ذخائر

إبراهيم عامر

نجيب محفوظ سياسيًّا.. من ثورة 1919 إلى يونيو 1967

2019.12.01

نجيب محفوظ سياسيًّا.. من ثورة 1919 إلى يونيو 1967

قالت سوسن حماد لأحمد ابراهيم شوكت بلهجة ذات معنى:

-..المقالة صريحة ومباشرة ولذلك فهي خطيرة.. أما القصة فذات حيل لا حصر لها إنها فن ماكر...

هذه العبارة، التي وردت على لسان إحدى شخصيات «السكرية» وهي شخصية فتاة ذات فكر تقدمي مدان وابنة عامل مطبعة مجلة «الإنسان الجديد». تبدو لي وكأنها الدستور الذي التزمه نجيب محفوظ منذ بدأ يكتب، معبرًا عن آرائه وأفكاره ومواقفه من الحياة والناس وأحداث الوطن.

وأتاح له استخدام الأسلوب القصصي -سواء في شكل رواية طويلة أو قصة قصيرة أو مسرحية- ما لعله لم يتح لكاتب آخر من التعبير عن كل آرائه، طوال نحو ربع قرن، منذ المجموعة القصصية الأولى التي نشرها عام 1938، تجاه أخطر الأحداث والقضايا التي عرضت لمجتمعنا منذ قبيل ثورة 1919 حتى ما بعد نكسة يونيو 1967

النساء والسياسة

وربما لم تتح لي من قبل فرصة مثل تلك التي أتيحت لي وأنا أعد العدة لكتابة هذا الرأي لكي أقرأ كل أعمال نجيب محفوظ المنشورة -عدا «أولاد حارتنا» التي لم تتضمنها المجموعة الصادرة من «مكتبة مصر»- دفعة واحدة لكي أتابع عبرها جميعًا خط تطوره الفكري، ولكي استشف منها المحور الرئيسي الذي تدور حوله، إذا كان هناك مثل هذا المحور.

وأستطيع أن أقول -دون خطر الوقوع في خطأ جسيم- إن المحور الرئيسي، الذي تدور حوله قصص وروايات نجيب محفوظ، موضوعان أساسيان: النساء والسياسة.

النساء حبًا وعشقًا ومعاشرةً وزواجًا وغزلاً وطلاقًا وأحلامًا وأشواقًا وشبقًا وخضوعًا وتحررًا وأزهارًا فوق «كوشات» الأفراح وفوق القبور.

لكن ليس النساء في قصص نجيب محفوظ موضوع هذا الرأي. وإنما أحاول هنا أن أقول رأيًا في كيف عالج الموضوع الثاني: السياسة. وبصورة خاصة كيف عالج تطور حركة مصر القومية على مدى ما يزيد على نصف قرن.

وأود، منذ البداية، أن أفرق هنا، ولأسباب تتصل بمنهجية معالجة هذا الرأي..بين القضايا السياسية التي عالجها نجيب محفوظ بصورة مباشرة وصريحة، والسياسة التي عالجها بصورة غير مباشرة، ورمزية أحيانًا، عند تعرضه لانفعالات وأفكار وآراء وتصرفات تقع دائمًا في خلفية الحدث والقضية السياسية، فتنم عن معالجة له وإن لم تفصح تمامًا عن ذلك.

وفي تصوري أن نجيب محفوظ كاتب سياسي بالدرجة الأولى، له رأي واضح ومحدد تاريخيًا، وله موقف متماسك ومستمر اجتماعيًا، وله نظرة شاملة فكريًا، مهما بدا كل هذا مسربلاً أحيانًا في حيل القصة التي لا حصر لها، وفي ثنايا فنها الماكر.

ولعل بداية معالجة نجيب محفوظ للقضايا السياسية والوطنية بصورة مباشرة نجدها في ثلاثيته المشهورة «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية»، وهي تعالج السياسة طوال فترة تكاد تمتد من الحرب العالمية الأولى وثورة 1919 إلى حادث 4 فبراير 1942 تقريبًا. ثم لعل أهم قصصه التي عالج السياسة فيها بعد ذلك هي: «السمان والخريف» - «ثرثرة فوق النيل» - «ميرامار»، وقد عالج فيها قضايا ثورة 23 يوليو. ثم هناك مجموعة القصص والمسرحيات التي كتبها «في الفترة بين أكتوبر وديسمبر 1967»، أي بعد نكسة يونيو مباشرة، وصدرت بعنوان «تحت المظلة». وذلك بالإضافة إلى «خان الخليلي» و«زقاق المدق» وهما روايتان تعالجان قضايا الحياة والناس في ظل الحرب العالمية الثانية.

