مراجعات

دينا قابيل

وصايا عادل عصمت العشر رواية الأرض في رداء جديد "الوصايا"

2019.06.01

وصايا عادل عصمت العشر رواية الأرض في رداء جديد "الوصايا"

المؤلف: عادل عصمت

الناشر: الكتب خان للنشر والتوزيع، 2018

منذ الصفحات الأولى لرواية «الوصايا» لعادل عصمت، سيدرك القارئ أنه بصدد عمل ملحمي فريد، وأن الوصف المشهدي واللغة الشفافة التي تنسل من بين ثنايا السرد جديرة بعمل روائي تطارده الجوائز والترشيحات أينما كان. صحيح أن صاحب الوصايا حصل على جائزة نجيب محفوظ للرواية في 2016 عن «حكايات يوسف تادرس»، ومن قبلها في 2011 منحته الدولة جائزتها التشجيعية عن «أيام النوافذ الزرقاء»، كما وصلت «وصاياه» للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» في 2019، إلا أن هذا العمل الأدبي يتجاوز ذلك الضجيج العابر الذي تحدثه الجوائز، ليصطف بجدارة بين الروايات المرجعية التي تناولت الريف المصري في الأدب العربي. 

فعلى مدار تاريخ الرواية المصرية ونشأتها، كان الريف محورًا للسرد ومحاولة للحفر عند الجذور، منذ الرواية الأشهر زينب (1912)، وبعض المحاولات السابقة عليها والمتناثرة في بدايات القرن العشرين، مثل الفتى الريفي والفتاة الريفية (1903) لمحمود خيرت أو عذراء دنشواي (1906) لمحمود طاهر حقي، ثم كانت رواية الأرض (1953)لعبد الرحمن الشرقاوي،وأيام الإنسان السبعة (1969) لعبد الحكيم قاسم، وأعمال متنوعة ليوسف إدريس ويوسف أبي رية ومحمد البساطي، وحتى وصايا (1918) عادل عصمت التي يمكن اعتبارها رواية الريف/ المرجع لأيامنا هذه.

تناولت هذه الكلاسيكيات الريف مركزًا للأحداث؛ من حيث الصراع الطبقي، أو إفقار الريف ومحاولات تمدينه، علاقة الفلاح بالإقطاع أو بالاستعمار، وإشكالية الريف والسلطة، وعلاقة المثقف بجذوره وجدلية العلم والجهل والدين والخرافة. أما الوصايا، فهي امتداد لعمل عبد الحكيم قاسم الأشهر؛ أيام الانسان السبعة في ملمحين أساسيين، حتى وإن اختلفت الثيمة الرئيسية -بطبيعة الحال-وإن اختلفت العوالم الأدبية في الروايتين، الملمح الأول هو انهيار عالم القرية القديم بكل منظومته القيمية وبزوغ عالم جديد ينمو على أنقاضه جالبًا معه قيم التحديث التي لا مفر منها. والثاني هو تصوير شخصيات القرية من دم ولحم والتماهي مع هذه الشخصيات، بعيدًا عن «التعاطف» أو النظرة من موقع متعالٍالتي يقع فيها الكاتب في العديد من الأعمال الأدبية في معرض «دفاعه» أو انحيازه لوجهة نظر الفلاح.

في أيام الانسان، يرفض الراوي عالم الأب الصوفي المغلف بالبؤس والفقر والجهل في قريته الأثيرة، وفي الوصايا يرفض الحفيد الوصايا العشر التي أملاها عليه جده، ولكن في كلتا الحالتين يتجسد الصراع في الزمن الذي لم يعد كما كان، يتوارى العالم «المثالي» للقرية مع اليقين باستحالة دوامه والشعور الغامر بالحنين.الوصايا هي رواية الأرض بامتياز بكل تجلياتها ورمزيتها.

