الأقباط والعمل الأهلي
مجدي جرجسالقبط والعمل السياسي والأهلي.. أطر ومحاور
2024.01.04
القبط والعمل السياسي والأهلي.. أطر ومحاور
ما من شك في أن التغييرات الجذرية التي شهدتها مصر بعد ثورة يوليو 1952م قد ألقت بظلالها على مناحٍ شتى، كان من بينها المشهد السياسي والعمل الأهلي؛ ففي ظل غيبة الأحزاب السياسية، انحصر العمل السياسي في مؤتمرات الدعم والحشد، واحتشدت الجماهير خلف القيادة السياسية في مواقف قومية بعينها سواء في القرارات المصيرية، مثل: التأميم وبناء السد العالي وغيرها. أو في التكاتف لدعم المجهود الحربي بعد نكسة عام 1967م. من ناحية أخرى كان لقرارات التأميم أثرها البالغ في العمل الأهلي، حيث غاب كبار الأعيان الرعاة الرسميون لمعظم الأنشطة الأهلية من خلال الجمعيات والمؤسسات المختلفة.
على أن ما قبل ثورة يوليو شهد زخمًا كبيرًا في العمل السياسي والعمل الأهلي، وكان للقبط أدوار مهمة؛ من خلال كبار الأعيان، وترشحهم للمجالس النيابية، وانتزاعهم أدوارًا مهمة في هذا المجال، أو نشاطهم الكبير في العمل الأهلي، وما أسهموا به في تأسيس وتمويل الأنشطة التعليمية والثقافية والاجتماعية. وبعد ثورة 1952م أخذت هذه الأدوار تخبو وتتوارى تدريجيًّا حتى انسحب القبط وغابوا عن المشهد السياسي، ثم عادوا في عصر مبارك ممثَّلين في المؤسسة الدينية (الكنيسة القبطية)؛ كما أن جمعيات أهلية وخيرية قبطية عريقة أخذت في الاضمحلال والانزواء لأسباب يجب التوقف أمامها. وقضية عزوف القبط عن العمل السياسي، أو الأهلي، أو استئثار الكنيسة بكامل المشهد وبروزها كممثل وحيد للقبط أمام الدولة، تستدعي التأمل والدراسة؛ لفهم ملابساتها وتحليل مسارها، كذلك هيمنة الكنيسة على معظم الأنشطة الثقافية والتعليمية والاجتماعية رسخ من هذه العزلة، أو على الأقل وصَمَها بالطابع الطائفي.
وهذه دعوة للأساتذة والزملاء المتخصصين للكتابة حول هذه القضية من زوايا مختلفة؛ أملًا في إثارة النقاش حول هذه القضية المهمة والشائكة.
وهذه المداخلة بمثابة مدخل تاريخي سريع لأهم المحطات في تاريخ تمثيل القبط والعمل السياسي والمدني، تستحق كل محطة منها وقفات مستقلة.
شهد القرن الثامن عشر تحولًا مهمًّا في تاريخ القبط عامة، وفي تاريخ العمل الأهلي والمشاركة المدنية خاصة، حيث دانت القيادة داخل الطائفة القبطية إلى فئة كبار الأعيان، وصاروا هم المتصدرون لكامل المشهد، وعلى الرغم من أن نظرة الدولة للقبط تشكلت عبر تراث طويل بأنهم طائفة دينية يأتي على رأسها المؤسسة الدينية (الكنيسة)، فإن هذه النظرة تم تجاوزها وقبلت الدولة وضعًا جديدًا أفرز رجالًا مدنيين على رأس طائفة دينية. وهذا المشهد مهم ودال في تاريخ القبط، حيث إن غيبة التمثيل الديني يسمح بحراك أوسع على مستوى المجتمع بأسره، وهو ما رصدناه من بروز اجتماعي لكثير من أعيان القبط وقيامهم بأدوار مهمة على صعيد المجتمع المدني، وعلى الرغم من أن المصادر الكنسية سجلت لهذه النخب أدوارها على مستوى الطائفة القبطية؛ من خلال إغداق الأموال على المؤسسات الدينينة والتعليمية القبطية، وما تركوه من أوقاف جليلة لرعاية هذه المؤسسات، فإن أدوارهم على المستوى الأوسع، وهو سياق المجتمع المصري، يمكن تلمس جوانب منه على الأقل في سيرة المعلم نيروز نوار "كبير القبط،" بحسب وصف الجبرتي له، والأخوين الشهيرين إبراهيم وجرجس جوهري.
