فنون

باسم عبد الحليم

نهاية "السيد تيرنر": الفن والتقنية

2024.10.26

تصوير آخرون

نهاية "السيد تيرنر": الفن والتقنية

 

في عام 2014، صنع المخرج الإنجليزي مايك لي فيلمًا روائيًّا طويلًا بعنوان "السيد تيرنر" (Mr. Turner)، عن الخمس وعشرين سنة الأخيرة في حياة الرسام الإنجليزي چي إم دبليو تيـرنر (1775-1851)، الذي اشتُهر بتقديمه الفائق للطبيعة في لوحاته التشكيلية، واهتمامه على نحو خاص بما يُسَمَّى "اللوحات البحرية"، أي اللوحات التي تصور مشاهد البحر وغرق السفن والمعارك البحرية. ركز الفيلم في معظمه في سيرة الفنان المعروف بتقلباته المزاجية وغرابة أطواره ونزقه الجامح في الفن والحياة. وكان له أن يصبح مجرد دراما سِيرية معتادة، لولا مشهد محدد قرب نهايته.

لحق تيرنر، في سنواته الأخيرة، باختراع كاميرا التصوير وبدايات انتشارها. يصوّر المشهد زيارة الفنان العجوز إلى أحد إستوديوهات التصوير البدائية لتجربة الاختراع الجديد. المشهد طويل ومتمهل، ومعتنى بتقديمه على نحوٍ خاص. يُغرِق تيرنر المصوِّر الفوتوغرافي الشاب بالأسئلة عن الآلة الجديدة: كيف تعمل؟ ما اسم صانعها؟ ما العدسة البصرية المستعملة فيها؟ لماذا تضع رأسك داخل الصندوق وتغطيها بهذا الغطاء الثقيل؟ ولماذا لا تنتج الكاميرا سوى صور بالأبيض والأسود؟ تجهُّم تيرنر وهو يلقي بأسئلته يشي بضيقه من الاختراع الجديد، ويقابله مرح وخفة المصور الفخور بآلته السحرية. يطلب المصوِّر من تيرنر الثبات لعشر ثوانٍ من أجل التقاط الصورة، ويأخذ في دندنة مقطوعة موسيقية وهو يحمل ساعته حاسبًا الثواني العشر. يسأله تيرنر: "هل انتهيت من التقاط الصورة؟" ويجيب المصور: "نعم يا سيدي، انتهيت"، فيهمس تيرنر لنفسه بغضب مكتوم: "بل أنا الذي انتهيت!" في مشهد تالٍ، سيلقي تيرنر للمصور الشاب بملاحظة ساخطة، كأنها نبوءة مشؤومة: "قريبًا، سيجوب المصوِّرون العالم بصندوق كاميرا كالسمكرية، بدلًا من حقيبة فُرَش الرسم."

لنضع أنفسنا مكان تيرنر. أي مصوِّر بصندوق كاميرا على كتفه، صار يمكنه أن يؤدي مهمته كاملة من دون انتقاص، وبمنتهى السهولة، فماذا يتبقَّى لتيرنر من أهمية؟ ربما يصعب علينا تصوُّر حدة هذا الشعور الآن، في عصرنا المزدحم بالكاميرات وصورها في كل مكان ولحظة. لطالما كان التصوير إحدى الوظائف الأساسية للفن التشكيلي، والنزعة التصويرية ما زالت تمثل لدى أغلب الجمهور العام معيارًا جوهريًّا في الحكم، لأنها تجذب انتباههم إلى البورتريهات التي تطابق أصحابها والأعمال التشكيلية التي تماثل الطبيعة. ثمة اعتقاد واسع الرواج بالصلة العميقة بين تجسيد ما هو موجود في الحياة الواقعية، والقيمة الفنية للعمل التشكيلي. غير أن اختراع الكاميرا، أي ظهور تقنية آلية تؤدي عمل الفنان، قد أزاح التركيز لدى من يريد تقديم جديد، إلى وجوب استكشاف مناطق أخرى في الفن التشكيلي لم يرتدَها أحد من قبل، ويصعب تحديدها بدقة كذلك. وربما لهذا، رأى السيد تيرنر أنه قد انتهى.

