رؤى

أحمد يوسف

هل ضاعت فلسطين من ذاكرتنا السينمائية؟

2018.11.01

تصوير آخرون

هل ضاعت فلسطين من ذاكرتنا السينمائية؟

حاول أن تبحث في ذاكرتك عن فيلم مصري، خلال العشرين عامًا الأخيرة، يتحدث عن صراعنا مع العدو الصهيوني، وسوف ترى عجبًا. لقد كانت أفلامًا لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة بحال، كان آخرها “ولاد العم” (2009)، الذي يصور هذا الصراع كأنه يدور بين ضابط مباحث صغير، وعصابة لتهريب المخدرات، قام زعيمها باختطاف زوجته وطفليه بعد أن تنكر في ثياب رجل طيب. ولك أن تتخيل أن الشاب خفيف الظل والحركة كريم عبد العزيز، سوف يهرب من ملاحقة رجل مخابرات إسرائيلي، بأن يقول لامرأة إسرائيلية إن الرجل قال عنها إنها أقبح امرأة في إسرائيل، فتبدأ في مطاردة الرجل، الذي لا يجد مفرًا من أن يولي الأدبار (شايف الفهلوة المصرية؟)!

بهذا القدر من الاستخفاف نعالج قضية وجود بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن الأمر كان قد وصل إلى الحضيض مع فيلمين في عام 2005، كلاهما من إنتاج كامل أبو علي، الأول هو “درس خصوصي”، الذي يسخر من “كل” مسيرة النضال الوطني المصري، واستخدام كلمة “شهيد” باعتبارها نكتة، تمامًا كما جاء فيلمه الثاني “أبو العربي”، ليجعل من شهر أكتوبر -وشهدائه تحديدًا- مادة لسخرية فجة. فالبطل أبو العربي لا يتوقف عن الحديث عن “بطولة” أبيه الشهيد، الذي “لمح مزتين من جيش العدو، وعرف مقاسات ولون ملابسهم الداخلية” (هكذا نصًّا!)، ويعترض على صنع تمثال لأبيه مقطوع الذراع بسبب إصابته التي استشهد بها، ويقول “أمال لو مات تحت دبابة ها نعمل له تمثال كفتة؟”، وأخيرًا يشخط فيه ضابط الشرطة ذو الرتبة الكبيرة “أنا كرهت شهر أكتوبر بسببك إنت وأبوك”.

في الحقيقة إن ذلك التآكل في إحساسنا السينمائي (وربما امتد هذا التآكل إلى ما وراء ذلك) يعود إلى سنوات مضت، لحقت بما يسمى “اتفاقية السلام”؛ ففي فيلم “يا مهلبية يا” (1991) السخرية الجامحة ذاتها من كل تاريخ النضال في مصر. بطلة الفيلم الراقصة عناب (ليلى علوي) تملك ملهى ليليًّا، يدخله أحد المتطوعين لجمع التبرعات من السكارى، قائلاً “عشان فلسطين”، فتسأله عناب “فلسطين مين؟ أختك الصغيرة؟”، فيشرح لها الموقف “لو الكباريه اللي جنبك انضرب ها تسيبيهم؟”.

هذا ما كان يحدث في أفلامنا، وفي وجداننا الجمعي بشأن قضية النضال الوطني بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص، بما في ذلك تشويه هذا الوجدان حول حرب أكتوبر. أما صناعة السينما الإسرائيلية، فلم تتوقف لحظة واحدة عن تناول هذه القضية، من المنظور الصهيوني بالطبع، لتكريس صورة عالمية لها باعتبارها واحة صغيرة وسط صحراء معادية مترامية الأطراف. وعلى الرغم من أن السينما الإسرائيلية لا تنتج كل عام أكثر من عشرة أفلام، ميزانية الواحد منها لا تزيد على مليون دولار، يتم جمعها من عشرات الجهات في العالم، فإن صراع إسرائيل مع محيطها يظهر في عدد كبير من هذه الأفلام، سواء كان هو بالنص الصريح أم المتضمن والخفي تحت السطح.

مرت السينما الإسرائيلية برحلة من التطور من المهم دراستها على نحو أعمق، لكن يكفي أن نشير هنا إلى ما حدث لديها من تغير جوهري في مفهوم “الفيلم الحربي”، فعلى عكس ما نتصور، ويعوق دائما محاولاتنا التفكير في صنع أفلام حول معاركنا، عرفت السينما الإسرائيلية أن من الأفضل لها التخلي عن المفهوم التقليدي، الذي يقضي بأن تتضمن هذه الأفلام مشاهد اشتباكات وانفجارات، وتحولت مما يسمى “نمط أفلام الشجيع الإسرائيلي” إلى سينما أكثر فردية، حتى وهي تتناول وقائع حربية محددة.

