هوامش

خالد يوسف

مونديال روسيا 2018 موسم صنع السرديات

2018.11.01

مونديال روسيا 2018 موسم صنع السرديات

منطقة  جادة فيرفاكس محيرة كبقية لوس آنجلس. كحال وسط المدينة، كسولة صباحًا، ومتوهجة مساءً، وقلقة فجرًا بسبب نشاط مركز الإطفاء الرئيسي المجاور لمراكزها التجارية وفنادقها الرئيسية. هدوء لا يقطعه سوى صافرات الإنذار القادمة من الشارع، وهمهمات العلاقات الحميمية للعشاق من السياح والآتية من الغرف المجاورة. ليس بالجو المثالي الذي يمكنه أن يصاحب خسارة مصر لمباراتها الأولى في كأس العالم أمام أورجواي في الدقيقة الأخيرة. الهروب من أجواء الفندق الخانقة إلى قهوة الصباح لا يساعد كثيرًا وسط جمهور لا يكترث إطلاقًا لكرة القدم، برفقة الزبائن من المحامين اليهود الأرثوذوكس، أو الباحثين عن الجديد في عالم ملابس الهيب هوب التي عرفت انطلاقتها الأهم في منطقة فيرفاكس في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بالساحل الأمريكي الغربي.

الخسارة في مباريات كرة القدم وتحديدًا في كأس العالم تترك صاحبها وفي داخله حالة فراغ لا يمكن ملؤه إلا بمتابعة المزيد من المباريات، ومن ثم احتمالية التعرض لهزيمة مجددة وإنعاش حالة الفراغ من جديد. دائرة مغلقة صاحبت كاتب هذه السطور خصوصًا في علاقته بالمنتخب المصري منذ التجربة (أو الهزيمة الأولى) 3- 5 أمام زامبيا بمناسبة اليوبيل الفضي للاتحاد الأفريقي، كطفل صغير من أبناء الجالية المصرية في الدمام السعودية، مرورًا بالبقاء وحيدًا في غرفة المعيشة في الوطن باكيًا أمام المغرب في تصفيات مونديال 86، والخسارة في استاد القاهرة أمام تونس في مباراة التأهل الفاشل إلى أولمبياد سول 1987، وتجرع المرارة في مقاهي مصر الجديدة أمام زيمبابوي 1993، أو تعلم اللامبالاة أمام زامبيا مجددًا في أمم أفريقيا 1996، أو اكتساب النزعة التهكمية في الخماسية أمام السعودية في كأس القارات 1999، أو المكوث صامتًا في مطعم بيتزا مصرية وسط مدريد بعد الخسارة أمام أمريكا بثلاثية نظيفة في كأس القارات 2009 (في وقت كنا بحاجة فقط للخسارة بهدفين للتأهل إلى نصف النهائي).

سرديات الندم

أفضل ما يمكن أن توفره مباريات المنتخبات المصرية لكرة القدم على مدار تاريخها هو التفسير المحلي لها، أو ما يمكن أن نسميه بالسردية المصرية لتفسير الانتصارات والانكسارات. ولعل كأس العالم نفسه يمثل الفرصة الأفضل لتقديم السرديات ليس فقط في نسختها المصرية، ولكن في البانوراما الأوسع عالميًّا، سواء من تلك النوعية المعتادة بأن «كرة أمريكا الجنوبية تخلت عن هويتها أمام نظيرتها الأوروبية»، و«نهاية النجم الأوحد أمام جماعية الأداء»، و«المنتخبات القوية وراءها اقتصاد صلب»، و«صنع منتخب يصل إلى نصف النهائي يتطلب عمل 10 سنوات»، و«اللاعب الأفريقي هش ذهنيًّا»، و«الاعتماد على اللاعبين المحليين يصنع منتخبات قوية على خلاف الاعتماد على كوكتيل اللاعبين المحترفين». أو الخروج بسرديات جديدة مثل التي خرج بها دييجو توريس الكاتب المثير للجدل في صحيفة إل باييس الإسبانية بأنه «من الصعب لعب كرة القدم وسط الحطام، لماذا تطالبون أمريكا الجنوبية بأن تلعب جيدًا وسط  تدهور كبير في نظامها التعليمي أو نظامها الصحي، وطبقة متوسطة تدفع فواتير فساد نخبتها؟».