وإذا كنت أقول بإن هذه الأعمال هي أبرز ما يعالج فيها نجيب محفوظ القضايا الوطنية والسياسية، فلست أعني بذلك أنه ليس في أعماله الأخرى لمحات سياسية. إن «عبث الأقدار» و«رادوبيس»، و«كفاح طيبة»، روايات تستخدم التاريخ القديم للتعبير عن آراء في التاريخ المعاصر في ظل العهد الملكي والاحتلال الانجليزي. وفي بعض قصص مجموعة «همس الجنون» و»القاهرة الجديدة» نلمح إشارات سياسية عابرة.

بل وأكاد أقول إن نجيب محفوظ ليس كاتبًا سياسيًا فحسب، وإنما مؤرخ سياسي كذلك. وعندما أقول إن نجيب محفوظ «يؤرخ» لثورة مصر القومية في مختلف مراحلها فلست أقصد بذلك أنه يعرض لها كما يعرض لها المؤرخون، بالتفاصيل والوثائق-وإن كان يفعل ذلك أحيانًا- وإنما هو يعرض لأهم الأحداث في علاقاتها المؤثرة في حياة الأفراد العاديين.

إن نجيب محفوظ يصنع من الحياة الوطنية العامة والحياة اليومية الخاصة، نسيجًا يظهر به ومن خلاله معنى أساسيًا هو ارتباط حياة الأفراد بحياة الأوطان. أو كما يعبر عن ذلك في إحدى اللحظات الروائية في «بين القصرين»: «في نفس الوقت الذي شغل فيه الوطن بالمطالبة بحريته، كان ياسين دائبًا بحزم وعزم على الاستئثار بحريته هو كذلك».

وكما يصور نجيب محفوظ المواطنين وهم يناضلون في الشوارع والمدارس والمكاتب والمقاهي في سبيل الحرية الوطنية ضد الحماية الانجليزية، يصورهم-جنبًا إلى جنب- وهم يناضلون داخل البيوت وفي البارات وفي منازل اللهو والدعارة في سبيل الحرية الفردية ضد الحماية الأبدية.

وهذا -على ما أعتقد- هو المحور الفكري السياسي في أغلب روايات وقصص نجيب محفوظ. إنه محور «الحرية»: وطنية عامة، وفردية خاصة. هذا المحور هو الذي يربط الموضوعين الرئيسيين عند نجيب محفوظ: علاقة المواطن بالوطن، وعلاقة الابن أو الابنة بالأب والمرأة بالرجل. ونحن نراه وكأنه لا يتصور المتقدم في ميدان الاستحواذ على الحرية الوطنية، لا بل يتبع ذلك فورًا أو يسبقه التقدم في ميدان الاستحواذ على الحرية الفردية.

ومن هذا، فإن أي رأي يتعلق بمحاولة تقييم نجيب محفوظ سياسيًا لا يكوِّن رأيًا كاملا ًإذا اقتصر على الجانب السياسي المباشر في رواياته وقصصه؛ دون أن يضع في الاعتبار جانب الصراع النسائي- الرجالي في هذه الروايات والقصص. بل إنه ليعبر أحيانًا بالصراع النسائي – الرجالي عن الصراع السياسي عندما يعتقد أن هذا أسلم وأفضل.

سعد زغلول

زعيمًا.. وشارعًا..وتمثالاً

ومع الاعتراف بهذا القصور في تكوين هذا الرأي، أبدأ محاولة التعرف على حركة الثورة المصرية كما تعكسها روايات وقصص نجيب محفوظ.

ولعل نجيب محفوظ من الذين يرون -كما نرى- أن ثورة 1919 هي البداية لثورة مصر القومية المعاصرة، بكل ما حملته من صراعات واختلافات. وهو يبدأ في التعرض لهذه الصورة في الصفحات الأولى من «بين القصرين»، عندما يقول السيد أحمد عبد الجواد، وكأنما يخاطب نفسه:

ياله من رجل كريم الأمير كمال الدين حسين! أما علمت بما فعل؟ .. أبى أن يعتلي عرش أبيه المنفي في ظل الإنجليز.

ثم يستطرد السيد قائلا:

وقبل العرش الأمير أحمد فؤاد، أو السلطان فؤاد كما سيدعى من الآن فصاعدًا، وقد تم الاحتفال بتوليته اليوم، فانتقل في موكبه من قصر البستان إلى سراي عابدين..وسبحان من له الدوام.

