فنون

منى عبد الوهاب

فيلم "عرق البلح" وقصائد عماد أبو صالح

2024.06.22

مصدر الصورة : آخرون

فيلم "عرق البلح" وقصائد عماد أبو صالح

بين قصائد الشاعر عماد أبو صالح ومشاهد فيلم "عرق البلح" تشابهات يخيل إلى من يراها أنه -أقصد أبو صالح- كاتبها. عُرض الفيلم للمرة الأولى في أغسطس 1998، من تأليف وإخراج رضوان الكاشف، وبطولة: شريهان، عبلة كامل، حمدي أحمد، ومحمد نجاتي. أما عن ديوان "كلب ينبح ليقتل الوقت" للشاعر عماد أبو صالح فصدر قبل ذلك بعامين، أي عام 1996.

لم أنتبه لتلك التشابهات في البداية، فقد رأيت الفيلم عشرات المرات، ولم أفهم شيئًا. جاء هذا دافعًا لرؤية الفيلم مرات أخرى توالت فيها التساؤلات عن القرية والنساء والموسيقى وعديد من الأشياء دون جدوى.

لم أكن حينها مهتمة بالقراءة. كان اهتمامي الوحيد هو الموسيقى. ثم مرت سنوات عديدة وبعدها وقعت أمامي أغنية "بيبة" بالصدفة، وهي أغنية من التراث الصعيدي نقلها إلينا الشاعر عبدالرحمن الأبنودي ولحنها ياسر عبدالرحمن. الأغنية مليئة بكلمات غير مفهومة، لكن موسيقاها جاءت مبهرة. تذكرت الفيلم فور سماعها لتبدأ رحلتي مرة أخرى معه، لكن بعين مختلفة، ربما لأن اهتمامي لم يعد منصبًّا على الموسيقى فحسب، بل على القراءة أيضًا.

رأيت الفيلم هذه المرة بنسخته المرممة، لأرى لوحات فنية مختلفة عمَّا رأيته من قبل. جاءت الصورة أكثر وضوحًا، بألوان مختلفة وجودة عالية جعلت إدراكي للفيلم أكبر مما كان. في الوقت نفسه قرأت ديوان "كلب ينبح ليقتل الوقت" للشاعر عماد أبو صالح. وهنا استوقفنى التشابة الكبير بين قصائد أبو صالح وبين سيناريو فيلم "عرق البلح". فكلما رأيت مشهدًا عدت إلى القصائد لأجد هذا التشابه الكبير بينهما.

جاء الديوان ناقلًا صورة القرية برجالها الجبابرة ونسائها المساكين وحتى أطفالها المتمردين، وجاء الفيلم ناقلًا صورة النجع برجاله الهاربين ونسائه الشجاعات وأطفاله المساكين، وجهان لعملة واحدة: "الحياة المظلمة". أما الشاعر والمخرج فيشتركان في حب الظل، ويكتفيان بالعمل في صمت دون الظهور. يخشيان الضجيج ويتحاشيان الناس رغم نجاحهما وتحققهما.

"نسوة جالسات على العتبات

ينظرن بفرح

للجلابيب المشنوقة على المسامير

ويتخيلن الأزواج داخلها"

 

حكاية القرية التي هجرها الرجال

ينقل الفيلم صورة القرية التي هجرها رجالها لتبقى النساء وحيدات دون رجال، إلا من كهل وشاب يافع وبعض الأطفال. حياة كاملة. مزج بين الفرح الشديد والتعاسة القاتلة. الرغبة والزهد. الموت والتشبث بالحياة. القتل والبعث. نرى مشاهد لم تتكرر في السينما المصرية حتى اليوم، وممثلات أيضًا لم نشاهدهن بعدها قط. كخطأ في الزمان والمكان جاء "عرق البلح". فمن حيث الإخراج لم نرَ مثل هذا الفيلم حتى للمخرج نفسه الذي أخرج فيلمين آخرين: "ليه يا بنفسج"، و"الساحر". ومن حيث الممثلين والممثلات، فهناك عدد كبير منهم لم يظهر بعده، مثل: مديحة السيد التي أدت عدودة "وصيت عليَّا مين" بالفيلم، وهناك من ظهر مرة أخرى ولم يكن بنفس القوة التمثيلية، مثل منال عفيفي التي مثلت دورين بعد هذا الفيلم ثم اختفت تمامًا، ومحمد نجاتي الذي لم نره بعد ذلك في دور بالأهمية نفسها. أما الفنانة عبلة كامل فلم تظهر بدور جريء كهذا من قبل أو من بعد.

