تحقيقات
فرح مروانعمال مصر والصراع من أجل أجور عادلة
2024.06.08
مصدر الصورة : آخرون
عمال مصر والصراع من أجل أجور عادلة
مع انخفاض قيمة الجنيه المصري، التي انعكست في أسعار السلع والخدمات الأساسية. وبدلاً من أن تزيد الأجور حتى يستطيع العاملون بأجر الوفاء بالتزامات أسرهم، نجد أن أصحاب الأعمال يقومون بالعكس.
فالدولة بكل أجهزتها تلعب بشكل واضح مع أصحاب الأعمال ضد العمال، بدء من تجميد الأجور وعدم السماح بزيادتها لتجاري التضخم المصاحب للتعويم، وصولًا إلى تحديد حد أدنى للأجور تقل قيمته عن خط الفقر المدقع، وفتح الباب لعدم تنفيذه، ثم التغاضي عمن يرفضون تنفيذه من أصحاب الأعمال.
وعندما يستخدم العمال سلاح الإضراب نجد الدولة بأجهزتها الإدارية والأمنية تقف بشكل واضح مع صاحب العمل، لكسر العمال وإضرابهم، بدون مكاسب إن أمكن، أو بأقل المكاسب إذا اضطروا لذلك. هذا هو الصراع بين العمال والرأسماليين، الذين تساندهم الدولة.
ونشهد اليوم بوادر حركة احتجاجية موقعية، ورغم قلتها ومطالبها الاقتصادية المحدودة، لكنها تبقى شمعة تضيء في الظلام، في ظل الجمود التام وإغلاق المجال العام. فهل ستصمد تلك الحركة الجنينية، في غياب أي سند نقابي أو سياسي، وفي مواجهة طبقة رجال الأعمال ومعهم الدولة بأجهزتها؟
رأس المال يجور على قوة العمل
منذ عام 2013 وأجور العاملين في القطاع الخاص لا يتم زيادتها مع زيادات الأسعار، كما يحدث مع أجور موظفي الدولة -على ضآلة الزيادات- حيث كفت القوانين التي تصدر لإقرار علاوات غلاء المعيشة عن ذكر عمال القطاع الخاص. فلم يتبق لعمال القطاع الخاص سوي العلاوة الدورية المنصوص عليها في قانون العمل وقدرها 7% من الأجر التأميني، إذا تم تنفيذ القانون. وهو ما أدى إلى فقدان عمال القطاع الخاص لـ 33% من أجورهم الحقيقية خلال عشرة سنوات.
وبعد الصمت التام للمجلس القومي للأجور، عاد بعد عشرة سنوات ليقرر الحد الأدنى للأجور الذي من المفترض أنه طُبق بداية من يناير 2022 بـ 2400 جنيه (152.4 دولار)، مع انتقاص قيمة العلاوة الدورية من 7% إلى 3% من الأجر التأميني. ثم تم رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص إلى 2700 جنيه ( في فبراير حوالي 88 دولار بالسعر الرسمي) ( وفي نفس اليوم 56 دولار بسعر السوق السوداء)، على أن تكون بداية تطبيقه من يناير 2023، و وقتها كان الحد الأدنى للأجور بالنسبة لموظفي الحكومة 3500 جنيه.
وحاليًا الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص 3500 جنيه شهريًا (حوالي 75 دولار بالسعر الرسمي). وهو الحد الذي لم يعد يسد رمق العامل وأسرته، فقد توصلت إحدى الدراسات إلي أنه في أكتوبر 2023، كان الحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص ثلاثة آلاف جنيه، بينما كان حد الفقر القومي 5557 جنيه شهريًا، وكان حد الفقر المدقع 3566 جنيه. (نحو أجر منصف للجميع، ص 23)
والحقيقة أن رأس المال لم يكتف بالقدر من فائض القيمة الذي يستحوذ عليه ويترك لقوة العمل ما يحافظ عليها، لكنه بدأ يجور على ما يسمح لقوة العمل هذه أن تظل قائمة ومتجددة. وربما نجد تفسيرًا لهذا -أن رأس المال غير حريص علي الحفاظ علي قوة العمل- في معلومة أن 29.1% فقط من السكان يعملون بأجر من ضمن من هم داخل قوة العمل[1] في مصر في عام 2022، مع الأخذ في الاعتبار أن 35.6%[2] من السكان خارج قوة العمل، و15.6% من السكان خارج القوة البشرية أصلاً. كما أن معدل المساهمة في النشاط الاقتصادي في عام 2022 من ضمن السكان كان 42.7%[3]، وهذه النسبة في انخفاض مستمر، حيث كانت 49.5% في عام 2010. وتزداد النسبة كارثية بين النساء، حيث يُقدر معدل المساهمة في النشاط الاقتصادي بين النساء 14.9% فقط في عام 2022.