وتصغي زوجته أمينة إليه باهتمام وسرور..

ثم تردد على مسمعيه دعاء تعلم مقدمًا بمقدار ارتياحه إليه كما ترتاح إليه هي من أعماقها، فتقول:

ربنا قادر على أن يعيد إلينا أفندينا عباس.

فيهز الرجل رأسه ويتمتم قائلاً:

متى؟ ..متى؟..  علم هذا عند ربي...ما نقرأ في الجرائد إلا من انتصارات الانجليز، فهل ينتصرون حقًا أو ينتصر الألمان والترك في النهاية؟ اللهم استجب.

بداية تلخص طرفي الصراع قبيل الثورة: الإنجليز الذين طردوا عباس وأعلنوا الحماية ومعهم السلطان أحمد فؤاد، والبديل الذي يتمناه الناس لهم: عباس ومحمد فريد والأتراك والألمان.

إن الشيخ متولي عبد الصمد يتنهد قائلاً:

ثم أسأل الله المنان أن يعيد إلينا أفندينا عباس مؤيدًا بجيش من جيوش الخليفة لا يعرف له أول من آخر.

ويقول السيد أحمد عبد الجواد:

نسأله وليس شيء عليه بكثير

فيعلو صوت الشيخ وهو يقول غاضبًا:

وأن يمني الإنجليز وأعوانهم بهزيمة منكرة فلا تقوم لهم بعدها قائمة.

ربنا ياخدهم جميعًا.

أما ياسين وأخوه فهمي، ابنا السيد أحمد عبد الجواد، فإنهما يتمنيان انتصار الألمان، وبالتالي الترك، وأن تسترد الخلافة سابق عزتها، وأن يعود عباس ومحمد فريد إلى الوطن.

لكن ياسين يتساءل في نفس الوقت:

...ولكن ماذا يكون رأيك لو وجدنا الألمان كما يصفهم الإنجليز؟

ويعلو صوت فهمي وهو يقول:

المهم أن نتخلص من كابوس الإنجليز وأن تعود الخلافة إلى سابق عظمتها فنجد طريقنا ممهدًا.

لكن الحرب العالمية الأولى تنتهي وتتغير صورة طرفي الصراع، يغلب الألمان ومن ورائهم الأتراك، ويقضى على الأمل في أن يعود عباس أو محمد فريد. وكذلك تضيع آمال الخلافة. ويكسب الإنجليز الحرب. ويكسب السلطان فؤاد العرش. لكن بديلاً جديدًا للترك والألمان وأفندينا ومحمد فريد يبرز في ميدان نضال الوطن من أجل الاستقلال.

هذا البديل هو: الوفد

ويحرص نجيب محفوظ على أن يسجل في روايته نص التوكيل الذي وقعه الشعب للقيادة الوطنية الجديدة:

“نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا، وعلي شعراوي باشا، وعبد العزيز فهمي بك، ومحمد على علوبة بك، وعبد اللطيف المكباتي، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أيضًا أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تامًا».

يسجل نجيب محفوظ هذا النص، الذي يكاد يكون النص التاريخي الوحيد لإحدى وثائق ثورة مصر القومية، المسجل في كل قصصه ورواياته. تمامًا كما سجل نصًا شعريًا واحدًا في كل هذه القصص والروايات، هو أبيات من قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم عن تظاهرة النساء في ثورة 1919.

أهي مصادفة، أم توافق يبرز ذلك «التزاوج» الذي يؤمن به نجيب محفوظ بين المرأة والسياسة؟

على أية حال، إننا نلاحظ منذ هذه اللحظة في رواية «بين القصرين».. وحتى «ميرامار» أن الوفد عند نجيب محفوظ هو «عقيدة الأمة»، كما نلاحظ إيمانه العميق بزعامة سعد زغلول، الرجل الذي» عله لا يوجد الآن من ينهض بالمهمة الوطنية مثله بعد نفي المبرزين من الوطنيين وعلى رأسهم زعيمهم محمد فريد».

وحول محور الوفد وزعامة سعد زغلول يدير نجيب محفوظ أحداث ثورة 1919، وحول محور الوفد ورئاسة مصطفى النحاس، يدير أحداث الحياة السياسية والوطنية حتى 4 فبراير 1942.