طالما كان كأس العالم في خطوطه العريضة بالنسبة للبعض أشبه بخطاب «حال الأمة» المعتاد في المشهد السياسي الأمريكي؛ يمثل المسرح المثالي لإطلاق السردية النهائية الخاصة بالإنجاز أو الفشل، وكأنها اختبار ورقة عباد الشمس للمزاج العام، والنجاعة الإدارية، وحجم المواهب، والسلطة الرقابية الخاصة بمجتمع ما، وهي بالنسبة للبعض كشف حال لأصحاب تضخم الذات القومية، وعشاق جلد الذات، ومحبي التهكم. إنه الموسم المثالي لهواة السرديات كافة.

ربما كانت سرديات الخروج المصري أكثر تسلية، ولكنها ليست الأكثر أهمية، بل يمكن اعتبارها مغرقة في ضحالتها مقارنة ببحر السرديات التي حفل بها مونديال روسيا 2018. في مقدمتها ما عبر عنه الكاتب البريطاني ستيف بلومفيلد في مقالته بصحيفة الجارديان بأن المنتخب الإنجليزي بتركيبته الحالية  يخص الـ48٪ الذين صوتوا ضد البيريكست أو استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو الخليط المعبر عن تنوع المجتمع البريطاني؛ منتخب البلد الذي تجنب كل أمراضه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، خصوصًا مع وجود 11 لاعبًا من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين. الحال نفسه بالنسبة لسردية المنتخب البلجيكي بتنوعه الثقافي الكاسح مقارنة بمنتخب البلد نفسه في مونديال 1986، الذي عرف أفضل إنجاز في تاريخ الكرة البلجيكية، ووقتها لم تكن تشكيلته الأساسية تعرف سوى ابن مهاجر إيطالي مثل إنزو شيفو.

السردية نفسها التي حاول معها الحزب الشيوعي البرازيلي الترويج لنفسه سياسيًّا ولرؤية برازيل من نوع مختلف في أعقاب فوضى المشهد السياسي، بصنع قمصان للمنتخب البرازيلي مصحوبة بشعار الحزب ومطرقة ومنجل على الصدر، مع تغيير اللون الأصفر إلى لون أحمر مبهج. إنها السردية التي يراها قطاع من اليسار البرازيلي في مرحلة حيرة سياسية صارخة، تتناغم مع السردية التي أبرزها العديد من كتاب علم الاجتماع البرازيليين أن منتخبهم الوطني الحالي أبرز إعلان عن دور السيدات اللائي يعُلن عائلات بمفردهن، كظاهرة كاسحة للمجتمع البرازيلي اقتصاديًّا واجتماعيًّا خلال العقدين الماضيين، ويتجلى هذا في الخلفية الاجتماعية والعائلية لأبرز لاعبي المنتخب البرازيلي الحالي، فيما يمكن تسميته تقديم «سردية طبقية» لواحد من أهم المنتخبات العالمية.

قدمت السردية نفسها كأس العالم باعتبارها أبرز حدث قومي عاشه الروس خلال العقد الماضي، إلى الحد الذي صرف أنظار الناخبين عن بروباجاندا نظام بوتين نفسه، بفقده ما يقرب من 12 نقطة كاملة في استطلاعات الرأي، فيما يتعلق بنسبة قبوله الشعبي، على الرغم من اكتساحه هذه الاستطلاعات قبل انطلاق المونديال. السرديات نفسها صاحبت خروج المنتخب الألماني حامل اللقب من الدور الأول، وتتعلق بتشتت أذهان نجوم الفريق، في مقدمتهم مسعود أوزيل ذي الأصول التركية، والذي تفرغ حسب الأصوات الألمانية المحافظة بالتقاط الصور مع رجب طيب أردوجان (في سردية موازية للانتقادات التي صاحبت صور محمد صلاح برفقة رمضان قديروف).

