا في عدم كتابته لمذكرات يوضح فيها دوره بشيء من التفصيل، واكتفائه بهذه الذكريات التي كتبها كما ذكر أحيانا بناءً على طلب بعض الشباب، وهو يري أنه بكتابتها ربما تلهم بعض الشباب وتكون له عونًا في حياته().

إن ما كتبه صادق حنين عن نفسه في المذكرات ليس بالكثير، لكنه يرسم صورة عامة لدوره في ثورة 1919، فوفقًا لما كتبه هو عن نفسه في هذه الأوراق التي صاغها بنفسه، -مع أنه لم يذكر الكثير عن حياته- فهو صادق حنين ابن الباحث المعروف جرجس حنين الذي يعرفه الكثير من الباحثين والمؤرخين بسبب كتابه ذائع الصيت «الأطيان والضرائب في القطر المصري»، وكان «جرجس حنين» يعمل مديرًا للأموال المقررة بوزارة المالية المصرية، وخبيرًا في الضرائب والحسابات، وذلك على خطى المصريين المسيحيين الذين لجأوا إلى تعلم الحسابات، وبرعوا فيها، فكانوا أفضل من يعمل بالحسابات في مصر.

ولد صادق حنين في أبريل سنة 1881م بالفيوم، وتعلم في القاهرة، حيث أتم دراسته الثانوية بالمدرسة التوفيقية، وعلى خطى والده تعلم الحسابات والضرائب، وتنقل في العمل بوزارة الزراعة بالأقسام المكلفة بفرض الضرائب وجبايتها والتفتيش المالي ومراجعة الحسابات()، وخلال أواخر سنة 1914 تولى الشؤون المالية والإدارية بالوزارة، وكان أعلى الموظفين المصريين منصبًا().

ويذكر صادق حنين في ذكرياته أن كتابه الذي نشره سنة 1917 تحت عنوان «التعاون في الزراعة» هو خلاصة أفكاره حول موضوع التعاون الذي شغف به، وقرأ الكثير عنه، وألف فيه المحاضرات لطلبة الدبلوم بمدرسة الزراعة العليا، ولا شك أن حنين كان رائدًا في موضوع من الموضوعات الجديدة وهو «التعاون»().

وحينما اندلعت شرارة ثورة 1919 بنفي سعد زغلول وزملائه إلى جزيرة «مالطة» في 8 مارس 1919، كان صادق حنين يعمل في وزارة الزراعة في القسم المالي، وكان أعلى أعضاء لجنة الإشراف على إضراب الموظفين منصبًا، والتي تشكلت كما سبق أن ذكرنا احتجاجًا على ما ذكره وزير الخارجية البريطاني كيرزون، وعقب انتهاء الإضراب، اهتم بترجمة مختارات من الكتب والمقالات الأدبية المعاصرة التي تتناول موضوعات الاستقلال في دوائر الرأي الحر في أوربا()، وذلك بهدف تثقيف شباب الثورة لبث روح الحماس في أوساطهم، ومن هنا يمكن القول بإن صادق حنين كان بمثابة شريان الثقافة للشباب الثائرين، يطلعهم على كل ما هو جديد في عالم الأدب السياسي في أوروبا وينقله إلى العربية للاستفادة منه. 

أزمة حفل استقبال سعد زغلول 1921

لقد كان من بين ما فعله موظفو الحكومة هو إقامة حفل لاستقبال سعد زغلول ورفاقه عقب عودتهم من المنفى في أبريل سنة 1921، إذ تشكلت لجنة من سبعة عشر موظفًا، على رأسهم صادق حنين، من مختلف الوزارات ذُكرت أسماؤهم في الصحف في 22 أبريل 1921، لكن الوزراء في الحكومة أخذوا يضغطون على لجنة الاحتفال ـتارة بالوعد وتارة بالوعيدـ من أجل إلغاء الحفل المزمع إقامته، لكن الموظفون استاءوا من ذلك، وكتبوا عريضة إلى رئيس الوزراء، الذي قابلهم، وبعد مناقشة طويلة أخبرهم «أن الوزارة لا يسعها أن تنظر بعين الرضا، إلى حفلة يكون مغزاها مناصرة رجل سياسي، يجهر بالعداء لحكومة بلاده... فإن لم يعدل أعضاء اللجنة، عن الحفلة ويؤجلوها كانت عليهم مسؤولية عملهم»(). 