ولعل آخر أفلام “الشجيع الإسرائيلي” كان فيلم “كيبور” (2000)، لمخرجه ذي النزعة الهوليوودية أموس جيتاي، وهو الفيلم الذي يتحدث عن مهمة، يقوم بها مجموعة من جنود الاحتياط الشجعان، لإخلاء الجرحى وجثث القتلى خلال حرب أكتوبر، مما يؤدي إلى تضحيات هائلة من جانبهم، يكون من المطلوب من المتفرج بالطبع أن يتعاطف معهم من أجلها. لقد كان “كيبور” يردد ما سبق قوله منذ عام 1955 في فيلم “التل 24 لا يجيب”، حول حصار عانت خلاله مجموعة من الجنود الصهاينة ذوي الجذور المختلفة، وكان بناء الفيلم يقوم على نقطة كأنها مركز الدائرة، التي ينطلق منها إلى ذكريات كل شخصية في “فلاش باكات” متقطعة، بما يذكرك على نحو ما بقصة على سالم لفيلم “أغنية على الممر” (1972).

لكن هذه الصورة “الأكبر من الواقع” بالمعنى الدرامي للكلمة، اختفت ليحل محلها بطل يخوض الحرب وهو يتمزق ألمًا، لكنه ألم وجودي وذاتي خالص، يتعلق بـ“الأنا” وليس بـ“الآخر”، فهذا الآخر (نحن، العرب) موجود في مثل هذه الأفلام الإسرائيلية بشكل شبحي، فنحن نمثل العدو الخفي الرابض في كل مكان، ويمثل تهديدًا لوجود “البطل”، الذي يتوحد معه المتفرج لأنه “يحتل” مركز الصورة والدراما. ومن هذه النوعية يأتي فيلم “لبنان” (2009)، الذي وصفه بعض النقاد الأمريكيين بأنه فيلم “مناهض للحرب”!، لأن رسالته السياسية تختفي تحت نسيج “إنساني” زائف. والفيلم كله يدور من داخل دبابة، وحتى اللقطات القليلة التي تصور ما هو بالخارج يتم تقديمها من خلال منظار هذه الدبابة، أما أبطاله فهم أربعة جنود إسرائليين يقودون الدبابة، لمصاحبة فرقة من المشاة في حرب لبنان الأولى في عام 1982. يوحي الفيلم بأن الجيش الإسرائيلي جاء إلى لبنان لينقذه، وهو الأمر الذي يجعل الإسرائليين يدفعون ثمنًا غاليًا من أجل هذا الإنقاذ. (كم علامة تعجب يمكن أن تكفي هنا؟).

قبل ذلك بعام واحد فقط جاء فيلم آخر حول حرب لبنان أيضًا، لكن هذه المرة ليحاول أن يغسل عن “الذات” الإسرائيلية بعضًا مما اعتورها من العار بعد مذبحة صابرا وشاتيلا. ذلك هو فيلم “رقصة الفالس مع بشير” (2008)، الذي استقبله النقاد في أنحاء العالم بالاحتفاء، حتى أنه ظهر ضمن أفضل عشرة أفلام عرضت في أمريكا في ذلك العام، في قوائم تسعة عشر ناقدًا أمريكيًّا مهمًا. ويبدو الفيلم للوهلة الأولى باعتباره تجربة سينمائية رائدة (لكنها في الحقيقة تقليد لبعض أفلام المخرج الأمريكي ريتشارد لينكليتر)، إذ أنه في محتواه فيلم تسجيلي، غير أن لقطاته تحولت عبر تقنية “الروتوسكوب” إلى رسوم مهتزة، وكان السبب في ذلك هو أنه يتحدث عن محاولة من البطل (المخرج نفسه) لتذكر ما حدث في حرب لبنان، وأصبح يمثل له تجربة كابوسية.