سرديات الخروج المصري لا يمكن مقارنة جديتها مثلاً بالسرديات التي صاحبت خروج المنتخب الإسباني خالي الوفاض من المونديال، والتي وضعت اللوم على عاتق لويس روبياليس الرئيس الشاب والجديد للاتحاد الإسباني، والذي يتمتع بخلفية نقابية وميل يساري من الصعب إنكاره. وكان دافعه الأساسي لاتخاذ قرار طرد المدير الفني للمنتخب جوليان لوبيتيجي قبل المباراة الأولى أمام البرتغال، على خلفية إعلان تعاقد الأخير مع نادي ريال مدريد، وذلك دون علم الاتحاد الإسباني، وهو وما اعتبره روبياليس إهانة «للعمال والموظفين» في الاتحاد الملكي. ليضع رئيس الاتحاد نفسه قربانًا لسردية الخروج، وهو الذي أتى على عرش إدارة اللعبة بسياسة تقشفية لمحاربة الفساد الذي غرق فيه مجلس الإدارة السابق لروبياليس، برئاسة ميجيل أنخيل فيار.

إنها واحدة من السرديات التي أطلقها كأس العالم في نسختها الحالية، والتي تقف جنبًا إلى جنب مع سردية التطور التي عرفتها الكرة السويسرية على الجيل الثاني من لاجئي حرب البلقان، أو الوجود الطاغي لعشاق الكرة من السيدات الإيرانيات اللائي اقتحمن ملعب أزادي في طهران لمتابعة مباريات المنتخب الوطني عبر الشاشات العملاقة، في أول وجود للسيدات في المدرجات الإيرانية منذ الثورة الإسلامية. السرديات نفسها التي تحاول النخبة السعودية إيصالها عبر إعلانات مكادونالدز المساندة للمنتخب السعودي بصحبة فتيات، في ما يشبه لحن مصاحب للترويج لعصر جديد، بجماليات من نوع مختلف.

السرديات نفسها طالبت بالوقوف دقيقة حدادًا على شاشة التلفاز الأرجنتيني حزنًا على حال المنتخب الأرجنتيني، في مناقشة علنية جماهيرية للانهيار الذي تعيشه كرة القدم المحلية وفسادها الدولي. وهو المشهد الذي يعيش مفارقة أن رئيس البلاد ماوريسيو ماكري صعد إلى الوعي الشعبي منذ منتصف التسعينيات كونه رئيسًا لنادي بوكا جونيورز الأرجنتيني. المقاومة نفسها التي أظهرها لاعبو ومدربو المنتخب السويدي في سردية لوم زميلهم جيمي دورماز ذي الأصول التركية، والمتعرض لهجوم عنصري شرس عقب تسببه بشكل غير مباشر في اللعبة التي فاز بها المنتخب الألماني على نظيره السويدي في الدقيقة الأخيرة، في ما يمكن اعتباره سردية مضادة للمعضلة التي تعيشها كرة القدم الأوروبية فيما يتعلق بتنوعها العرقي.

زمن الكليشيهات الجميل

ما يزيد عن ١٠ ساعات في لوس آنجلس تتيح للمشجع المصري النظر إلى ما يحدث في المونديال على مستوى المشهد المصري وكأنه ينظر إلى مصر باعتبارها من الماضي، شيئًا حدث بالفعل، شريط   VHSيمكن أن نعيد أحداثه للوراء، بعيدًا عن هيستيريا اللحظة، حيث يمكن النظر إلى سردية الخروج المصرية كما هي، دون الوقوع في فخ تفاصيلها المثيرة للشفقة. سردية تجمع في مجملها مفارقة تضخم الذات وجلد الذات معًا، ولا بأس بالجرعة المعتادة من مقادير التوهم والانفصال عن الواقع؛ مزيج من الصعب جمعه معًا في كأس واحد من الشعبوية والديماجوجية والنخبوية في إنجاز نادر. وإن كانت الملاحظة الأهم أن الخطاب السردي المصري أصبح معتمدًا بشكل كاسح على مجموعة من كلاسيكات الكليشيهات المحفوظة أو ما يتم تسميته عادة بأرشيف الأسطوانات المشروخة المصرية.

