الأقباط والعمل الأهلي

القس باسيليوس صبحي

تاريخ الجمعيات والمؤسسات الأهلية القبطية

2024.02.17

مصدر الصورة : تصوير آخرون

نشأة العمل الأهلي القبطي ودوره في خدمة المجتمع المصري

مقدمة:

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر زخمًا ونشاطًا كبيرًا على مستوى العمل الأهلي، وتوالت المبادرات الفردية من أعيان القبط لتقديم خدمات اجتماعية وتعليمية وثقافية. بدأت هذه الظاهرة من قبل أثرياء سعوا لتقديم يد العون المالي إلى الفقراء من أبناء طائفتهم، كاستمرار لتقاليد قبطية منذ عصور سابقة، تبارى فيها الأعيان (الأراخنة) على وقف الأموال الجزيلة على الفقراء والمساكين، وسرعان ما تطورت هذه الجهود وتحولت من العمل الفردي إلى العمل الجماعي، من خلال تأسيس جمعيات ومؤسسات أهلية، وحيث إن هذه المبادرات جاءت من أفراد طبيعيين وليس من خلال مؤسسات دينية، لذا اتجه مؤسسوها لتقديم الخدمات المختلفة للمجتمع المصري عامة، دون تمييز ديني، وبخاصة فيما بتعلق بمؤسسات التعليم.

وهذه النخبة القبطية التي تصدت للعمل الأهلي هي نتاج لمشروع محمد علي باشا (1805- 1848م)؛ حيث شهد قطاع التعليم نموًّا مطردًا، وفي الوقت نفسه كان من حسن حظ الأقباط وجود بطريرك إصلاحي مستنير على رأس الطائفة القبطية، هو أنبا كيرلس الرابع البطريرك الـ 110 (1853-1861م) حيث وعى قيمة التعليم وقام بافتتاح عدد من المدارس القبطية سواء في القاهرة أو في الأقاليم، وإتاحتها بالمجان لجميع الطلبة من المسلمين والمسيحيين، مصريين وأجانب. كل هذه الأمور أسهمت، بدون شك، في تخرج عدد غير قليل من المتعلمين والمثقفين الأقباط، الذين شكلوا النخبة التي صارت مؤهلة لتولي مناصب حكومية، ومن ثم شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بروز الكثير من تلك الشخصيات القبطية من ذوي الوظائف العليا، والذين لعبوا أدوارًا مؤثرة في العمل الأهلي من خلال المبادرات الشخصية على المستوى الفردي، والمبادرات الجماعية من خلال تأسيس الجمعيات والمؤسسات الأهلية التي قدمت خدمات متنوعة، فلم تكن خدماتهم موجهة للأقباط فحسب، بل كانت موجهة للمجتمع المصري ككل بمختلف عناصره ومكوناته. وتحاول هذه المقالة الوقوف عند هذه الظاهرة، ورصد بعض من ملامحها.

فعلى المستوى الفردي اشتهر عدد من رجال الدولة الأقباط في هذا المجال، مثل: تادرس عريان رئيس ديوان المالية في عهد الخديوي سعيد، والذي شهد له علي باشا مبارك بقوله: "واشتهر بين قومه بفعل الخير والإحسان شهرة بليغة، فكم من كنائس قليلة الإيراد وبيوت مستورة وأشخاص منقطعة كان مرتبًا لها مرتبات شهرية أو سنوية، كما دلت على ذلك دفاتره التي ما كان يطلع عليها أحد حال وجوده".

أما على المستوى الجماعي، فقد اجتمع عدد من أعيان القبط في بيت برسوم بك جريس رفيلة في ليلة الثلاثاء 6 يناير 1874م، وتناقشوا في حالة الفقراء والمساكين الأقباط، ومدى استفادتهم من أموال الأوقاف، بعد أن استحوذ نظار الأوقاف على مال الأوقاف، وأول عمل لهم أنهم عزلوا هؤلاء النظار وشكلوا جمعيَّة من نحو الأربع مئة من أعيان الشعب للمطالبة بالإصلاح، وفي يوم الجمعة 16 يناير 1874م اجتمع أعضاء هذه الجمعيَّة وانتخبوا أول مجلس ملي مكون من 12 عضوًا و 12 نائبًا، وصادقت الحكومة على قيام هذا المجلس في 6 فبراير 1874م، وتحددت مهام هذا المجلس في الموضوعات الآتية: الفقراء، الأوقاف، الكنائس، المدارس، المطبعة.