اختلفت المعاناة في شكلها واتفقت في اللون الأسود. فكل نساء القرية عند الرحيل لبسن الجلابيب المزركشة المملوءة بالورد، وفي النهاية كان السواد يكسو المشاهد كلها كناية عن الحداد، الموت الجماعي للرجال. فثمة امرأة مات زوجها في الغربة، وثانية تزوج زوجها عليها، وثالثة لم تستطِع كبت مشاعرها الجنسية فسلمت نفسها لأول رجل غريب يدخل القرية، وأخرى لم تسيطر على نفسها فعرضت نفسها على الصبي الوحيد في القرية. المأساة بأشكالها المختلفة. العيش بدون الأب والابن والزوج. العيش على أمل العودة دون جدوى.

"لم يكن ينخلن

كن يرقصن على إيقاع المناخل

ثم يخرجن من حجرات المعيشة

ملائكة بيضاء

بغبار الدقيق

إلى أن يلطمهن الأزواج فجأة

فيعدن مرة ثانية

أشباحًا

في ملابس سوداء"

في بداية الفيلم يظهر رجل غريب ينادي باحثًا عن أهل الديار حاملًا حقيبة وحيدة ويرتدي بدلة وقميصًا. يدق كل الأبواب دون رد حتى ينفتح أحدها. تبدو القرية خاوية تمامًا من البشر والزرع. ينادي: يا أهل هذه الديار. يا أهل هذه البلدة. أجيبوني. يركض ويركض بحثًا حتى يصل. وعند الوصول تخبره الجدة بأنه المنتظَر طوال السنوات الماضية، وأن جميع الأجداد لم يعودوا هنا، الجميع هاجر. ثم تخبره بأنه يحمل جميع تضاريسهم.

تبدأ الجدة الحكاية من بدايتها عند لحظة دخول الغرباء القرية.

"كملوك قدامى

يحملهم العبيد في المحفات

يضطجعون على أكتافنا

يختلسون النظرات من فتحات النعوش

ويعدون

بفخر

الرجال الكثيرين

الذين يسيرون خلفهم

في ملابس زاهية

لا يؤرق فرحهم

إلا الأشياء البيضاء

في كفوف الزوجات في آخر الصفوف

هل هي مناديل مبللة بالدمع

أم حمامات تحاول الطيران؟"

من هنا يبدأ الرحيل الحقيقي. دخول رجال يشبهون الهنود الحمر، يجرون جملًا، ومن خلف ستار يخرج صوت ينادي رجال القرية رجلًا رجلًا باسمه، يغريهم بالذهب والحرير والسندس، يصدق الرجال وتزغرد النساء فرحًا. يباركن الرحيل، إلا القليل الخائف، يرفض ويرتعد. يحاول الفرار فلا يستطيع. يشحنونهم بسيارة كبيرة ويذهبون بهم إلى المجهول.

كيف تعيش النساء من دون الرجال؟

ربما هي لحظة الميلاد، الشرارة الأولى. ميلاد أول طفل بالنجع بعد هجرة الرجال بأكثر من ستة أشهر. رحال، اسمه رحال. كان على النساء ممارسة طقوسهن بشكل طبيعي. حفل كبير تنقر فيه الدفوف وتدق الطبول. يرقصن ويغنين، يغضضن أبصارهن عن الألم والفقد. لن يحضر ضاربو الطبل إلا بوجود رجال النجع، هكذا جرت العادة، ما اضطر النساء إلى التخفي بجلاليب الرجال والذهاب إلى مكانهم وإحضارهم. دقت الدفوف وعلا صوت المزامير لتخرج أغنية "بيبة" من غناء شريهان وعبلة كامل ومنال عفيفي.

لكن قبل هذا ينقل إلينا المخرج مشهد إحدى النساء التي مات زوجها حاملة عصًا، واقفة -المعاناة الأولى- أعلى السور كأنها على الصراط، ترقص بخفة ريشة وبثقل جبل، تلف وتلف معها عصاها. تردد: "نوح يا غراب ع اللي قتلته الغربة"، وهي الجملة التي قالها زوجها عند الرحيل حينما أصدر الغراب صوتًا فوق رأسه.

تبدأ "بيبة" بظهور المرأة الأولى ضاحكة راقصة وسرعان، ما ننتقل إلى الثانية الباكية المنتحبة، وبعدها ننتقل إلى العاشقة الهائمة -المعاناة الثانية- تنادي: "يا أحمد علي يا أحمد علي النخل راح ضله، بيع النخل يا أحمد علي بيع نخلنا كله.. يا أحمد علي يا أحمد علي اسمك على لساني، بيع النخل يا أحمد علي ولبسني كرداني"، لتتوجه كل النظرات إليها معلنة الحكم بالإعدام قبل وقوع الجريمة. تلك المرأة الجميلة برغباتها الجنسية لم تستطِع مقاومة رجل غريب داخل النجع، سقطت معه في لحظتها، دون أن تحسب حسابًا لنساء النجع ورجاله المهاجرين.