إنها ثنائية كليشيه أن مصر لا تستحق ذلك المنتخب لأنها «بلد كبير»، دون تقديم تفسير واضح لماذا لا يمكن لذلك البلد الكبير أن يقدم ظهيري جنب يمكنهما رفع الكرات على نحو «مقبول». وتتجاور كليشيهات الريادة والسيادة مع حفلات جلد الذات المرددة لجملة «أننا أسوأ منتخب في المونديال» وأننا لا نستحق الوجود أو لعب الكرة؛ كليشيهات «النتائج التي تسيء لمصر»، أو «المحاسبة على إهدار المال العام» التي تتبناها النخبة السياسية المصرية، في شعبوية من النوع الرديء، يبدو معها المشهد وكأن بلدًا بأكمله يعيش مرحلة نوستالجيا لشعبوية مبارك الثمانينيات والتسعينيات (إقالة محمود الجوهري الأولى عام 1990 جاءت بتوصيات من مجلس الشعب تتعلق بإهدار العام، وبالإساءة لصورة مصر عقب الخسارة «وديًّا» أمام اليونان 1- 6).

 سرديات الملل

وهي السرديات المخلوطة بالتعامل مع (الجمهور ـ الزبون - المستهلك ) المصري باعتباره قاصرًا (سيتأثر سلبًا بمشهد مسلسل رمضاني سيهدم أواصر مجتمعه حسب تقارير رسمية)، ومشوار منتخبه في كأس العالم سيتعرض للـ»نجاسة» بسبب زيارة وفد للفنانين، أو تسيطر عليه المجاملات بسبب الميل لقبيلتي الأهلي والزمالك، أو بسبب الطريقة الدفاعية الصارمة لمديره الفني الأرجنتيني هكتور كوبر، والذي تمت تسميته بالنصاب من قبل الخطاب الكروي الشعبي المصري عقب الخسارة من السعودية على وجه التحديد.

لا يمكن فصل السرديات المصرية التي صاحبت خروج المنتخب المصري من كأس العالم صفر النقاط عن سردية الغضب الذي رافق تصوير صحيفة الدستور للاعبي المنتخب على هيئة أيقونات الفيوم الشهيرة، أو اللوم الذي وجهه خالد منتصر لرفض محمد الشناوي جائزة أحسن لاعب في مباراة أورجواي لأنها مقدمة من منتج عالمي للكحوليات، بالإضافة إلى حجم الكعكة الإعلانية التي رافقت كل محاولات تسليع المشاركة المصرية في المونديال. لا يمكن فصل هذا عما ذكره «أسد الصحافة المصرية» في مقال له بموقع مصراوي مستخدمًا الكليشيهات المعتادة في وصف الفشل المصري بنغمة الإدارة السيئة، من زاوية أن كرة القدم «أضحت علمًا»، وهو ما يكشف مدى ضحالة فهم النخب المصرية لكرة القدم والجهل التام بمفهوم العلم من الأساس.

قبل الخروج بنتائج شاملة جامعة للخروج المصري، يجب تأمل تفرد السرديات المصرية بمزيج معجز من الديماجوجية والتعالي النخبوي، وقدر لا بأس به من ضحالة الطرح كما أفرد كاتب مصري بالقول في إحدى تغريداته «يا مصريين افهموا… بلدكم لم تعرف هدافين عالميين حقيقيين، إلا نجيب محفوظ، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، ومحمد غنيم، وقلة من أمثالهم». من الصعب تحديد سردية واحدة نهائية تتعلق بنتائج المشاركة المصرية في روسيا، خصوصًا وسط العجز الكامل لتفسير الماضي في المقام الأول، فالسردية المصرية (حتى في ظل نهجها النقدي المعارض) قادرة بشكل مثير للحسد على صنع أوهامها الخاصة، إلى جانب قدرتها النادرة على الانفصال عن الواقع، فهي تطالب برحيل اتحاد الكرة الحالي أو استقالته، دون أي تأمل للواقع الهيكلي، تنظيميًّا وماليًّا وسياسيًّا لذلك الكيان المسمى باتحاد اللعبة، والمعتمد على جمعية عمومية تخدم مصالحها على طول الخط. مجموعة دوائر مغلقة مع الأسماء، التي تجعل من عملية التحديث مجرد مسار عبثي، فهي مجموعات من توازنات القوى التي تضمن تحقيق أهداف مرحلية لمجالس إدارات أندية ترغب في بقاء الوقع الراهن كما هو، لا تجد في تضارب المصالح بوجود تلك الأسماء أي مشكلة مبدئية على الإطلاق، ولا تجد مشكلة إطلاقًا في أن يوجد عضو مجلس إدارة اتحاد كنجم إعلاني، ووجه إعلامي، ومحلل مباريات، ومعلق تليفزيوني، ومرافق شبه دائم لأكبر مسؤول رياضي خاص بالمنتخب الذي يمثل أحد المنافسين المباشرين للمنخب المصري في مجموعته بكأس العالم.