وعلى طول روايات وقصص نجيب محفوظ السياسية، نلمس بوضوح مدى عمق إعجابه بزعامة سعد زغلول، زعيمًا، في الثلاثية، وشارعًا وتمثالاً في «السمان والخريف» وفي «ميرامار». أما إعجابه بدور الوفد فيظل مصاحبًا له حتى يصل به إلى شخصية عامر وجدي، الصحفي الوفدي القديم، في «ميرامار»، والذي يلخص كل الحياة السياسية على طول أكثر من نصف قرن في قوله:

“حزب الأمة ما أعجبني فيه وما نفرني منه، والحزب الوطني بحماساته وحماقاته، الوفد بثورته العالمية الخالدة، الخلافات الحزبية التي قوقعتني في حياد بارد لا معنى له، الإخوان الذين أحبهم، الشيوعيون الذين لم أفهمهم، الثورة ومغزاها وامتصاصها للتيارات السابقة».

وليس في إيمان نجيب محفوظ بالوفد وزعامة سعد زغلول ما يعيبه أو ما ينقص من سلامة آرائه وأفكاره الوطنية، لكننا نلاحظ في الوقت ذاته أن ذلك قد أدي به إلى تقديم صورة نضالية ثورية ناقصة من الناحية الاجتماعية.

ومع أننا لا يمكن -بالطبع- أن نفرض عليه، كفنان وكاتب قصة، الصور الاجتماعية التي نرى وجودها في مسيرة الثورة المصرية، فإن من واجبنا عند التقييم السياسي العام أن ننوه برأينا في طبيعة هذا النقص، وأن نحاول التعرف على أسبابه.

لا عمال ولا فلاحين والرق الذي يحاربه الأحرار

ومما يلفت النظر في الخريطة الاجتماعية لشخصيات نجيب محفوظ في رواياته وقصصه السياسية الطابع هو خلو هذه الخريطة –إلا في حالات نادرة جدًا- من شخصيات عمالية وفلاحية. ونحن نلاحظ أن شخصيات نجيب محفوظ تنتسب في غالبيتها الساحقة إلى فئات ومراتب الطبقة المتوسطة، من تجار وموظفين وطلبة وحرفيين، وعناصر من المثقفين أو هي في أقليتها من عناصر فقيرة لكنها غير عمالية وغير فلاحية، وإن كانت أقرب إلى طبقات الفقراء الدنيا مثل الخدم والمتسولين والبلطجية، وما أشبه.

بل إن الإشارات الفكرية إلى فئات العمال والفلاحين قليلة بدرجة ملحوظة، ومنها تلك الإشارة الواردة في «القاهرة الجديدة»:

“الفلاح مضغوط تحت المستوى الأدنى للإنسانية، ولا يمكن أن يطالب بشيء، ولكن خليق بكل إنسان أهل لشرف الإنسانية أن يمد يده ليرفع عن كاهله هذا الضغط. وقديمًا حارب الرق الأحرار لا العبيد».

ولعل في قول نجيب محفوظ «وقديمًا حارب الرق الأحرار لا العبيد»-وهي عبارة خاطئة تاريخيًا وأن لم يكن هنا مجال مناقشة خطئها تفصيليًا- ما يفسر عدم وجود شخصيات فلاحية وعمالية تناضل أيضًا وبوسائلها من أجل الحرية، وما يفسر بروز تلك الشخصيات «الحرة» نسبيًا من الفئات المتوسطة لكي تناضل-بوسائلها هي- «من أجل» حرية العمال والفلاحين.

وعلى طول ما كتب نجيب محفوظ عن ثورة 1919، لا نجد إشارة ولو عابرة في حديث أو في تلخيص للأحداث عن تحركات العمال في عنابر القاهرة في أثناء الثورة، أو عن هجمات الفلاحين على قوات الاحتلال في الريف.

ولست أجد لذلك تفسيرًا واضحًا إذا ما وضعنا في الاعتبار اتساع معرفة نجيب محفوظ بالأحداث السياسية الرئيسية التي مرت بالوطن خلال نصف القرن الأخير، وإن كان من الممكن طرح بعض الافتراضات التي قد تساعد أو لا تساعد على التغيير المطلوب لظاهرة فنية-أدبية عند أديب من أبرز أدبائنا المعاصرين، ومن أوسعهم انتشارًا وتأثيرًا في العقول والنفوس.