لم تنجُ ممارسات فنية أخرى، كالأدب والموسيقى مثلًا، من التأثير الساحق لظهور الفوتوغرافيا، وقد يكشف لنا فحص أعمق لتحول الأدب نحو مزيد من الاختزال والكثافة التعبيرية، واللايقين نحو العالم المرئي، والاهتمام المتزايد بالمونولوج الداخلي، وظهور تيار الوعي في الكتابة، عن تأثير مشابه. غير أن الفن التشكيلي احتفظ بالزلزلة الأكبر، إذ لطالما كان السعي إلى المطابقة الفائقة مع الطبيعة سمة أساسية في الفن الكلاسيكي، ثم أصبحت بعد الفوتوغرافيا محلَّ تشكُّك عميق.

لا يلغي ظهور تقنية جديدة التقنيةَ السابقة عليها، لكنه بالتأكيد يعيد تشكيلها في العمق. أكد بول فاليري في إحدى كتاباته على أن في كل الفنون عنصرًا ماديًّا لم يعد من الممكن النظر إليه أو معاملته كما جرت العادة، ولا يمكنه أن يظل غير متأثر بمعرفتنا وسلطتنا الحديثة، كما تنبأ بأن التجديدات الكبرى في مجمل تقنية الفنون ستؤثر في الابتكار الفني، بل وسيمتد تأثيرها إلى مفهومنا عن الفن ومعناه نفسه.[1] ظهرت الفوتوغرافيا وانتشرت منذ نحو منتصف القرن التاسع عشر، وسيضحى القرن العشرون، مع حربيه العالميتين وانقلاباته العنيفة في معاني السلطة والسياسة، ساحةً لصراعات فنية ذات أبعاد إيديولوجية وفكرية بين الفن التشكيلي الكلاسيكي كما ترسَّخ لقرونٍ عدَّة، وحركات الفن الطليعية الجديدة: التجريدية والتكعيبية والدادية والسوريالية، حتى لحقت بها انفجارة البوب آرت الكبرى منذ عقد الأربعينيات، إيذانًا بدخول الكلاسيكية إلى المتحف.

كذلك، فإن لكل تقنية جديدة تظهر، عَرَضًا سلبيًّا يصاحبها، كثمن مُستحَق للتطور. في أوج ازدهار الثورة الصناعية في أوروبا، أشار كثير من نُقَّاد وفنَّاني زمنها إلى التدهور الذي ألحقته تلك الثورة بالحِرف اليدوية. والتدهور هنا حكم قيمة من ذهنية نقدية تفحص زمنها، ولا يمكن لوم ناقد كلاسيكي من نهايات القرن التاسع عشر، إذا ما نظر إلى تيارات فنية لاحقة، كالتجريدية والتكعيبية مثالًا، باعتبارها انحطاطًا فنيًّا.

لطالما نهض الفن الكلاسيكي على اقتصاديات مميـزة تقوم على صنع أعمال فريدة ونادرة وواحدية، وتزدري النَسْخ الميكانيكي. إن نسخة شديدة الإتقان من لوحة "الموناليزا"، ومهما بلغت دقتها، لا تتساوى مطلقًا مع تلك الأصلية المعروضة في موضع الشرف من متحف اللوڤر بباريس. يكتب فالتر بنيامين: "حتى أكمَلُ مُستنسَخٍ لعمل فني ينقصه عنصرٌ واحد: حضور العمل في الزمان والمكان"،[2] ويلاحظ المؤرخ الماركسي إيريك هوبزباوم، أن رعاة الفنون في القرن التاسع عشر كانوا يطلبون شراء معظم إنتاجات الثقافة الرفيعة ويجمعونها، ما عدا تلك التي تنتجها المطبعة: أول أبناء الثورة التكنولوجية الحديثة، والتجلي الأبرز لتقنية النسخ الميكانيكي.[3]