من ناحية أخرى تُبرِز مشاهد كثيرة انغماس كبار أعيان القبط في العمل السياسي، ويأتي في المقدمة المعلم إبراهيم جوهري (ت. 1795م)، وكيفية حسمه لموقفه من الأحداث السياسية الكبرى التي عاصرها وشارك فيها، وأثر قراراته وانحيازاته على الطائفة القبطية ككل، وفي كل مرة كانت له حسابات دقيقة ومشاركات فاعلة. ظهرت حنكة المعلم إبراهيم جوهري السياسية في نفس العام الذي تولى فيه منصبًا كبيرًا كمباشر؛ حيث اندلع في عام 1768م نزاع كبير بين الدولة المركزية في إستانبول ووالي مصر آنذاك الأمير علي بيك الكبير، والذي قرر مناوأة الدولة العثمانية والخروج عن طاعتها. في خِضَم هذا الصراع اتخذ المعلم إبراهيم جوهري موقفًا مؤيدًا للدولة المركزية، واستمر يمارس مهام منصبه في القاهرة ولم ينضم، مثل: المعلم رزق كبير المباشرين آنذاك، إلى علي بيك الكبير، وثبت بُعد رؤيته حيث انتهت الأزمة بالقضاء على علي بيك الكبير. وفي مرة ثانية، أرسلت الدولة العثمانية في عام 1786م حملة لتأديب حكام مصر الأميرين إبراهيم بيك ومراد بك، في هذه المرة اتخذ إبراهيم جوهري موقفًا مغايرًا وناصر جانب الأمراء ضد الدولة المركزية، وهرب، ومعه عدد كبير من المباشرين القبط، مع الأمراء إلى الصعيد لفترة خمس سنوات، في هذه المرة لم يكن إبراهيم جوهري يمثل نفسه فقط، بل كان ممثلًا لكل القبط على المستوى الطائفي، وللمباشرين القبط على المستوى المهني.
حدث آخر مهم في تاريخ مصر يبرز كيفية تعامل كبار المباشرين القبط مع المشهد السياسي وانغماسهم فيه؛ ففي أثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م) كان للمباشرين القبط أدوار مهمة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، حيث مارس رجال الحملة ضغوطًا هائلة على المباشرين القبط للوقوف على حقيقة موارد مصر المالية وكيفية تحصيلها. على أن قراءة المشهد من قِبَل المباشرين القبط، بقيادة المعلم جرجس جوهري، وتعاملهم مع ثلاث قوى فاعلة حاضرة ومتربصة؛ هم: الفرنسيون، والعثمانيون، والأمراء المماليك الفارون، جعلهم يمارسون مماطلات ومواءمات تنم عن إدراك كامل للمتغيرات السياسية، وتقديراتهم وتنبؤاتهم لتغيير موازين القوى، وكيفية قراءة كبار المباشرين للمشهد وما ستؤول إليه الأمور، وإلى أي جانب سينحازون.
من ناحية أخرى حتى أواخر القرن الثامن عشر، كانت معظم أنشطة المجتمع تُدار بواسطة العمل الأهلي، وكان النمط الشائع لتأسيس وتشغيل المؤسسات التعليمية والخدمية والصحية هو نظام الأوقاف؛ حيث شكل نظام الوقف مصادر لتمويل الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والصحية المختلفة، وفي هذا الإطار قام الأعيان القبط بكل الأدوار في رعاية وتمويل الأنشطة التعليمية والثقافية والدينية والاجتماعية.
محمد علي وإعادة التأسيس واختلاف الأدوار:
قامت فلسفة محمد علي (1805-1848م) في الحكم بالأساس على فرض هيمنة الدولة على كافة نواحي الحياة، وحلت مؤسسات الدولة محل مؤسسات المجتمع، وهذه السياسة قلصت إلى حد كبير دور النخب أو المؤسسات والهيئات غير الحكومية؛ حيث تمكن محمد علي من إعادة تشكيل القوى الفاعلة في المجتمع بطريقة درامية، وأنهى وجود كل النخب القديمة الفاعلة.