هناك، مثلاً، افتراض تأثير النشأة والتربية والحياة على نظرة نجيب محفوظ للأحداث أو على مدى إطلاعه على أخص تفاصيلها. وهي نشأة-تبدو من خلال قصصه ورواياته- «حضرية» تعرف أحوال المدينة أكثر ما تعرف أحوال الريف، وهي نشأة «قاهرية» تعرف عن أحوال مدينة القاهرة أكثر مما تعرف عن أحوال المدن الأخرى، وربما باستثناء مدينة الإسكندرية، وهي نشأة «جمّالية» –نسبة إلى حي الجمالية- المعروف أساسًا بسماته التجارية والحرفية والدينية أكثر مما هو معروف بسماته العمالية. ويبدو أن هذه النشأة قد ملأت وجدانه بصور الشخصيات من الفئات المتوسطة في الحياة التي حياها، وبصور الشخصيات الفقيرة ولكن الهامشية التي تعيش وتحتال وتخدم من حول الفئات المتوسطة.

وهناك، مثلا، افتراض تأثير المناخ العام في البلاد طوال فترة طويلة من تاريخها القومي، وهو مناخ «القيود»، و»الرقابة»، و»التجريم» لمعظم ما يمكن أن يقال عن تحركات العمال والفلاحين النضالية واتجاهاتها السياسية والاجتماعية وإن كان من المفيد أن نقيس هذه المناخ العام بدقة أكثر تحديدًا، وأن نلاحظ في الوقت ذاته كيف استطاع كتاب روايات وقصص آخرون التغلب أو التحايل عليه، وكيف انفسح هذا المناخ أحيانًا بما أتاح ويتيح فرص التعرض –روائيًا وقصصيًا ومسرحيًا- للشخصيات العمالية والفلاحية.

وهناك، مثلاً، افتراض أن نجيب محفوظ قد اختار لنفسه، وفي إطار نشأته وتربيته والمناخ العام، رأيًا وموقفًا هو أقرب ما يكون إلى رأي وموقف الفئات المتوسطة في المجتمع والثورة، منه إلى رأي وموقف الفئات العمالية والفلاحية. ولعل مثل هذا الافتراض هو ما يمكن أن يفسر بروز قضية «الحرية»، الوطنية والفردية، في رواياته وقصصه أكثر من بروز قضية العدالة الاجتماعية.

على أننا ينبغي أن نلاحظ في الوقت نفسه أن نجيب محفوظ، الذي اقتصر في الخريطة الاجتماعية لشخصياته الشعبية على الفئات المتوسطة والفقيرة الهامشية، إنما قد ضمن الخريطة الفكرية ما تعبر عنه بعض هذه الشخصيات من آراء وأفكار تقدمية عن العدالة الاجتماعية وعن حقوق العمال والفلاحين، وأحيانًا عن الاشتراكية، كما حاول أحيانًا أن يناقش مصادر ومسار ومصير بعض الاتجاهات السياسية الاجتماعية مثل الاتجاهات الشيوعية التي عالجها ورمز إليها وشخصها في رواياته، وخصوصًا في «السمان والخريف» –رمزًا، وفي «ميرامار»، شخصية. على أنه ساق كل هذا من خلال شخصيات من الفئات المتوسطة، وربما بسبب إيمانه العميق بأنه «لا يحارب الاستغلال إلا غير المستغلين»، كإيمانه بأنه «لا يحارب الرق إلا الأحرار».

ولكن هل يفيد نجيب محفوظ أو يقلل من قدره الأدبي، بل والسياسي والفكري، أن يكون معبرًا عن الفئات المتوسطة في المجتمع؟ بالطبع لا، ما دام هو قد اختار من هذه الفئات شخصيات وطنية تؤمن بالحرية والعلم والعمل الاجتماعي كما اختار منها فئات مترددة وأحيانًا منحلة أو خائنة مبرزًا بذلك اختلاف الاتجاهات والتناقضات داخل صفوف هذه الفئات. ومع هذا فإنني لا أملك أن أتجنب الشعور بالأسف، وأحيانًا بالأسى، على أن كاتبًا وطنيًا حرًا ومبدعًا حقًا مثل نجيب محفوظ، قد ظل طوال ربع القرن من الكتابة الأدبية الخصبة، وهو لا يتجاوز مكونات وعيه الأول إلى اكتساب وعي جديد بأبعاد ثورة مصر القومية، يجعله يثري شخصياته بشخصيات جديدة من واقع المجتمع الأعرض.

وربما كانت لنجيب محفوظ أعذاره، وربما كان بعض هذه الأعذار يعود إلى ظروف موضوعية لا يد له فيها أو لا قدرة عنده على تخطيها، ولكن تظل ملاحظة تعبيره عن صورة الفئات المتوسطة دون فئات العمال والفلاحين في مسار ثورة مصر ملاحظة ضرورية عند التقييم التاريخي لموقف نجيب محفوظ.