ما بعد الكرب

يبدو أن أزمة السردية المصرية (حتى في عقليتها النقدية) وقعت في الفخ نفسه بأن «الوضع الراهن» هو وضع طبيعي يمكن التعايش معه. فالقراءة تبدو معكوسة تمامًا بقدرة الفريق المصري بتشكيلته الحالية على المنافسة على الصعود إلى الدور الثاني، في وقت لا يدرك فيه الجميع أن الصعود في ظل الوقع الراهن كان أشبه بالمعجزة. وتبدو معجزة السردية المصرية لتفسير الخروج موهوبة تمامًا في نسج عالم طبيعي غير موجود بأي حال، في وقت تغيب فيه الجماهير تمامًا عن المدرجات المحلية لقرابة خمس سنوات كاملة، وهو الأمر الكفيل «بطبيعة الحال» بالقضاء على جيل كامل من اللاعبين على المستوى المعنوي. السردية المصرية تتعامل مع الوضع الحالي باعتباره طبيعيًّا دون إدراك أن الوعي الجمعي المصري (خصوصًا في كرة القدم) يعيش في حالة «كرب ما بعد الصدمة» منذ واقعة بورسعيد في فبراير 2012، ومن بعدها ملعب الدفاع الجوي. واقعتان في أي سياق منطقي يرسمان واقعًا جديدًا على الأرض، على عدة مستويات، ليس أعقدها الجانب الاقتصادي، وليس أبسطها ما هو أخلاقي أو معنوي. الوعي المصري الجمعي غير مدرك أن بورسعيد والدفاع الجوي أسهما في صنع محمد صلاح أو النني أو تريزجيه أو عمرو وردة، وبقية الجيل الحالي من اللاعبين المصريين.

على الرغم من أن هذا السردية المصرية تواصل إنكارها للواقع باعتبار أن هناك نشاط حقيقي للعبة في مصر، فهناك حقوق تلفزيونية ورعاية وإعلانات وكعكة إعلانية وإعلامية، وقنوات متخصصة في كرة القدم، ومتاجر رسمية لبضائع وسلع الأندية، في سياق عام مسابقته الوطنية أشبه بحوض السمك، وعليك فقط النظر إليه دون لمسه، بالمنطق التسليعي الكلاسيكي فمنتج لا يمكن أن يجبرك على إكمال ربع ساعة من أصل 90 دقيقة في أي مباراة،  تستحوذ أخبار الصفقات والخلافات والتعقيدات التكتيكية والإصابات الخاصة به على كل حجم التغطية الإعلامية، وفي الوقت الذي حسم فيه بطل المسابقة الموسم قبل النهاية بشهر كامل، وبفارق يقارب الـ30 نقطة كاملة عن منافسه التاريخي.