ويعتمد بناء الفيلم على الانطلاق من كابوس، يحاول البطل أن يجد له تفسيرًا لكي يتخلص منه، وهو يزور أصدقاءه القدامى لعله أن يجد العلاج (يقول الفيلم إن السينما في هذه الحالة تمثل علاجًا نفسيًّا)، لكن بدلاً عن أن يتحقق الشفاء المزعوم لهذا البطل (كيف يمكن لفظائع حرب كتلك أن تنسى؟)، فإنه يشوش ذاكرة المتفرج بشأن هذه الحرب، حين يعيش مع الفيلم عالمًا هو جسر مهتز بين الحقيقة والحلم. وهكذا تحولت الدماء التي أريقت إلى “تجربة جمالية”، يكفيك فيها الفرجة بدلاً عن المشاركة، والـتأمل بدلاً عن الفعل، والحيرة بدلاً من اليقين. وتنتهي بك هذه الرحلة إلى النتيجة ذاتها: الوقوف إلى جانب “الأنا” الإسرائيلي في عذابه، فهو يعيش دائمًا في خطر، وعندما يطلق النار على “الآخرين” فإنه يحاول إقناعك بأن تلتمس له العذر لأنه يدافع عن وجوده.

بعيدًا عن الحرب بمعناها الحرفي، تدير السينما الإسرائيلية حروبًا أخرى، تؤكد بها دائما “إنسانية” الكيان الصهيوني، وسعيه للسلام! على الرغم من كل العقبات والعوائق. وفي هذا السياق تبرز دائمًا أفلام المخرج عيران ريكليس، مثل فيلم “العروس السورية” (2004)، الذي يدور في الجولان، بجزئيه السوري والمحتل بواسطة إسرائيل. هناك عروس درزية تعيش في الجانب الإسرائيلي، من المفترض لها أن تعبر الحدود لتلحق بعريسها في الجانب السوري، لكن السلطات على الجانبين تعاند بعضهما، مما يهدد بإيقاف العرس، لولا طيبة قلب جندي الحدود الإسرائيلي، الذي يرضى في النهاية بعبور العروس دون أن يختم جواز سفرها.

وفي فيلم آخر للمخرج نفسه، وهو “شجرة الليمون” (2008)، تتبدى هذه النزعة “الإنسانية” ذاتها. إن البطلة الأرملة الفلسطينية تملك حديقة من أشجار الليمون، لكن وزير الدفاع الإسرائيلي يسكن بجوارها (لم يسأل الفيلم نفسه ما الذي أتى به هنا أصلًا!)، وتصدر السلطات أمرًا باقتلاع هذه الأشجار لأنها تمثل خطرًا محتملاً، وبينما يقف الجميع ضد الأرملة، فإن زوجة وزير الدفاع تقف إلى صفها مدافعة عنها (يا سلام!؟).

أما الذي “زاد وغطى” بالفعل فهو فيلم “زيارة الفرقة” (2007)، للمخرج عيران كوليرين، الذي يتحدث عن فرقة موسيقية (عسكرية) مصرية تزور إسرائيل للاشترك في مهرجان، لكنها تتوه في الصحراء، ولا تجد مفرًا من أن تبيت ليلتها في قرية نائية انتظارًا لقدوم الصباح، ولأن أهل القرية يعيشون حياة رتيبة، فإنهم يستضيفون أفراد الفرقة، ليحدث التفاعل “الإنساني” بين الطرفين. وعلى الرغم من توقف بعض الكتابات المصرية عند عدم دقة نطق العامية المصرية (ماذا تنتظر من ممثل إسرائيلي يؤدي دور مصري؟ ومن سوف يلتفت إلى ذلك في بقية دول العالم؟)، فإن براعة الفيلم الحقيقية تكمن في تخطي “الحاجز النفسي” لدى المتفرج العربي، فإسرائيل تمثلها هنا أمرأة، ينجح رجل مصري شاب في إقامة علاقة معها. لكن الأهم على الإطلاق هو اختيار الصحراء مكانًا للأحداث، تكريسًا لمقولة إن “فلسطين أرض بلا شعب”، كما تعبر عن ذلك المرأة الإسرائيلية بالقول “ليست هنا ثقافة عربية، ولا ثقافة إسرائيلية، ليست هناك ثقافة من أي نوع”!

الحقيقة أن كل حبة رمل من أرض فلسطين تشع ثقافة عربية، حتى لو تناسى الفيلم ذلك. ومهما حاولت السينما الإسرائيلية أن تحول الذاكرة الوطنية الجمعية إلى ذاكرة نفسية فردية، فإن الذاكرة الصهيونية الانتقائية لن تنجح في أن تحول الجلاد إلى ضحية. إنهم يحاولون ذلك بلا هوادة، لكن ماذا نصنع بسينمانا نحن الضحايا؟