أنهى وجود الأمراء المماليك؛ بدءًا بأساليب الترغيب، وانتهاءً بالتصفية الجسدية - في مذبحة القلعة الشهيرة، وانتهاء النفوذ المملوكى، وبالتالي أيلولة ثرواتهم الضخمة إلى موازنة الباشا، قلصت دور كبار المباشرين القبط؛ فمن جهة انقطع سيل الثروات المتدفق إلى جيوبهم نظير إدارتهم المالية لثروات المماليك، ومن ناحية أخرى انقطع المدد المعنوي الذي كانوا يستندون إليه، واستطاع محمد علي أن يفتت نفوذ كبار رجال الدين الإسلامي، واستطاع أن يبث – أو يستغل - روح الحسد بين السيد عمر مكرم نقيب الأشراف وكبار مشايخ الأزهر، حتى تمكن من التفريق بينهم، ثم التعامل مع كل طرف على حدة واحتواؤه، كما أنه سيطر على الأوقاف وصارت تحت قبضته يهب وظائفها الدينية وعوائدها لمن يشاء، وأما كبار المباشرين القبط فتمت إزاحتهم عن المشهد برُمَّته؛ حيث تعامل محمد علي مع المجتمع المصرى من خلال المؤسسات وليس الأفراد، وعلى ذلك أعيد الشكل التقليدى للطائفة القبطية، حيث يأتي على رأسها البطريرك (بصفته الممثل الشرعي)، وتوارى إلى حد بعيد دور الأراخنة. من الناحية الاقتصادية، فقد المباشرون مصادرهم بغيبة الأمراء المماليك عن المشهد وممتلكاتهم التي كان يديرها المباشرون؛ كذلك استحدث محمد علي نظامًا محاسبيًّا جديدًا أفقد المباشرين القبط سلطتهم المعرفية، وتقلصت أيضًا مواردهم.
حقيقةً: إن مركزية الدولة وتركز السلطات والثروات في يد الباشا قد منعت بروز نخب قوية، ولكن وُضعت أسس جديدة للترقي والحصول على الوظائف الكبيرة قوامها الأساسي القدرة والكفاءة، ومن ثم أعطيت الفرصة لبروز أفراد عديدين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تشكل القوى الاجتماعية الجديدة؛ لذا خلا المشهد السياسي إلا من الباشا وحاشيته.
على أن النمو المتسارع لقطاع التعليم وربطه بحاجات الدولة، وافتتاح المدارس القبطية في عصر البابا كيرلس الرابع (1853-1862م) ساهم في تخرج عدد كبير من القبط المؤهلين لتولي مناصب حكومية، وعلى ذلك شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر عودة كثير من الشخصيات القبطية ذات الوظائف العليا للبروز الاجتماعي، ومرة أخرى أيضًا اتجهت هذه الفئة إلى السعي نحو زمام الطائفة مرة أخرى، وبرز الصراع مرة أخرى على أشده بين رجال الدين - الذين استقروا طوال النصف الأول من القرن - وبين الأراخنة القبط الذين حققوا مكاسب اجتماعية مهمة داخل المجتمع، وانتهت أخيرًا هذه الصراعات باستصدار أمر عالٍ في عام 1874م بإنشاء مجلس ملي للطائفة يتولى أمورها، ولكن تعطل هذا المجلس من قبل البابا كيرلس الخامس (1874-1927م)، ولكن صدر مرة أخرى أمر عالٍ بإعادة إنشائه في عام 1883م.
في أواخر القرن التاسع عشر انفتح المجال العام على مصراعيه، وظهرت نخب جديدة متعلمة تبنت مشروعات كثيرة ومتنوعة، وانخرطت في العمل السياسي والمدني. على الجانب القبطي بدأ كبار الأعيان في تأسيس الجمعيات الأهلية التي كان لها أدوار مهمة في التعليم والثقافة والصحة، كذلك توالى إصدار الصحف والمجلات القبطية، وتنوعت وتباينت توجهاتها ومواقفها من العمل والمشهد السياسي.
وأثمرت هذه التطورات وتبلورت في ثورة 1919م، والتي بدأت مدنية خالصة؛ حيث إن المشاورات والاجتماعات والمبادرات جميعها جاءت عن طريق رموز مدنية خالصة، ولم يكن لأي رجل دين مسلم أو مسيحي أي دور أو حتى مشورة في الترتيب والتخطيط للثورة، وكان لأعيان القبط دور بارز فيها؛ حيث بادر أعيان القبط من رواد نادي رمسيس بالتواصل مع الوفد. والحق أن كلتا المؤسستين الدينتين الكنيسة والأزهر امتعضتا من قيام الثورة، ولكن في ظروف معينة ظهرتا في المشهد وهيمنتا عليه حتى اغتصب رمز الهلال والصليب المشهد، وحجبا مشاهد أخرى أهم.