إثر المقابلة تخلى عن اللجنة ثمانية من الموظفين، وظل تسعة منهم مستمرين في تنفيذ رغبة زملائهم، وهؤلاء التسعة هم: صادق حنين بك مدير إدارة بوزارة الزراعة، والقاضي أحمد خشبة بك، والقاضي سلامة ميخائيل بك، والأستاذ محمود النقراشي من رجال التعليم، والأستاذ مكرم عبيد من رجال القانون والتعليم، والأستاذ حسين فتوح من رجال التعليم، والدكتور نجيب اسكندر من وزارة الصحة، والأستاذان فؤاد شيرين وزكي جبرة من الإداريين(). لكن من الواضح أن صادق حنين كان أكثر الموظفين تحمسًا للبقاء في اللجنة، وكان هذا التحدي للحكومة يعرض أعضاء اللجنة الذين قرروا البقاء للحرج وربما للتنكيل كما توعدتهم، لهذا أرسل سعد زغلول رسالة إلى صادق حنين بك قال فيها«حضرة صاحب العزة صادق بك حنين، علمت أن الوزارة غضبت من حفل التكريم التي شرعتم مع إخوانكم في إعدادها، ونبهت بالعدول عنها، وأنكم صممتم على عزمكم، رغم تهديدها لكم، فكتبت هذا شاكرًا حسن قصدكم، وجميل صنعكم، راجيًا بكل إلحاح أن تعدلوا عن عزمكم خشية أن تتكدر بسببي، وهو ما يؤلمني ألمًا شديدًا، وأؤكد لكم أن شعوركم المضغوط عليه بتلك السلطة أرقى في نظري من كل شعور آخر، وأنه اذا حجبت القوة مظاهر الترحيب بي فلا تستطيع أن تحجب ما انطوت عليه جوانحكم من عواطف الحب والإكرام التي يشعر قلبي برقتها وتمتلئ نفسى سرورًا بلطفها، وإنني أحيى ذلك الشعور الكامن وأقدم لكم عليه الشكر الوافر والسلام. 

سعد زغلول»().

27 أبريل 1921

ومع رسالة سعد زغلول لصادق حنين التي يطلب منه ومن أعضاء اللجنة العدول عن إقامة الحفل لخشيته من التنكيل بهم من قبل الحكومة، وتشير الوثائق البريطانية إلى أن سعد زغلول ربما يغير من تكتيكاته السياسية، بطلبه من صادق حنين العدول عن إقامة الحفل(). إلا أنه رغم ذلك صممت اللجنة على إقامة الحفل، وأقيم بالفعل في فندق كونتيننتال في 6 مايو بمشاركة سبعمئة موظف حكومي، إضافة إلى مائة مدعو من غير الموظفين، وألقى سعد زغلول خطابًا في هذا الحفل أبدي فيه إعجابه بشعور الموظفين، وقال«إنهم أقاموا هذا الاحتفال وسيوف الإرهاب مُعلقة فوق رؤوسهم، فلم يبالوا بها»(). 

الحكومة وسلطات الاحتلال تنكلان بزعيم الموظفين

وعقب الاحتفال بيومين؛ أي يوم 8 مايو نفذت الحكومة تهديداتها، بإحالة أعضاء اللجنة إلى المحاكمة التأديبية، فأقام لهم زملاؤهم حفل تكريم وتضامن في 31 مايو، وخلال الحفل ألقى صادق حنين خطابًا أكد فيه على «حق الموظفين في تأييد الوفد ورئيسه»، وناقش تصريحات رئيس الوزراء عدلي يكن وفند مدى ضعف حجتها، ونادي بأن الموظفين أحرار في الإعراض عنها، أو الأخذ برأي رئيس الأمة ونصرته، وقوبلت كلماته بموافقة حماسية كما يؤكد فخري عبد النور(). 