كانت هذه نقطة البداية للعمل الجماعي، وهذا كان سبب ارتباط المجلس الملي (المؤسسة الرسمية الممثلة للأقباط وقتها) منذ نشأته بالعمل الخيري والخدمات المجتمعية ... وسرعان ما بادر آخرون بتأسيس عدد من الجمعيات والمؤسسات الخيرية والتعليمية والتأهيلية، والتي كان أولها:

1) جمعية المساعي الخيرية:

على الرغم من أن فكرة تأسيس هذه الجمعية بدأت بمنظور ضيق، يقوم على تجميع مبالغ شهرية من الأعيان والموظفين لمساعدة فقراء القبط؛ نظرًا لعدم كفاية المبالغ التي كانت تُصرَف لهم من صندوق الفقراء بالبطريركية؛ فإنها سرعان ما تحولت إلى مفهوم أوسع لخدمة المجتمع ككل، انطلاقًا من إحساس المؤسسين بمسؤوليتهم تجاه الوطن وخدمة كافة أطيافه وهوياته، بتأسيس ثلاثة مستشفيات الواحد تلو الآخر وصيدلية ومشغل لتعليم البنات الأشغال اليدوية والمنزلية، هذا غير تأسيس عدد من المدارس الابتدائية والأولية. ومنذ البداية اتضحت هوية هذه الجمعية وتوجهاتها؛ حيث أُشهرت هذه الجمعية في 8 يناير 1881م بمنزل يوسف أفندي مفتاح بالقبيلة (بالأزبكية) بحضور ثلاثين من النخبة القبطية وقتها، أمثال: بطرس غالي وميخائيل شاروبيم وخليل إبراهيم. ودُعي للاجتماع التأسيسي عدد من العلماء الأفاضل، هم: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد النجار، وعبد الله أفندي نديم، وأديب إسحاق ، وخطب في هذا الاجتماع عبد الله النديم، وأسندت رئاسة الجمعية إلى بطرس غالي، فكان أول رئيس جمعية قبطية في مصر، وسارت في مهمتها لمساعدة الفقراء من مبرات المحسنين . الأمر الذي يُعبر عن توجه مؤسسي تلك الجمعية منذ البداية ونشاطها فيما بعد، فنقلت بذلك العمل في المجال الاجتماعي والخيري من نطاق طائفي ضيق إلى حيز مجتمعي أوسع وأرحب.

أهداف الجمعية وأنشطتها:

كان حرص المؤسسين الأوائل للجمعية من البداية، وهم يُسطرون قانون (لائحة) الجمعية في أول يونيه 1881م، أن يوضحوا الهدف الأساسي من تأسيس تلك الجمعية، وهو الاهتمام بمساعدة كل محتاج (بند 2)، وتجنب التعرض في جلساتها ومحافلها للمفاوضة والمداولة في الأمور السياسية والمباحثات والمجادلات في المواد الدينية (بند 3)، وأن تكون أعمالها قاصرة على الأعمال التي تعود بالمنفعة المادية والأدبية على الفقراء، مثل: دفن ميت مُعدم، ومساعدة من خلفهم بعده، والمعاونة على تربية الأيتام والاهتمام بتعليمهم وتهذيبهم، ومعالجة المريض المحتاج وغير ذلك من الأعمال الخيرية (بند 4) العمل على تأسيس المدارس في المحروسة (القاهرة) والأرياف (بند 5).

بل تنوعت أنشطة الجمعية وامتدت لمجالات غير مسبوقة، مثلما حدث في سنة 1886م، حينما كتب تادرس أفندي وهبي رواية مسرحية عن شخصية "بطرس الأكبر قيصر روسيا"، فتم الاتفاق معه على تمثيلها على مسرح الأوبرا الخديوية؛ مما عاد على الجمعية بالنفع المادي والمعنوي؛ أي: أن الجمعية غدت بهذه الخطوة تعمل على تغذية العقول قبل الأبدان، انطلاقًا من قناعتها بأن التهذيب والتثقيف العقلي والذهني هو الطريق الطبيعي لتنشئة إنسان سوي، قادر على كسب عيشه بكرامة، وإعالة نفسه وأسرته بعزة وشرف.