السردية المصرية، خصوصًا الرياضية منها، غافلة تمامًا عن أن المنتخب المصري الحالي وصل إلى كأس العالم في واقع يومي لا يتوقف فيه رئيس ثاني أكثر الأندية شعبية عن تكرار الكلام عن تأثير الجان على نتائج فريقه، فيما يتم اتهام مجلس إدارة النادي الأكثر شعبية بأنه يزاحم عمال النادي في المكافآت التي تبرع بها أحد الرعاة الجدد. في الوقت الذي يتم فيه اتهام عضو مجلس إدارة الاتحاد بالاستحواذ على ملابس المنتخب من المخازن، أو بالاستفادة من السوق السوداء في بيع التذاكر للجمهور العادي في كأس العالم. وهو السياق نفسه الذي يتعايش في سلام تام مع اتهامات مجاملات اختيار الحكام والمنشطات على مدار السنوات الأخيرة.

بين الوطن والبزنس

يبدو عجز السردية المصرية في تفسير الخروج المصري متعاظمًا في إغفال تفسيره لما يسمى بالرأسمالية المصرية، وهي التي تقوم بسلخ الأضحية قبل ذبحها (على طريقة شخصية بوحة)، حيث تعمل شركة بريزنتيشن بمنطق احتكاري كلاسيكي لمسابقة بلا أي مصداقية في المقام الأول. في الوقت الذي يسبح فيه المنتخب في عقود للرعاية بمنطق «وطني»، بشكل يصعب معه معرفة متى ينتهي الوطن ويبدأ البزنس. وهو واقع يمكنه أن يعصف بحقوق الصورة الخاصة باللاعبين، وتغطيات حصرية لواقع فوضوي لمعسكر الفريق في سان بطرسبرج، تم تقديم مبالغ مغرية في سبيل الحصول عليه. إنها الرأسمالية المصرية في مفهومها الأصيل عن أكل العيش والخلاص الشخصي، وانتهاز الفرصة الوحيدة. ذلك الغلاف الأنيق لمنتج من الهواء. إنها الرأسمالية العاجزة عن تأمل دخول نادي بيراميدز أو الأهرام إلى «سوق الكرة المصري»، بطابع كاسح معلنًا عن رغبته في الوجود على الساحة، إلى الحد الذي أصدر معه أغنية للفريق تعبر عن «تاريخه»! وإنشاء ألتراس يطبقون منهجًا جديدًا في التشجيع الحماسي «أكثر تهذيبًا»، وبالتعاقد مع لاعبين يسحبون جزءًا من سطوتي الأهلي والزمالك.

السردية المصرية تبدو مبهرة في تعاطيها مع الرأسمالية المصرية، وتطبيعها الكامل مع مشهد سيكون مقبلاً على تغيير جذري في طبيعته هيكليًّا وتمويليًّا وثقافيًّا، وعلى مستوى العقود وحقوق اللاعبين تعاقديًّا، ليتم الاكتفاء بذكر أن ما يحدث هو أمر إيجابي لأنه سيقوم «بضخ الأموال في الكرة المصرية». وهي سردية بالغة الضحالة مقارنة بالتغييرات الجذرية التي تعيشها كرة القدم الفرنسية على سبيل المثال؛ بالوجود الكاسح لباريس سان جيرمان، حتى في ظل تماسك الوضع الهيكلي في فرنسا محليًّا، وحتى على المستوى النقابي وروابط اللاعبين، وهو ما يفتقده الواقع الكروي المصري تمامًا.

السردية المصرية التي تابعت خروج المنتخب المصري من كأس العالم بصفر من النقاط؛ نجحت تمامًا في إهدار فرصة ذهبية لتشكيل قراءة جديدة لواقع النشاط العام الوحيد الذي ينال اهتمام المصريين في الوقت الحالي، والذي يدخل في حيز الملكية العامة بكل جوانبه، لتنتقل تلك السردية من عجز التأثير، إلى حتى عجز التأمل، لتصبح فيه، ولمدة أسبوع كامل، تورتة مقدمة البرامج بوسي شلبي التي أحضرتها بمناسبة عيد ميلاد نجم الفريق محمد صلاح مرجعًا مهمًا لسرد انتكاسة الفريق، ليس فقط في عجز واضح عن التفسير، ولكن في عجز مماثل عن حتى تحديد المكان والزمان الذي تم فيه التقاط الصورة، وهي المأساة الملهاة النهائية التي تزين بها السردية المصرية تحليلها النهائي.