وكان لرئاسة صادق حنين لجنة تكريم سعد زغلول أثرها في انفراد الحكومة بالتنكيل به بشكل غير مسبوق، ففي 2 يونيو عقدت محكمة الاستئناف العليا اجتماعًا للنظر في الدعوى التأديبية ضد القاضي سلامة ميخائيل، وأصدرت حكمًا بتبرئته، بينما اجتمع مجلس الوزراء بعد ساعتين فقط من قرار المحكمة، وقرر إحالة صادق حنين إلى التقاعد، وذلك دون انتظار قضية التأديب، ويتساءل فخري عبد النور لماذا اختصت الحكومة صادق حنين بنقمتها دون غيره من زملائه؟ وقد أشار إلى أن هناك سببين: الأول؛ إرهاب الموظفين وردعهم عن المجاهرة برأيهم في القضية القومية متى كان مخالفًا لرأيها، وثانيًا: الانتقام شخصيًّا من صادق حنين لرئاسته لجنة تكريم سعد زغلول، من جهة وانتقاده لرأي رئيس الوزراء وتسفيهه علنا من جهة أخرى(). ومن الجدير بالذكر، أن صادق حنين أعيد إلى الخدمة في أوائل عام 1924 كوكيل للمالية.

وقد توالت أشكال التحدي للحكومة من قبل الموظفين، كرد فعل على اضطهاد رموز الموظفين، وبخاصة صادق حنين، فظهرت مبادرة النزعة الوطنية لتكريم رموز الموظفين، فأقيمت حفلة لتكريمهم والتضامن معهم في 19 يونيو في أرض فضاء أمام «المدرسة السنية» بشارع المبتديان، وذلك من أجل تكريم صادق حنين بك، بمناسبة صدور قرار الحكومة بفصله من العمل، وكان الداعي إلى هذا الحفل 76 موظفًا من القضاء والتعليم والطب والهندسة والإدارة، ونشرت أسماؤهم في جرأة وتحدى غير مسبوق لإرهاب الحكومة(). 

يذكر حنين في مذكراته «وقد عانيت بعد عزلي تضييقًا كبيرًا، إذا حظرت علىٌ السلطة العسكرية البريطانية الخروج من منطقة الزيتون، فضلًا عن حظر الاتصال التليفوني، فلما تراخت بعد ردح من الزمن حدة هذا التضييق، عدت إلى اتصالي بالطبقة الجديدة من الوفد، إلى أن اعتقلت معهم في ثكنة قصر النيل في أوائل 1922، ولكن هذا الاعتقال لم يطل إلا نحو ستة أسابيع فغادرنا الثكنة، كما غادر الرئيس (يقصد سعد زغلول) وسائر صحبه معتقلاتهم في شهر أبريل»().

زعيم الموظفين حرًّا

وعقب دستور 1923 أجريت الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس النواب، واستطاع الوفد تحقيق النجاح في الانتخابات، ورشح صادق حنين نفسه ضمن قائمة ضواحي القاهرة، ونجح في الانتخابات، وبات عضوًا في مجلس النواب. وفى 28 يناير 1924 شكَّل سعد زغلول الحكومة وأصبح رئيسًا للوزراء، ودعا صادق حنين ليصبح وكيلًا للمالية في المجلس الجديد، وأشار عليه زغلول بالتخلي عن منصب النيابة، لتعذر الأخذ بنظام الوكلاء البرلمانين، وحصل حنين في نفس العام على لقب «باشا»(). 

وخلال عام 1925 عين صادق حنين وزيرًا مفوضًا في إسبانيا، ثم في إيطاليا، حتى نهاية سنة 1929، ثم عهدت إليه الحكومة الإشراف على بورصتي الأوراق المالية في القاهرة والإسكندرية، وظل في منصبه إلى أن أوكل إليه إدارة شركة مياه الشرب في القاهرة سنة 1937، وبعد بضع سنوات أصبح عضوًا في مجلس إدارة البنك الأهلي، ثم عضوًا في اللجنة العليا للإئتمان والنقد، وعضوًا في المجلس الاقتصادي إلى أن أحيل إلى التقاعد في عام 1955(). 

