هموم
محمد فتحي خضرنتحدى نطاق الاختيارات المحدودة
2021.01.01
نتحدى نطاق الاختيارات المحدودة
لو طُلب مني المشاركة في هذا الملف منذ ثمانية أشهر لما اختلف محتواه كثيرًا عن اليوم، باستثناء إضافة التأثيرات السلبية التي خَلَّفتها أزمة فيروس كورونا على سوق النشر والترجمة، والضبابية الشديدة التي تكتنف المشهد الحالي والمستقبلي، والتخبط، ومحاولة ابتكار حلول وطرائق بديلة لتخفيف وقع هذه الأزمة.
يواجه المترجم في عمله الكثير من التحديات، والعجيب في الأمر أن بعض أنواع التحديات تكون مُشبِعة ويسعد بها المترجم، وأعني تحديدًا التحديات الفنية، كأن يخوض المترجم مجالاً جديدًا عليه، أو يصادف نَصًّا قويًّا يستنفره ويخرج منه أفضل ما لديه. ومع الإقرار بحقيقة أن المترجم إنسان، وله احتياجات مادية، ويسعى إلى العثور على أفضل مقابل لعمله، فإذا نحينا العنصر المادي جانبًا، سنجد أن السبب الأساسي الذي يدفع المترجم إلى امتهان الترجمة هو حبه للقراءة والترجمة، ورغبته في نقل ما يقرأ ويستمتع به إلى الغير.
أقرب مجالات الترجمة إليَّ هي الثقافة العلمية، وبكل أسف لا يحصل هذا المجال على ما يستحق من الاهتمام. وفي ظل الهيمنة الطاغية لترجمة الروايات على المشهد، ثم كتب التنمية الذاتية، صار النطاق المتاح أضيق وأضيق، إلى درجة أنه توجد دور تقتصر في إصداراتها على الروايات وحسب، وهذا أمر مفهوم نظرًا إلى الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها هذا النوع، ورغبة دور النشر في تحقيق أفضل مبيعات ممكنة، لأنها في نهاية المطاف مشروعات هادفة للربح، لكن في النهاية أرى أن أنجح دور النشر هي تلك التي تتحرى التنوع في إصداراتها، ولا تقتصر على نوعية واحدة من النصوص.
يتمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه المترجم في اختيار العمل الذي يترجمه. فكثيرًا ما يكون نطاق الاختيار محدودًا، وفي أحسن الأحوال ليس في إمكان المترجم العمل إلا على كتاب واحد أو كتابين على الأكثر في الوقت نفسه، وعادة ما يكون لدى الناشر تصور مسبق عن نوعية الكتب التي يرى أنك، كمترجم، ستؤدي فيها بشكل طيب، وهكذا تجد نفسك أحيانًا أسير نوعية محددة من الكتب. وقد يحدث أحيانًا أن تكتشف أن ثمة عملاً كان من المناسب لك أن تترجمه ولكن بسبب الصورة المسبقة المأخوذة عنك فضل الناشر منحه إلى مترجم آخر.
وإذا قررت، كمترجم، أن تتحلى بالإيجابية واقترحت أنت عملاً تراه جديرًا بالترجمة على دار للنشر، قد تُفاجأ حينها بأن وجهة نظرك، كقارئ ومترجم، غالبًا ما تكون بعيدة عن حسابات صناعة النشر وحركة البيع والشراء، وكثيرًا ما يأتيك رد مهذب مفاده أن الكتاب المقترح قيم ولكن ببساطة الدار ليست مهتمة بهذه النوعية من الكتب.
وهناك بالطبع التحديات التي تواجهه المترجم عند التعامل مع جهات حكومية، والتي تتلخص في كونها، بحكم التعريف، حكومية، مثل التأخير في الطباعة والنشر وسداد المستحقات، وهو ما يصيب المترجم بالإحباط أحيانًا، ويدفعه إلى الإحجام عن التعامل معها.
على صعيد الحلول، لا أعتقد أن الحل عمومًا هو زيادة تدخل الدولة في عملية الترجمة والنشر بصورة مباشرة، اللهم إلا في حالة الأعمال التي قد لا تعود بالربح على الناشر الخاص، وأرى أن الحل يكمن في فتح المجال أمام دور النشر والمبادرات الخاصة والمشروعات المستقلة والناشئة عن طريق تخفيض الرسوم والضرائب المفروضة على هذه الصناعة وتسهيل إقامة معارض الكتب وما إلى ذلك من آليات. ولعل أفضل دور تستطيع الدولة - بل وواجب عليها - القيام به هو مكافحة تزوير الكتاب، المترجَم وغيره، نظرًا إلى أن الخسائر المترتبة على هذا التزوير تسبب ضررًا فادحًا لدور النشر وتجعلها في سباق دائم للحد من الخسائر بدلاً من التفكير في التوسع. وفي ضوء التطورات الأخيرة ربما تصير هذه مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى بعض دور النشر.
هناك نقاط مضيئة متمثلة في حرص بعض دور النشر على تنويع إصداراتها، ومنح المترجم قدرًا من الحرية أحيانًا في اختيار الأعمال، حسب مقتضيات سياسة النشر بالطبع، وهذا أمر مهم للغاية إذا كان لديك خطة، ولو عامة، لشكل ونوعية الأعمال التي تحب أن تحمل اسمك كمترجم، وأعتقد أن كل مترجم لديه خطة كهذه حتى لو لم تكن معالمها واضحة، لأنه في نهاية المطاف، وبعد انتهاء مهمة الترجمة وحصولك على المقابل وإنفاقه، على الفور غالبًا، فإن كل ما سيتبقى هو العمل الذي يحمل اسمك.
لا أحب اختتام كلامي بتوجيه «نصائح» أو توصيات، ولكن أرى أن على المترجم التحلي باليقظة على الدوام، وأن يتحرى التوفيق بين مقتضيات سوق النشر والترجمة من جهة، وطموحه الشخصي وأحلامه من جهة أخرى، وأن يعمل بصورة مستمرة على إذكاء الحماسة داخله وعدم السماح للظروف الضبابية أو غير المواتية بأن تطفئ طموحه، وهي مهمة تزداد مشقة يومًا بعد يوم.