وإن كانت قد حدثت بعض الصعوبات في الطريق، إلا أن عزيمة المؤسسين على المضي قُدمًا كانت أقوى من كل الصعوبات والتحديات؛ لذلك وافقوا في 26 فبراير 1886م على ضم صندوق الفقراء بالبطريركية إلى صندوق الجمعية وتوحيدهما وجعلهما واحدة تحت اسم: "جمعية المساعي الخيرية القبطية"، ويكون مركزها بالدار البطريركية، وحل مجلس إدارة الجمعية القديم وتشكيل مجلس آخر يعمل بنظام جديد ابتدأ من شهر أبريل من نفس السنة، كل ذلك كان لضمان استمرار العمل بالجمعية وعدم تعطيل مسيرتها الرامية لتقديم الخدمة للفقراء والمساكين وتحقيق جليل الأعمال. 

تغيير اسم الجمعية:

على الرغم من أنها ظلت مدة الـ26 سنة الأولى من عمرها – أي: حتى سنة 1907م - تجمع الأموال من المحسنين وتوزعها على ذوي الحاجة، إلا أنه في سنة 1908م تقرر أن يتغير اسم الجمعية لتصير: "الجمعية الخيرية القبطية"؛ حيث بدأت في الدخول لمرحلة جديدة من تاريخها التليد، حيث بدأت في تأسيس المشاريع الخيرية المتنوعة، التي ترمي إلى مداواة المرضي وتطبيب الجراحات، وتعليم الفتيات ما يلين لأيديهن من الحرف التي تغنيهن عن الحاجة، وتعصم وجوههن من ذل السؤال، علاوة على الصرف على عشرات من الطلبة لتساعدهم على تحصيل العلوم العالية، غير مميزة بين جنس أو طائفة، بل تمد يدها للكل دون فرز أو تجنيب.

المشاريع الخيرية:

أ) الخدمات الطبية:

أنشأت الجمعية الخيرية في سنة 1908م مستشفى بسيطًا بكلوت بك، وفي سنة 1926 أسست المستشفى القبطي القابع حتى اليوم بشارع رمسيس، وهو أول مستشفى أهلي في القاهرة؛ حيث خصصت عددًا من أَسِرَّة المستشفى للعلاج المجاني، وعلى الرغم من هذا الاسم الذي يبدو فيه نزعة قومية فإن د. نجيب محفوظ طبيب النساء والتوليد المشهور، قال عنه: "وقد حمد الناس للجمعية أن جعلت لهذا المستشفى صفة قومية لا تفرقة فيها بين فقير وفقير، فعالت المرضى على اختلاف نحلهم وتعدد أجناسهم ومللهم. وكما قال رئيس الجمعية (وقتها: جرجس باشا أنطون) في حفل افتتاحه: إن المستشفى خيري عام، وإن تسميته بالمستشفى القبطي لم تكن إلا نسبة للجمعية التي أنشأته ...". لقد كان بالحق المستشفى القبطي واحدًا من أهم وأبرز ثمار النشاط الاجتماعي للأقباط في مصر. 

ب) تعليم وتأهيل البنات:

في سنة 1910م أنشأت الجمعية المَشْغل البطرسي، نسبة إلى بطرس باشا غالي رئيس الجمعية وقتها، وقد كان الهدف منه إعداد الفتيات الفقيرات للمستقبل بمدارس المشغل من دراسة ابتدائية وتدبير منزلي وفنون تطريزية ... إلخ.

ج) الخدمات التعليمية:

قامت الجمعية بالصرف على تعليم عدد كبير من أبناء الفقراء بالمجان، وصرف مرتبات وإعانات شهرية، وصدقات في المواسم والأعياد للأسر الفقيرة؛ لقد كانت بحق المدة من 1908 إلى 1930م هي المدة الذهبية في تاريخ هذه الجمعية؛ نظرًا لجليل الأعمال التي قدمتها الجمعية للمجتمع في تلك الفترة.