الثورة والاشتراكية والثرثرة والخريف

ثم كان على نجيب محفوظ أن يتعرض لمرحلة جديدة من مراحل ثورة مصر، وهي مرحلة 23 يوليو 1952 وما بعدها. وكما كانت روايته»بين القصرين» هي بداية تعرضه لمرحلة الثورة في سنة 1919، كانت روايته «السمان والخريف» هي بداية تعرضه لمرحلة الثورة في سنة 1952.

إن رواية «السمان والخريف» تبدأ بحريق القاهرة يوم 26 يناير 1952، والوفد في الحكم، وعيسى الدباغ الوفدي هو الشاهد والراوية. ويسمع عيسى وهو يتناول فطوره بيان الجيش في صباح 23 يوليو، «فلا يفقه معنى ما تلقته أذناه في بادئ الأمر، ثم يثب من مجلسه ليحملق في الراديو وهو يلعق شفتيه، وتترادف الكلمات الغريبة لتصنع جملاً مذهلة سرعان ما تنفجر دهشته عند استيعاب معانيها، ويدور رأسه كمن يخرج بغتة من ظلمة عمياء إلى نور باهر ثم يروح يتساءل ما معنى هذا! ما معنى هذا!”.

نعم ما معنى ما حدث في 23 يوليو بالنسبة لمسيرة ثورة مصر القومية منذ 1919؟

إن عيسى الدباغ يقول لأمه:

الجيش يتحدى الملك!

وتهضم المرأة الخبر بعسر شديد ثم تتساءل:

كأيام عرابي باشا؟!

ويتمتم:

نعم، كأيام عرابي..

... ولكن 1952 لم تكن بالضبط 1882.

وانطلقت الأحداث حتى غادر الملك البلاد وشهد عيسى ذلك في الإسكندرية ورأى بعينيه تحركات الجيش، كما رأى التظاهرات الصاخبة. وعانى طول الوقت من عواطف متضاربة أطاحت به في دوامة ما لها من قرار. شعر بفرحة كبرى عزت على التصديق والتأمل، وشفت صدره من آلام المقت المكبوت. ولكن هذه الفرحة لم تنطلق إلى مالا نهاية، وإنما ارتبطت بسحائب دكناء كدرت بعض الشيء صفاءها. أهو رد الفعل الطبيعي لكل شعور عنيف؟ أم هو رثاء تجرد به النفس المطمئنة أمام جثة غريمها الجبار؟ أم أن تحقق هدف من أهدافنا الكبرى يعني في الوقت ذاته زوال سبب من أسباب حماسنا للوجود؟ أم أنه عز عليه أن يتحقق هذا النصر الكبير من غير أن يكون لحربه الفضل الأول فيه. أم أن الأمر كما يقول سمير عيد الباقي:

كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة!

إنها-على أية حال- نظرة الوفدي إلى ثورة 23 يوليو. إنها نظرة يمكن أن توصف بأنها نظرة عدم وضوح وبلبلة، وهي في أسوأ حالاتها نظرة خصام، وفي أحسن حالاتها نظرة انتهازية في محاولة للحاق بالركب.

لكن ما هي نظرة الثورة إلى نفسها؟ ما هي نظرة الثوري الجديد إلى الثورة الجديدة؟

هل هي نظرة حسن، ابن العم، صاحب السيارة المرسيدس، والصحة المتحسنة بوضوح، والاستعلاء الذي يشد القامة، والسيادة المطلة من العينين؟

أم هي نظرة إبراهيم خيرت الذي يقول:

الحقيقة أن جميع ثوراتنا القديمة ثورات بلا نتائج حاسمة، ثم جاءت هذه الثورة لتحقق رسالات الثورات القديمة بالإضافة إلى أهدافها الذاتية.

والذي يقول في الوقت نفسه:

المسألة ليست مسألة مبادئ يقتنع بها العقل، ولكن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تتقرر بطريقة خفية كما في الحب، ويمكن أن تقول إن أظفر الحكام بقلوب المحكومين هو أعظمهم احترامًا لانسانيتهم، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

أم هي كما يقول رأفت أمين، في «ميرامار»:

قل في الثورة ما تشاء. لا أنكر قوتها الشاملة، ولكن الشعب مات بموت الوفد.

فهل مات الشعب حقًا؟

إن نجيب محفوظ لا يجيب على هذا السؤال بصورة واضحة، لكننا نشعر فيما كتبه من روايات وقصص تجري حوادثها في إطار ما بعد 23 يوليو بأنه كان يتمنى أن يحدث لقاء بين الثورة والوفديين.