الأرقام السابقة تعني أن أكثر من نصف من هم في سن العمل مستبعدون أصلًا من قوة العمل طبقًا لحسابات الرأسمالية، ممن تعتبرهم الرأسمالية فائض لا فائدة منه بالنسبة لها، وبالتالي لا مشكلة لديها أن يفنى هؤلاء عبر التجويع المباشر. فلديها دائمًا فائض من القوى العاملة يمكن الاستعانة به، وبالتالي لا داعي من وجه نظرها أن تضع في اعتبارها الحفاظ على الحد الأدنى من الأجر الكافي للحفاظ على قوة العمل.
على جانب آخر سنجد أن أعلى ذروة لمعدلات المساهمة في النشاط الاقتصادي لدى الذكور هي 95.9% في سن الثلاثين، وتظل متقاربة عند هذا المستوى حتى سن الأربعين، وبعدها تعاود تلك النسبة الانخفاض. بينما بالنسبة للإناث فإن ذروة معدلات المساهمة الاقتصادية 21% في الفئة العمرية (40-49) (النشرة السنوية المجمعة لبحث القوي العاملة 2022: ص -11-13). ما يعني أن الرأسمالية تمتص قوة عملهم/هن في زهرة شبابهم/هن، ثم تلفظهم مرة آخري خارج سوق العمل، بدون أي تبعات أو مسئوليات.
هذا هو ما يظهر في بعض مؤشرات جودة العمل، ففي عام 2022، كانت نسبة المشتركين في التأمينات الاجتماعية داخل المنشآت في القطاع الخاص هي 36.4%، بينما كانت نسبتهم خارج المنشآت 11.1%. وفيما يخص الاشتراك في التأمين الصحي فقد كانت نسبة المشتركين به داخل منشآت القطاع الخاص 28.6%، وخارجها 3.4% (النشرة السنوية المجمعة لبحث القوي العاملة 2022: ص 30). أي أن الرأسمالية تستطيع في مصر أن تحرم حوالي ثلثي العاملين لديها ممن وصلوا لسن التقاعد من معاش يعتمدون عليه، كما أنها تستطيع أن تحرم أكثر من ثلاثة أرباع من يعملون لديها من حق العلاج.
لما لا طالما لديها فائض من القوى العاملة، وتستطيع أن ترمي من يمرض ثم تستبدله بمن هو بصحة جيدة -حتى ولو لبعض الوقت- من الفائض، وكذلك تفعل مع آخرين قبل الدخول في سن الشيخوخة.
عمال كريازي في مواجهة إدارة الشركة
عندما بدأ عمال شركة كريازى في الإضراب في فبراير 2023، كان متوسط أجور معظمهم الشهرية 2500 جنيه، وهو ما يقل عن الحد الأدنى للأجور وقتها، وكانت الحوافز وبعض المزايا الأخرى تسد جزء من الفجوات ما بين أجور العمال والتزاماتهم. إلا أن إدارة الشركة قامت بوقف العديد من المستحقات مثل منح الولادة والزواج والوفاة، ونصيب العمال من الأرباح السنوية، بل إنها أوقفت كذلك مشروع العلاج والرعاية الصحية. وزيادة في الاستغلال قامت الإدارة بزيادة ساعات العمل بمقدار ساعتين يوميًا لكل عامل بدون أي أجر إضافي. مما جعل العمال يطالبون رئيس مجلس إدارة الشركة بزيادة الأجور وإعادة ما تم إلغاءه من حوافز، فقابل طلباتهم بالرفض. وبدأ هنا الصراع بين العمال وإدارة الشركة التي يعمل بها عشرة آلاف وخمسمائة عامل/ة، ضمنهم 4500 عامل/ة إنتاج في المصانع، وقد استخدم كلا الطرفين المتاح له من أسلحة في تلك المعركة.
بعد رفض الإدارة الاستجابة لمطالبهم بدأ عمال كريازى الإضراب، فقامت الإدارة بتقديم بلاغ للشرطة ضد العمال. هكذا ألقت قوات الأمن القبض على عدد من العمال من منازلهم، ووجهت لهم النيابة اتهامات بالتظاهر بدون تصريح والدعوة للإضراب وتعطيل سير العمل. كما حاولت إدارة الشركة تقسيم العمال عبر صرف مكافأة تشجيعية للعمال الذين لم يشاركوا في الإضراب بعد. إلا أن تلك الإجراءات قد أتت بنتائج عكسية، فعندما تقدم رئيس مجلس إدارة شركة كريازى ببلاغات ضد عمال مدينة العبور المضربين عن العمل، أنضم إلى الإضراب عمال فرع العاشر من رمضان.