تزايدت حَمِية العمل السياسي والأهلي في عشرينيات القرن العشرين وصولًا إلى ثورة يوليو 1952م، وشارك القبط بفاعلية في العمل السياسي والعام، حتى جاءت ثورة يوليو لتفرض واقعًا جديدًا على المشهد السياسي، دفع الكثيرين للانسحاب.
كانت فترة البابا شنودة (1971-2012م) فترة مهمة ومفصلية في تاريخ القبط؛ فقد كان للبابا شنودة رؤيته الخاصة في علاقة القبط بالدولة وبالعمل السياسي وبالمشاركة المدنية، واستطاع أن يفرض تصوره على مجمل الطائفة، فقد كان للبابا شنودة رؤيته الخاصة التي دفعته حتى للوقوف في وجه السادات رئيس الجمهورية، وفي هذه المرحلة الأولى من حياة البابا شنودة كانت هناك تجارب فريدة خرجت عن هذا النسق والتصور، نذكر منها تجربة الأنبا بيمن أسقف (1975-1986م)، والأنبا أثناسيوس مطران بني سويف (1962-200م).
أصدر الرئيس السادات قرارًا بعزل البابا شنودة، وبعد أن قضى البابا شنودة أربعين شهرًا في الدير عاد إلى مهام منصبه في 5 يناير 1985م، ومنذ اللحظة الأولى تبنى البابا شنودة سياسات جديدة، أعاد من خلالها هيكلة الطائفة داخليًّا، وهيكلة علاقاتها بمؤسسات الدولة والمجتمع، كل هذه السياسات تسير في اتجاه تقوية قبضة البابا ورجاله على كافة أمور الكنيسة والطائفة، وتمركز كل الصلاحيات والسلطات حول شخصه، ومن ثم حدث تمثيل كامل للقبط أمام الدولة ومؤسساتها.
بعد عام 1985 تحول البابا شنودة إلى رجل دولة، يقوي علاقاته برموز النظام، ويظهر في كل المناسبات الرسمية إلى جوار الرئيس مبارك، وتبنى سياسة جديدة في التعامل مع جموع القبط، واستغلالها كورقة مع النظام، وبدأ يدخل معترك السياسة بقوة؛ ففي جلسة المجمع المقدس في 6/ 6/ 1987، أصدر المجمع المقدس قرارًا بتشجيع القبط على تسجيل أسمائهم في الجداول الانتخابية، وفي جلسة 5/ 6/ 1993 قرر المجمع المقدس أن يضاف إلى استمارة العضوية الكنسية بيان جديد؛ وهو: هل للعضو بطاقة انتخابية أم لا؟ وفي جلسة 29/ 9/ 1993م قرر المجمع المقدس إرسال برقية تأييد لترشيح الرئيس حسني مبارك لفترة رئاسة ثالثة، وذلك لخير مصر وسلامها، "وأعضاء المجمع يهيبون بكل أبنائهم أن يذهبوا جميعًا للإدلاء بأصواتهم". وأصبحت الكنيسة تتدخل في توجيه القبط في كافة الأمور السياسية، فيُوجَّه القبط إلى انتخاب أعضاء الحزب الوطني، ويُرحب بمشروع التوريث والترويج لتولي جمال مبارك الحكم. بالطبع فترة البابا شنودة تعد محطة مهمة في تاريخ القبط لا زالت آثارها ماثلة ومؤثرة.
على أن قضية القبط والعمل السياسي تحتاج إلى عشرات المعالجات. ويمكن على سبيل المثال لا الحصر التعاطي مع هذه القضايا من خلال محاور عدة، منها: تطور بروز نخب قبطية متعلمة ومشاركاتها في - أو تصوراتها عن - العمل السياسي والأهلي، الجمعيات والمؤسسات الأهلية القبطية وأدوارها، الصحف والمجلات القبطية وتوجهاتها وترويجها للعمل السياسي والأهلي، أسباب عزوف أو انخراط القبط في العمل السياسي والمشاركة المجتمعية، كيف تُصوِّر مناهج التعليم الدينية العمل السياسي والعمل الأهلي؟ أسقفية الشباب ومؤتمراتها وتصوراتها عن العمل السياسي والأهلي، نماذج مختلفة لتجارب تاريخية أو معاصرة.