"كانت تنظر لنا بطرف عينها

وتبالغ في الأنين

لتتأكد أن هناك من يبكي لأجلها

ولو لمرة

قبل نهاية العمر"

تعلو زغرودة من النجع، تتكرر مرات كثيرة من امرأة -المعاناة الثالثة- تحمل رضيعها بيد، وبالأخرى تسند دلوًا فوق رأسها مملوءًا بالشربات، توزعه على النساء باكية، تشق ثيابها وبصوت متقطع صارخ تقول: سلمان كان نفسه في عيل جبت له رحال، رحال اتيتم يا جد. تحمل التراب وتضعه على رأسها، تصرخ وتلطم لتعلن موت زوجها هناك في بلاد غريبة. ثم سرعان ما ننتقل إلى المشهد التالي لنرى إجهاض طفل لن يرى الدنيا. هذا الطفل وليد الخطيئة، ابن لامرأة عاشقة ورجل غريب ضارب طبل. تقفز المرأة من أعلى إلى أسفل، تضغط الأخرى على بطنها بقوة فيسيل الدم على فخذيها لتهدأ وتطمئن أن خطيئتها لن يعلمها أحد سوى فتاة صغيرة تحبها وتحفظ سرها. لكن يظهر الصبي في المشهد ليرى ما يحدث، وبدلًا من أن يقتلها يقتل كلبًا لم يفعل شيئًا.

"كلب ينبح

لا لأي شيء

إلا ليقتل الوقت"

 

فرح غير مكتمل

مرت بالنجع لحظات كان من الممكن أن تصبح سعيدة مليئة بالفرح. لكن دائمًا ثمة شيء ناقص، شيء يمنع من الفرح. صوت الحزن أعلى كثيرًا كصوت الطبول والتعديد. يستطيع الصبي أن يصعد النخلة العالية ليجلب عرق البيضة الذي طالما انتظره أهل النجع رجالًا ونساء وأطفالًا. سيشفى الجد عند شرابه وبشفاء الجد سيعود كل شيء إلى طبيعته. عند تلك اللحظة وبعد شرب الجميع العرقَ يتحول المشهد إلى مأتم. تجلس النسوة في حلقة كحلقات التعديد وتبدأ بالشرب، زجاجة تمر على الجميع مرة وأخرى حتى تبدأ عدودة: "وصيت عليَّا مين"، لتبكي وتنوح النساء جميعًا، وفي غرابة وذهول تقوم إحداهن -المعاناة الرابعة- لتذهب إلى غرفة الصبي، توقظه وتشده إلى غرفتها، وتعرض نفسها عليه بجنون وارتباك واحتياج. يرفضها الصبي فتحاول ثانية، لتأتي الجدة وتضربها حتى البكاء.

في اليوم التالي يخيم السواد على النجع، فهناك امرأة تخشى الظهور والثانية تخشى الموت، وأخريات يعلن الحداد على أزواجهن. عند الظهور الجماعي للنساء لحماية الأرض من اللصوص يُعلن الحكم بالإعدام على المجهِضة طفلها، يعرف الجميع في اللحظة نفسها فيشعلن النيران أمامها، فإما أن تلقي بنفسها فيها وإما يلقينها هن. بهذا تنتهي حياة إحداهن، المحِبة العاشقة بالفيلم، وتسلم الراية للفتاة الصغيرة لتكون حكايتها مماثلة لها تمامًا. قصة الحب الوحيدة في الفيلم التي من المفترض أن تضيف قليلًا من الفرح عليه، بائسة كما القصص كلها. تقع الفتاة والصبي في الحب والخطيئة، لتصبح بعد قليل حبلى.

"قضين عمرهن كله

في الحجرات الضيقة

لم يتذكرن أبدًا

أن ينظرن للشمس

وهن ينشرن الغسيل فوق السطوح

المرات القليلة التي غادرن فيها المنازل

كن يسقطن بعد كل خطوة

لأنهن نسين المشي

في مساحات واسعة"

اللحظة السعيدة الأخيرة في الفيلم هي لحظة العودة. عودة الرجال المهاجرين، بعد هذا كله كأن شيئًا لم يكن. يتعاملون مع نسائهم كما لو كانوا موجودين طوال الفترة الماضية، يشكون ويبكون من أهوال ما مضى، يرتمون في أحضانهن لنسيانه. لكن كل شيء تغير، فالنسوة لم يعدن كما كن، قابلوهن بالرفض الشديد ما جعلهم يتساءلون عن أسباب هذا الرفض، ليجتمعوا في المساء ويجمعوا الرأي على أن الصبي هو السبب. ربما كلهن أحببنه ووقعن معه في الخطيئة. لينتهي الفيلم بقتل الفتى تاركًا حبيبته وابنه في أحشائها. هكذا تنتهي الآلام بآلام أخرى.

"يعودون كل مساء

حاملين الفؤوس على الأكتاف

وبأورام صغيرة في الأيدي

زرعوا القمح للتمويه

بعد فشلهم في العثور على الكنز

الزوجات ينظرن لهم

في صمت

ولا يعيرنهم

عن أيضًا أضعن أعمارهن

في سرقة النهر

بجرارهن"