استمر العمال في إضرابهم بعد القبض على زملائهم، مما جعل إدارة الشركة تتفاوض مع العمال على فض الإضراب مقابل الإفراج عن زملائهم، ووعد بالنظر في مطالبهم.
انتهت تلك الجولة من الصراع، إلا أن جولة أخرى بدأت بعدها بأقل من أربعة أشهر. فإدارة الشركة كانت قد وعدت بصرف أجر شهر كأرباح، وعندما حان موعد الصرف تراجعت الإدارة وصرفت نصف ما وعدت به، مع التمييز في ذلك ما بين العمال والفنيين من جهة، والإداريين والمهندسين والمديرين من جهة أخرى. فاضرب العمال ثانية عن العمل، فردت الإدارة بفصل 57 عامل، الذين توجهوا لمكتب العمل لتقديم شكاوى بفصلهم، ثم توجهوا لقسم العبور لإثبات حالة الفصل بتحرير محاضر بفصلهم، إلا أن مأمور القسم رفض تحرير تلك المحاضر، وهددهم بالحبس.
في تلك الجولة من الصراع في محاولة لإدارة الشركة لإفشال الإضراب، منحت الإدارة العمال إجازة إجبارية تخصم من إجازاتهم السنوية، وأوقفت حركة سيارات الشركة التي تقوم بتوصيل العمال من وإلى الشركة. إلا أن العمال قرروا أن يأتوا لمقر الشركة على نفقتهم ليكملوا إضرابهم.
فلجأت إدارة الشركة إلى تكتيك العصا والجزرة، حيث تم تهديد العمال بحرمانهم من منحة عيد الأضحى التالية، وخصم أجر أيام الإضراب، كما وعدت من يوقف الإضراب باعتبار أيام الإضراب مدفوعة الأجر، ومنحهم كلفة المواصلات التي تكبدوها خلال أيام الإضراب السابقة. وتم فض الإضراب بعد تدخل أجهزة الدولة.
الأزمة تدفع إلى المزيد من المعارك
في سيناريو مشابه، طالب عمال موكيت ماك بزيادة أجورهم، فرفضت إدارة الشركة. فأضرب بعدها العمال وقامت إدارة الشركة بمنحهم إجازة تخصم من رصيد إجازاتهم السنوية، وتم مدها مرة أخرى لتصل إلى 14 يوم، كما حاولت كسر الإضراب بأن دفعت عدد من المهندسين الذين لم يشاركوا فيه إلى القيام بتشغيل الماكينات.
وفي شركة جرين لاند قام العمال بالإضراب فصدر قرار بفصل 49 عامل منهم، بتهمة التوقف عن العمل، وتحريض العمال على وقف العمل مما نتج عنه خسائر كبيرة.
وفي فبراير 2024، بعد الغلاء الأخير، والذي استبقته الدولة برفع الحد الأدنى للأجور للعاملين في الحكومة إلي 6 آلاف جنيه، انتهزت الآلاف من عاملات غزل المحلة وجود محافظ الغربية بالشركة وهتفوا مطالبين بتطبيق نفس القرار عليهن -ذكرت إحدى العاملات أن متوسط أجور العمال بالشركة لا يزيد عن 3500 جنيه- وحاولوا الخروج إلى ساحة الشركة، فأغلق الأمن الأبواب، وغادر المحافظ بسرعة.
حفز هتاف العاملات بقية عمال الشركة والبالغ عددهم 16 ألف عامل، ما أدى إلى قيام إضراب استمر حتى صدر قرار بتنفيذ مطلبهم جزئيًا، مع القبض على حوالي 17 عامل وعاملة، أفرج عن عدد منهم، وتم حبس أربعة منهم على ذمة قضية بشكل رسمي، ووجهت لهم تهم بالانضمام إلى جماعة مُشكلة على خلاف القانون، ونشر إشاعات وأخبار وبيانات كاذبة، كما قامت إدارة الشركة بإرسال إنذار بالفصل لاثنان منهما، وكان هناك ثلاثة آخرين مختفين. وقد أُفرج عن الجميع مؤخرًا.