ثم نراه أقل وضوحًا في مواقفه من الاشتراكية والتطبيق الاشتراكي.

وفي «ثرثرة فوق النيل» نسمع إحدى الشخصيات تقول:

كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة».

أو نراه يقول عن المجتمعين في العوامة:

“وراحوا يتساءلون عن كيف يبدعون، وكيف ينظمون أنفسهم، وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر”.

ثم تتبلور صورة الثوري الجديد في شخصية «سرحان البحيري» عضو الاتحاد الاشتراكي، وفي شخصية «منصور باهي» الشيوعي المتردد المفكك، بينما يظل عامر وجدي، الصحفي الوفدي القديم، هو الشخصية المتماسكة التي ترعى «زهرة» الخادمة من أصل فلاحي، وتتمنى لها الخير.

وقد يكون من الصعب هنا التعرض بالوضوح اللازم إلى صورة أطراف الثورة في مرحلتها المعاصرة، كما تعكسهما روايتا «السمان والخريف» و«ميرامار»، ولكن أقل ما يقال هو إن نجيب محفوظ لا يوضح كثيرًا هذه الصورة، إلا بلمحتين، إحداهما في نهاية «السمان والخريف» حين يظهر «شخص..فارع الطول مفتول العضل داكن السمرة يرتدي بنطلونًا وقميصًا أبيض يكشف عن ساعديه، وبين أصبعي يسراه وردة حمراء».

أما الأخرى، فهي تلك المواجهة العنيفة بين «منصور باهي» و»سرحان البحيري» حيث يتصادمان صدامًا من شأنه أن يدفع الأول إلى قتل الثاني الذي انتحر.

ولا أحد يمكن أن يطالب نجيب محفوظ بتوضيح صورة طرفي المواجهة في مرحلة الثورة الراهنة، إذا كان هو لا يريد ذلك أو لا يستطيعه، لكن من الملاحظ أنه يرفض حتى الآن كل البدائل المتاحة، على عكس قبوله البديل الذي كان ممكنًا ومتاحًا في مرحلة ثورة 1919.

ثم يبقى السؤال المعلق في رواية «ميرامار»:

هل مات الشعب؟

هل مات الشعب تحت المظلة؟

وهنا نقف عند تلك المجموعة من القصص القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في الفترة بين أكتوبر وديسمبر 1967، أي عقب النكسة، وصدرت تحت عنوان إحداها «تحت المظلة».

إن قصص «تحت المظلة» قصص رمزية تكاد تكون نسيجًا جديدًا بين قصص نجيب محفوظ، وقد لا يكون من الصواب التصدي لما ترمز إليه كل واحدة منها بالتفصيل، على أنني-وهذا شعور شخصي بحت- أرى في رمزيتها رمزًا إلى عجز الناس، جماعات وأفرادًا، عن أن يفهموا ما يجرى من حولهم وأمام أعينهم، بل وما يجرى لهم، وبالتالي فهم عاجزون عن التصرف أو التأثير فيما يجرى.

ولأن الناس «تحت المظلة» لا يفهمون ما يجرى أمام أعينهم، فإنهم حائرون بين الاعتقاد بأن ما يجرى حقيقي أو تمثيل أو حلم، ولأنهم حائرون فإنهم عاجزون حتى عن الحركة، وعندما يتجه أحدهم أخيرًا نحو الشاويش غير المنتبه ليسأله عما حدث أمام أعينهم في الطريق، وعن الرأس الآدمي المقطوع الذي تدحرج نحوهم واستقر على بعد ذراع والدماء تنفجر من مقطع العنق بغزارة، لا يزودهم الشاويش بالمعرفة، وإنما يسألهم عن بطاقاتهم، وعن السر وراء اجتماعهم، ثم يتراجع خطوتين ويسدد نحوهم البندقية، ويطلق النار بسرعة وإحكام. ويتساقطون واحدًا إثر الآخر جثثًا هامدة. وتنطرح أجسادهم تحت المظلة أما الرءوس فتتوسد الطوار تحت المطر.

وفي قصة «الندم» تقع جريمة قتل على بعد أمتار من مدرس العربي النائم بعد الإفطار عند مدخل الحديقة الفاصلة بين الكازينو ومحطة الديزل، والقتيله كانت تستغيث به وتصرخ باسمه، وهي مولدة كان يحبها وكان ينوي أن يطلب يدها، فلا يرى شيئًا ولا يعرف شيئًا ولا يستطيع إنقاذها أو المساعدة في القبض على من قتلها.. وهو من قبل شغل عن إسعادها بجلسات تحضير الأرواح كما منعه النوم من إنقاذها..