۲) جمعية الـتـوفـيـق القبطية المركزية: 

تأسست جمعية التوفيق القبطية سنة 1891م، بواسطة رفلة جرجس مؤسسها وأول رئيس لها، فصارت ثانية الجمعيات القبطية في مصر، وإن كانت قد نشأت على فكرة المطالبة بالإصلاح في المجتمع القبطي، ومناصرة المجلس الملي في الخلاف الذي كان قائمًا بينه وبين البطريرك القبطي وقتها (أنبا كيرلس الخامس)، إلا أن مؤسسيها وجدوا أن طريق الإصلاح لا يقتصر على الشعارات والمناقشات، بل سعوا في طريق الإصلاح بشكل مختلف، حيث قرروا شراء مطبعة وتأسيس مجلة تكون منبرًا للتعبير عن الرأي، ومصدرًا للتعليم والتثقيف، كما عملت الجمعية على تأسيس عدد من المدارس الصناعية والابتدائية بالقاهرة والأقاليم، وإلقاء المحاضرات في المناسبات المتنوعة، كتلك التي كانت بعنوان: "كيف تسترد مصر مجدها القديم"، والتي ألقاها المحامي الشهير أخنوخ فانوس بمقر الجمعية بمناسبة عيد النيروز (رأس السنة القبطية 1615)، في يوم السبت 10 سبتمبر 1898م؛ كما كانت الجمعية تسعى لتأسيس متحف لحفظ الآثار القبطية وطباعة التوراة باللغة القبطية.

أ‌)    مجلة التوفيق:

صدر العدد الأول من تلك المجلة في 8 سبتمبر سنة 1896م، كمجلة أسبوعية تصدر كل سبت (ثم نصف شهرية)، كانت المجلة تُطبَع في مطبعة التوفيق التي تمتلكها الجمعية، وتوزع على المدارس ورجال الدين مجانًا؛ لكونها "مجلة أدبية تهذيبية"، كما كان يظهر ذلك على غلافها كل عدد، واستمرت المجلة في الصدور حتى احتجبت، ثم عادت إلى الصدور مرة أخرى سنة 1959م، ثم توقفت نهائيًّا في الستينيات من القرن العشرين. وقد ناقش من خلالها محرروها قضايا المجتمع بحرية وصراحة، كعادة الصحف والمجلات في ذلك الزمن. 

ب‌)    المدارس:

كما أسست الجمعية أول مدرسة صناعية للأقباط، واشترت سراي السلحدار بآخر شارع ݘلبي بالفجالة بالجهة المعروفة ببركة الرطل، وجعلت فيها مدرستين الواحدة للبنين والأخرى للبنات، وبدأت الدراسة في المدرستين من أول سبتمبر 1898م، ثم أنشأت لها ثلاثة فروع في الإسكندرية وطنطا والفيوم، وقد قام كل فرع منها بإنشاء مدرسة قبطية.

۳) جمعية النشأة القبطية: 

هي ثالث جمعية أنشأها القبط، تأسست في مارس سنة 1896م من اثني عشر عـضـوًا فـي حارة السقايين بالقاهرة على ثلاثة مبادئ رئيسة، هي: (1) الحث على دراسة اللغة المصرية القديمة (أي: القبطية) وتشجيع المشتغلين بها علمًا وعملًا. (۲) تدريس قواعد الدين تـفـسـيـرًا ووعـظًـا. (۳) جمع تاريخ وافٍ للأقباط بقدر الإمكان، بصفته جزءًا لا يتجزأ من تاريخ مصر. 

وفي سنة ۱۸٩٨ أصدرت الجمعية نتيجتها السنوية، وكانت أول نتيجة قبطية صدرت من نوعها. وهذه النتيجة تصدر في ثلاثة أنهر، أحدها: للتاريخ القبطي، وثان: للتاريخ الإفرنجي (الميلادي)، وثالث: للتاريخ الهجري. وهذه النتيجة عمل مهم وفريد من نوعه، والجمعية تقوم بأداء رسالتها مـن سـنـة ١٨٩٨ إلى الآن في إصدار هذه النتيجة، وهي تبين أوقات الزراعة والري وتقلُّب الجـو وفـيـضـان النيل ومواسم زراعة كل نبات؛ کما تبين مواعيد الأصوام والأعياد، وتاريخ اسـتـشـهـاد الـقـديـسين، ووفاة البطاركة، وتذكار تكريس الكنائس، إلى غير ذلك من التذكارات والمناسبات. ويرجع الفضل في إصدار هذه النتيجة إلى الأستاذ تـوفـيـق إسكاروس صاحب كتاب "توابع الأقباط ومشاهيرهم في القرن التاسع عشر".