وخلال عمله كمفوض في روما شارك كممثل للحكومة المصرية في المؤتمر الاقتصادي الدولي، الذي عقد في جنيف سنة 1927، فأثار في المؤتمر موضوع الامتيازات الأجنبية، في بحث ألقاه بالفرنسية، أوضح فيه كيف أن هذه الامتيازات غلت يد الدولة المصرية في إخضاع الأجانب في مصر للضرائب، وكيف أن هذا الوضع الشاذ للأجانب في مصر ساهم في تعطيل نموها الاقتصادي، ولاشك أن هذا البحث ساهم في تعريف الأوروبيين بمساوئ الامتيازات، مما مهد الطريق إلى إلغائها نهائيًا في مؤتمر مونترو في 8 مايو 1937، واعتبرت صحيفة الأهرام صادق حنين من الرواد الذين لهم اهتمامات بالشؤون الاقتصادية(). 

ولقد استمر صادق حنين مهتمًا بمجال تخصصه ومعرفته في الاقتصاد، فحاضر في جامعة القاهرة سنة 1936، بمعهد الدراسات الاقتصادية بكلية الحقوق، وكانت محاضراته عن «البورصات والاستثمار في الأوراق المالية»، وقد قامت الجامعة بنشر هذه المحاضرات عام 1939، ويرى حنين أن تدريس مثل هذه الموضوعات للمرة الأولى في الجامعة، كان وليد العهد الجديد الذي بزغ بثورة 1919 ().

كما شارك صادق حنين عام 1938 في تأسيس «الاتحاد المصري الدولي»، الذي شارك في تأسيسه عدد من المصريين والأجانب المهتمين بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وكان هذا الاتحاد يهدف إلى «التعاون بين المصريين والأجانب المقيمين في مصر»، واقناع المنشآت الأجنبية بتوظيف الشباب المصري المتعلم والمثقف في هذه المنشآت، حيث كانت البطالة تضرب سوق العمل في ذلك الوقت().

وأخيرًا، فقد كان من أهم أعمال صادق حنين تنظيم وتبويب مذكرات فخري عبد النور، فلولاه ما خرجت إلى النور بهذا الشكل المنسق، فيقول الدكتور يونان لبيب رزق، في تقديمه لمذكرات فخري عبد النور«إذ عكف على تفصيل أبواب هذه المذكرات وتلخيص هوامشها ثم تدوينها على رءوس فصولها والرجوع إليها في يسر دونما عناء».

وجاء في ترجمته بالوثائق البريطانية ـ التي تسببت في مقاضاة أسرته للأرشيف البريطاني إشارات تدل على كراهية السلطات البريطانية له بسبب تزعمه لإضراب الموظفين: 

«صادق حنين، قبطي. ولد في نحو عام 1885. كانت بداية تميزه، عندما كان مسؤولًا ماليًّا صغيرًا في الزقازيق، وتسلل إلى عربة القطار حين َقبل حذاء اللورد إدوارد سيسيل، وتوسل إليه من أجل الحصول على ترقية. وفي عام 1919، وبعد أن وصل إلى منصب عالٍ في وزارة الزراعة، سرعان ما تصور إمكانية الاستفادة من حظوظ زغلول باشا، فكان أحد أبرز المسؤولين عن الإضرابات بين الموظفين الحكوميين. لهذا السبب تم فصله من الخدمة في أثناء حكومة عدلي عام 1921.

استمر ناشطًا سياسيًّا، لكنه تمكن من الهرب من المنفى في سيشيل، من خلال تفاهمه مع السلطات البريطانية بتحديد تحركاته. وفي عام 1922 حصل على إذن للسفر إلى إنجلترا لإلحاق ابنته بالمدرسة، شريطة أنه لا يقوم بأية أنشطة سياسية هناك. وفشل في احترام هذا الاتفاق. وفي عام 1923، منعته السلطات من الخوض في آرائه السياسية إذا أعيد إلى الخدمة الحكومية. ومع هذا، لم يتم إعادته إلى أن تولى زغلول منصبه عام 1924، حينما ولاه منصب وكيل وزارة المالية. كان وزيرًا جيدًا للغاية، لكنه أظهر محاباة للموظفين الأقباط.