في النصف الثاني من القرن العشرين، عرف المشهد الفني العالمي اندلاع شهرة فنان أمريكي اسمه آندي وارهول. كان وارهول رسامًا يصنع أعماله بتقنية طباعية هي "السيلك سكرين"، ويوظف في ملصقاته الفنية بالتكرار عناصر وموتيفات بصرية من قلب الحياة اليومية العادية، تكاد تكون مبتذلة تمامًا، مثل صور علب الصلصة وزجاجات الكوكاكولا ووجوه فنانات السينما. وقد قيل إن وارهول هو الفنان الذي يمكنك أن تعطيه سلة قمامة، فيصنع لك من محتوياتها أعمالًا فنية. استجلب عمل وارهول إعجابًا عامًّا، وسخرية عامة كذلك، من قِبَل كثيرين. ومَثَّل تحولًا جذريًّا عنيفًا للاقتصاديات التي يقوم عليها السوق التجاري للفن.

يقول وارهول: "الاستهلاك أكثر أمريكية من التفكير، وأنا أمريكي"، وعلى هذا اعتمدت ابتكاراته الفنية. كان وارهول يسمي مكان عمله "المصنع"، وهي تسمية دقيقة ومعبرة تمامًا. يمثل وارهول النقيض الكامل لملاحظة إيريك هوبزباوم، فمعه احتلت الأعمال الفنية المعتمدة على "النسخ الميكانيكي" صدارة المشهد. يصنع وارهول سلاسل من الملصقات الفنية، بتبديل ألوانها أو ترتيبها الداخلي، فتحظى باهتمام مقتني الفنون ودولاراتهم الثمينة. كان وارهول هو ذروة الانقلاب على الفن الكلاسيكي، وانفجارة البوب آرت في المشهد الفني العالمي. وبخلاف ملصقاته ولوحاته، خاض وارهول في أنواع فنية عديدة بنفس الطريقة، فصنع أفلامًا سينمائية تجريبية لا تقل إثارة للجدل، لعل أغربها فيلمه "إمباير" (1965)، الذي يقدم، لمدة 8 ساعات و5 دقائق متواصلة، كادرًا ثابتًا بالحركة البطيئة لا يكاد يتغيـر، لبرج "إمباير ستيت" بنيوريورك.

بالتأكيد لن تستسيغ الأغلبية ذلك النوع الغريب من الفن. وبِغَضِّ النظر عن حكم القيمة، فلا يمكن إنكار التأثير التحرري للبوب آرت في عملية ممارسة الفن ككل. فجأة، وعلى نحوٍ هائل، فتح البوب آرت الباب على مصراعيه أمام الفنان، فصار كل شيء وأي شيء حوله، مهما بلغت تفاهته، مصدرًا للإلهام ومادة للتناول داخل العمل الفني. واتسع نطاق التجربة الفنية ليشمل العالم كله، بكل ما يحتويه.

ماذا الذي كان ليفعله السيد تيرنر، بمعجزة تطوي الزمان والمكان، فدخل في أحد معارض آندي وارهول، هو الذي عُرِف عنه انتقاده الشديد لأعمال معاصريه الفنانين، المنتمين إلى نفس التوجه الفني الذي ينتمي هو إليه نفسه؟! لا يمكننا التأكد بالطبع، ولكن لا يصعب التخمين بالنظر إلى عصبيته المعروفة عنه. لربما على الأرجح، كان سيبحث عن أقرب مطرقة، ويحطم كل محتويات المعرض، بما فيها رأس وارهول نفسه ورؤوس الحاضرين، مفرغًا غضبه تجاه السمكرية وصناديقهم.


1- “The Conquest of Ubiquity”, Paul Valery.

2- "العمل الفني في عصر النسخ الميكانيكي"، فالتر بنيامين، ترجمة: أحمد حسان، من كتاب "مقالات مختارة".

3- "أزمنة متصدعة: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين"، إريك هوبزباوم، ترجمة: سماح عبدالسلام.