وفي سنة 1937 انضمت إلى لجنة كنيسة الملاك غبريال بحارة السقايين، فبرزت أعمال هذا الاتحاد في نواحي النشاط الاجتماعي، وكانت لجنة كنيسة الملاك غبريال قد أسست في عام ١٩٢٠، وأهدافها: خدمة الفقراء، والنهوض بالكنيسة، فسارت جمعية المنشأة منذ سنة ١٩٣٧ في هذا الاتجاه. 

4) جامعة المحبة: 

أسسها القديس الأرشيدياكون (رئيس الشمامسة) حبيب جرجس، مدرس اللاهوت بالمدرسة الإكليريكية القبطية مع بعض أصـدقـائـه بـاسـم: «جامعة أشعة حب يسوع» ثم أطلق عليها جامعة المحبة، وكان لها فروع عـدة في الأقاليم، وكـان عـدد الأعضاء يزيد على خمس مئة عضو، وكان من أهدافها غرس الـفـضـائـل في النشء، وإحياء اللغة القبطية، وتعليم الدين المسيحي، واتجهت إلى تعليم طلبة المدارس الأميرية الدين المسيحي، وبعد أن تقرر تدريس الدين المسيحي بهذه المدارس اتجهت إلى تعليم البنات الفقيرات، وافتتحت مدرسة باثنتي عشرة بنـتًـا كـانـت تـقوم بتعليمهن وكسوتهن، وقد اتسع نشاطها، ونقلت الى دار واسعة بحي الظاهر بالقاهرة.

ه) جمعية الإيمان القبطية: 

تأسست سنة 1900 في حارة السقايين للوعظ والإرشاد، ثم نُقلت إلى حي الـفـجـالـة؛ حـتـى يَـستمع إلى العظات عدد أكبر، وكان يقوم بالوعظ فيها بعض طلبة المدرسة الإكليريكية القبطية وخريجيها، مثل: الأستاذ فرح جرجس (+ 1927م). هذه الجمعية كان كل أعـضـائـهـا مـن طلبة المدارس العالية، وكان على رأسهم زكي صديق الطالب بكلية الطب (طبيب الرمد)، وسارت هذه الجمعية في الوعظ وتدريس الكتاب المقدس واللغة القبطية، وفي سنة 1914 أنشأت فرعًا لها بجزيرة بدران بشبرا، ثم استقل هذا الـفـرع. 

إن هذه الجمعية تمثل في القرن العشرين أعظم نهضة قبطية إصلاحية شاملة في عدة ميادين؛ ففي التعليم بلغ عدد تلاميذ وتلميذات مدارسها خمسة آلاف، وأنشأت مستوصفًا ومستشفى وكنيسة بشارع جزيرة بدران، ومجلة باسم: "رسالة الإيمان".

بالرغم من أن الطابع الغالب على هذه الأنشطة والمؤسسات الجديدة هو الجانب الخيري، فإن هذه المبادرات والجمعيات كانت حقل التجارب الأول لممارسة العمل الأهلي وسرعان ما تطورت، وطرقت نواحيَ أخرى، وتوالى صدور الصحف والمجلات التي تناقش مختلف القضايا، من بينها العمل الأهلي والمشاركة والسياسة. وستنضج هذه الثمار في مرحلة لاحقة من تاريخ مصر، حتى ينغرس الأقباط في معترك العمل المدني والمشاركة السياسية. على أن الأمر لم يخلُ من بعض التوترات الداخلية، حول إدارة الأمور في المجال العام، وهل تركت إدارة الكنيسة المجال برمته لأعيان القبط المدنيين، أم أدلت بدلوها في هذا السباق؟