تم تعيينه مفوضًا مصريًّا في مدريد في فبراير عام 1925، وذلك من أجل إبراء أحد الإداريين الوفديين البارزين، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الخلاف مع الملك في مسألة الإدارة المالية. وتم نقله بعد ذلك إلى روما لإفساح المجال في مدريد لحسن نشأت باشا. وكان صادق حنين شحيحًا على نفسه في التمتع بسيرة ذاتية سياسية. وقد تم تعيينه في ديسمبر عام 1929. وفي عام 1931 عينه صدقي باشا مفوضًا حكوميًّا في البورصة. وكان عضوًا في البعثة الاقتصادية المصرية إلى المملكة المتحدة، في أبريل 1935، وعضو بمجلس إدارة شركة فنادق مصر العليا، ومدير عام شركة مياه القاهرة.

صادق حنين باشا لديه نزعة إلى التحفظ، وغير جذاب، ولكنه ليس لديه سلوك غير وقور. وطموح لتحقيق نجاح إداري وليس سياسي، ويمتلك قوة وذكاء ملحوظين، ولا سيما في الأمور الاقتصادية، مع قدرة فائقة في تطبيق القرارات. لديه زوجة فرنسية من أصل إيطالي، وابنته متزوجة من السيد شارفيت Charvet، المدير العام لشركة شل في مصر»().

ويذكر رؤوف عباس، في مقدمة كتاب «شخصيات مصرية في عيون أمريكية»، إن السفارة البريطانية في مصر كانت حريصة على رصد الشخصيات البارزة كل ثلاث أو أربع سنوات، وقد أعد السفير البريطاني في القاهرة تقريرًا جامعًا ضم أكثر من مئة ترجمة لشخصيات سياسية مصرية عند أواخر الثلاثينيات، ونشرت صحيفة «الأهرام» عددًا منها في منتصف الستينيات، وتسبب ذلك النشرـ الذي تم بعد الإفراج عن الوثائق في تعديل وزارة الخارجية البريطانية لمدة سرية تقارير التراجم، لتصبح خمسين عامًا، إذ تضمن ما تم نشره بالأهرام من ترجمة «صادق حنين باشا» ما يسيء للرجل الذي كان على رأس منظمي إضراب الموظفين في 2 أبريل 1919، إذ وصمه التقرير بالانتهازية وفقدان الكرامة، وهو ما دفع أسرته إلى مقاضاة الخارجية البريطانية أمام المحاكم البريطانية ذاتها، وحصلوا على حكم لصالحهم، مما اضطر الخارجية إلى مد الحظر على التراجم إلى خمسين عامًا().

والخلاصة أن دور الموظفين خلال ثورة 1919 كان دورًا فاعلًا ومؤثرًا للغاية في إحراج الحكومات المتعاقبة في أثناء الثورة، وكان ملهبًا للجماهير المختلفة وملهمًا لها للاستمرار في التظاهر والإضراب حتى تحقق المطالب الوطنية.

هذه الدراسة أثبتت أن الدور الأكثر تأثيرًا وفاعليه لإضراب الموظفين خلال ثورة 1919، هو ذلك الدور الذي لعبه الموظفون في تحطيم أسطورة «الآلة الإدارية» أو «دولاب العمل» المنتظم المنضبط في ظل الاحتلال البريطاني لمصر. وكان صادق حنين بمثابة زعيمًا مصريًا قاد الموظفين إلى تحقيق غايتهم من الإضراب والتظاهر، وهو إحراج الحكومة المصرية والسلطات البريطانية بالتبعية وإظهارهما بمظهر «الرأس» الذي لا يستطيع التحكم في جسد الجهاز الإداري عندما تكون نقطة الخلاف قضية وطنية وقومية غايتها المطالبة بالاستقلال.

وعليه يمكن القول إن ثورة 1919 تحتاج إلى إعادة قراءة لدور الفئات والشرائح المختلفة من المجتمع المصري، وفق مكانها وسط السياسات التي حدد معالمها المحتل البريطاني، وطرح الأسئلة حول كل شريحة أو فئة من المجتمع المصري وأسباب مشاركتها في تلك الثورة، في سياق الأطر والسياسات التي رسمها المحتل لكل فئة أو شريحة وإظهار مدى تباين هذه السياسات مع الدوافع الوطنية، والمطالب الفئوية، أو حتى المصالح الشخصية.