إن مدرس العربية-مثل الناس تحت المظلة- لم يعرف ما يدور من حوله ويتعلق به مباشرة، مع فارق واحد هو أنهم كانوا مفتوحي الأعين وكان هو نائمًا. أي لا فرق بين المستيقظ والنائم.

وفي قصه «الظلام»، وبسبب الظلام والحشيش والصمت والملل، لا يعرف الحشاشون ما إذا كان المعلم قد غادر مكانه بينهم على وجه اليقين، وهو يبشرهم بأنهم سيفقدون القدرة على الكلام كما فقدوا القدرة على الحركة، وأن أحدًا منهم لن يعرف نفسه، وهيهات أن يعرفه أحد.

وفي قصة «الوجه الآخر» يحار «المربي الفاضل» بين عثمان، ضابط الشرطة وأخيه «رمضان» المطارد والمعركة بينهما ناشبة، ثم هو يعلن قراره في النهاية:

لقد أضعت أيامي في صحبة العقلاء. سألهو بالأشياء العقيمة، سأنصب شراعي في مهب العاصفة، سأسحق مقتنياتي وأقذف بها للرياح، سأعرض عن العقلاء الشرفاء، وليجرفني الدوار، فليكونوا سعداء نافعين ولأكن مجنونًا مخربًا وليتقبلني الشيطان، وتسألني عن القواعد والتقاليد فأقول لك إنه لن يعرقلني شيء، سأقبض على الأدوات وأدمر كل شيء.

ويمضي بعزم نحو الفتاة العارية ويسدل الستار وراءه.

وفي قصة «الحاوي خلف الطبق» صورة ضياع طفل وهو يفقد معرفة نوع الفول والزيت الذي يريد، ويفقد الطبق، ويفقد القرش..ثم يفقد الطريق، ويفقد أمه، وقد أخذ النهار يدمي، وعما قليل سيهبط الظلام من مجاهله.

وفي قصة «ثلاثة أيام في اليمن» يتوازى أديب وجندي، وجندي نجيب محفوظ هو تلميذ الأديب والأديب أستاذه-يقول الأديب:

“وألقى شعراؤنا قصائد عن العروبة والجهاد والثورة والاشتراكية. وجدتني طيلة الوقت أقارن بين أحاديثنا الفردية وكلماتنا أمام الجمهور. بين تجوالنا في السوق وموقفنا وراء المنصة. إن الصوت الذي يتحدث أمام الجماهير هو صوت الجماهير. وخيل إلي أنني أدركت شيئًا مما ينقصنا. لعله التناقض بين ما يقال وما يجب أن يقال. أن نتبنى في خلوتنا صوت الجماهير».

فهل هذا الخاطر الذي يكتبه نجيب محفوظ الأديب على لسان أديب أيام اليمن الثلاثة، ينفي أن الجماهير ماتت، وأن الذين ماتوا هم من يتحدثون أمامها بصوتها، ويتحدثون في خلواتهم بغير هذا؟

على أية حال، إن «نجيب محفوظ سياسيًا» يحتاج إلى ما هو أعمق من هذا الرأي السريع، ويحتاج إلى المزيد من الدراسة النقدية المفصلة، ذلك لأنه أديب سياسي خصب، لا يقلل من سعة خصوبته الاختلاف معه أو الخطأ في تقييمه. وأعظم ما فيه، أديبًا وسياسيًا و .. و.. ذلك المزج الرائع بين العام والخاص، بين المواطن والفرد، بين الحياة التاريخية والحياة اليومية.

ولست أجد ختامًا لهذا الرأي سوى أن أقتبس من قصة «ثلاثة أيام في اليمن» هذا الحوار:

هل جربت مواجهة الموت؟

الحياة كلها كفاح، وليس الجندي وحده الذي يحارب..

ولكن...

سأقص عليك قصة حب عانيتها زمنًا، بطلتها فتاة متمردة وحشية، وسوف تقتنع بأن ما كان بيني وبينها لا يختلف عن القتال في شئ..

هذا هو محور نجيب محفوظ دائمًا:

النساء والسياسة أو السياسة والنساء.

أو لعلني أختم هذا الرأي بكلمة سريعة:

أخي العزيز

إنك بذرت في الرواية والقصة بذرة من طبيعتها النمو والازدهار، مهما كان الرأي فيها، ومهما كانت الملاحظات، ومهما تكن العوائق، ومهما تكن العواقب.