في ذات الوقت بدأ عمال مطاحن الخمس نجوم بالسويس اعتصامًا، مطالبين بزيادة أجورهم 20% لمواجهة التضخم. وقد طالبت الإدارة بجعل إنتاج الماكينة خمسة آلاف شيكارة يوميًا بدلًا من ألفان، لتلبية احتياجات التصدير، وحتى يمكن النظر في زيادة الأجور. كما أضرب عمال شركة كير سيرفس في معسكر القوة متعددة الجنسيات والمراقبون "حفظ السلام" في يناير 2024 بسبب تخفيض أجورهم بنسبة 33%.
العمال يقفون وحدهم بلا سند
لعل الحديث عن أن عمال مصر محرومون من حقهم في نقابات تدافع عن حقوقهم قٌتل بحثًا. فالاتحاد العام لعمال مصر ونقاباته، الذي من المفترض أنهم يمثلون العمال ويعبرون عن مصالحهم، هم في واقع الأمر يتبنون مواقف الحكومة، ويدافعون عن إدارات الشركات ومصالح أصحاب الأعمال.
ولا أوضح من مفارقة أن يتحدث أحد "النقابيين" عن رفضه للإضراب، وهو السلاح الوحيد الذي يملكه العمال للدفاع عن مصالحهم. هكذا ذكر مصدر بارز في اللجنة النقابية لشركة غزل المحلة: بـ"أن اللجنة تفضّل التفاوض لا الإضراب، لكنها تساند مطالب العمال".
ولا يختلف ذلك كثيرًا عن كلام نائب رئيس الاتحاد مجدي البدوي، الذب أشار إلى أن العمال قبل 30 يونيو 2013 قد عاشوا فترة مأساوية، حيث كان هناك من يحرضهم على التظاهر دائمًا، ومطالبة الشركات بأشياء تفوق طاقتها حتى لا تلبيها فتغلق!
يواجه عمال مصر اليوم إدارات الشركات بل وأجهزة الدولة وحدهم، حيث لا تنظيم نقابي معهم، ولا مع حقهم في الإضراب. وإلا فأين كانت اللجنة النقابية المعبرة عن آلاف العمال من عدم تطبيق قانون يطبق على موظفي الدولة ويحرمون هم من تطبيقه عليهم؟! ولماذا لم ينظر اتحاد العمال، لأجور العمال المنخفضة بشدة، حتى أن معظمهم يتقاضى أجرًا عن عمل يقل عن خط الفقر المدقع؟! وما نوعية الاتحاد الذي يحرم أعضائه من كل حقوقهم، حتي حقهم في أجر يقيهم الجوع، فلا يكتفي باللافعل، بل ويتبني وجه نظر ظالميهم؟!
أن الدولة ترفع يدها عن حماية مصالح العمال، حتى لو بتطبيق قانون هي من أصدرته. كما أنها لا تضع سياسات للأجور تطبق على كل الشركات سواسية، حتى لا تقوم إدارات الشركات بتخفيض أجورها بشكل تعسفي. وصل الأمر أن بعض أصحاب الشركات يريدون رفع أجور العاملين لديهم لمواجهة التضخم، لكنهم لا يستطيعون عمل ذلك لأنه لا توجد وسيلة لإجبار منافسيهم على منح أحور عادلة، وبالتالي إذا أقروا هم زيادة في الأجور سيخسرون في المنافسة. وهو ما عبر عنه رئيس مجلس إدارة الشركة التركية للملابس "تي أند سي جارمنت" بمدينة العبور، وعضو المجلس التصديري للملابس مجدي طلبة، بإنه لا يستطيع إقرار زيادة سنوية كبيرة بشكل استثنائي، لمساعدة عمال شركته على مواجهة ظروف المعيشة الصعبة، لأن هذا سيعني إغلاق المصنع، فمنافسيه لن يفعلوا نفس الشيء!
[1] - الأفراد داخل قوة العمل تشمل جميع الأفراد ( 15 سنة فأكثر) ويساهمون فعلاً بمجهوداتهم الجسمانية أو العقلية في أي نشاط اقتصادي يتصل بإنتاج السلع والخدمات ( المشتغلون) وكذلك الذين يقدرون على أداء مثل هذا النشاط الاقتصادي ويرغبون فيه ويبحثون عنه ولكنهم لا يجدونه ( المعطلون).
[2]- يتم وضع تعريف الافراد خارج قوة العمل والقادرين عليه في سن (6-60)، ولا يعملون ولا يبحثون عن عمل، ولا نعرف كيف يتم معرفة إن كان الشخص يبحث عن عمل أم لا، وهنا يتم استبعاد الملايين من قوة العمل خصوصاً من النساء تحت ذريعة التفرغ للأعمال المنزلية.( النشرة السنوية المجمعة لبحث القوي العاملة 2022: ص 17)