رمزية الوصايا

تبدأ الرواية بفصل تمهيدي يحمل عنوان «20 ديسمبر 1978»؛ وهو تاريخ آخر لقاء جمع بين الراوي-الحفيد وجده الشيخ عبد الرحمن الذي أملى عليه وصاياه العشر قبل وفاته بأيام، فنقرأ على لسان الراوي هذه الجملة الأشبه بالبيان «دخلت غرفته في هذا اليوم العصيب من شهر ديسمبر 1978، ولم أخرج منها حتى الآن. ليس في الأمر مجاز».هذا التاريخ العادي للقاء كلاسيكي بين كبير العائلة الذي يعلق الآمال على حفيده المتعلم ليتقلد المناصب العليا، والفتى –مثله مثل الكثيرين- الذي يخيب ظن العائلة ويجنح إلى الحرية والبراح البعيدين عن الحياة المرسومة له سلفا، ثم يرسب في كلية الزراعة فيناديه جده بـ»الولد الساقط» («كنت في الثامنة عشر، نفرت من كل شيء، من نظام حياتنا، من تاريخ العائلة الذي خصَّني بحكايته بتفاصيل دقيقة، كأنه يرغب أن ينقشه على قلبي» ص7). يتحول هذا اليوم إلى مشهد رئيسي تنطبع تفاصيله في ذاكرة الشاب، وكذلك في مخيلة القارئ، هذا القارىء الذي يكاد يرى حضور الجد الطاغي في جلبابه وعباءته، في جلسته ورأسه العار من عمامة الأزهر، في صمته الذي يلف المكان فيحبس الحفيد في مكانه لا يتحرك إلا بأمره.  استطاع الكاتب أن يجعل منه مشهد لا يُنسى في تاريخ الرواية، وخصوصًا حين يقول الجد «سأملي عليك عشر كلمات، احفظها، وسجلها في قلبك. احفرها هناك. فكر فيها وأنت نائم، وأنت ماشٍ. فكر فيها وتأملها.لن تفهم كل ما أقوله لك الآن. أنت الآن غر، مشدود إلى عصير الحياة في بدنك. ستحتاج هذه الكلمات أكثر مما ستحتاج الأرض أو الدار. اسمع مني إن لم تفهم الآن فسوف تفهم بعد ذلك».

عشرة وصايا تضمها دفتي الكتاب الذي يمهد بفصل «الأربعاء 20 ديسمبر 1978» ويختتم بفصل «الثلاثاء 13 مايو 2008»، أما الوصايا فهي «خلاصك في مشقتك» و«إياك والعمى» و«المتعة عابرة كالحياة»، و«كن يقظًا وقت الأفراح» و«الثروة مثل الدابة عليك أن تسوقها» و«احذر أن تقتل أخاك» و«الأحزان سموم القلب» و«تحمَّل الألم» و«المحبة دواء أيام الباطل» و«أعظم الفضائل في التخلي».

هذه الوصايا التي يطلب الجد من حفيده أن ينقشها في قلبه هي الأصول الأولى، التمسك بالجذور وبوحدة العائلة، ميثاق الريف غير المكتوب، هي ناموس الحياة المتمثل في الأرض. الوصايا العشر هي أجزاء الرواية المتتابعة، التكئة أو الغلاف الذي يحتضن تاريخ عائلة «سليم» منذ سنوات الكارثة في الثلاثينيات من القرن المنصرم وضياع أرض العائلة ثم محاولة استعادتها؛ انتعاش العائلة والتوسع في الأرض والزرع في سنوات الخمسينيات والستينيات، ثم الانكسار الكبير مع هزيمة 1967، حين امتزج القهر العام بالقهر الخاص مع وفاة علي سليم، ثم حرب 73 ودخول الحداثة والميكنة في كل شيء حتى يخال إلى أصحاب الأرض أن الأرض ستزرع من تلقاء نفسها، ثم تشتت أهل الدار في بقاع الأرض المختلفة. كل حكمة أو وصية وصل إليها الشيخ عبد الرحمن بعد مشوار من الألم، كما لو أنه يريد أن يقي حفيده ألم التجربة. في وصية «خلاصك في مشقتك»يتمحور السرد حول الموت، موت أبو سليم وشقيقه نعيم، ثم كارثة ضياع الأرض ونزع ملكيتها بسبب عدم السداد، فتبدو استعادة الأرض استعادة للحياة بالعمل والمشقة اللذين اتخذهما الشيخ عبد الرحمن نبراسًا في حياته. عُرف الشيخ عبد الرحمن بحكمته وبذكائه وبصيرته، برع في قياسات الأرض ونقل الملكيات وتقييم جودة الأراضي وحفظ تاريخ كل قطعة عن ظهر قلب، أصبح صاحب العلم الذي يرجعون إليه، وأدرك هو مناطق قوته وجبروته، «البصر والذاكرة سلاحان نمَّاهما»، لكنه أدرك في خريف أيامه أنه تخلى عن قوته الروحية، فكانت وصيته الثانية لحفيده تحذره من عمى القلب «إياك والعمى». 

شخصيات من دم ولحم

وعلى الرغم من ذلك كله، لا يمكن أن يصل القارىء إلى كراهية شخصية الشيخ عبد الرحمن، الرجل القوي المتجبر المهيب، الذي لا يخلو من غلظة واستبداد. فقد استطاع عادل عصمت أن ينسج شخصيات متعددة الأبعاد تليق بملحمة الوصايا، هذه الرواية التي قال الكاتب نفسه إنه اعتمد فيها على الواقع حتى وإن تخللتها ومضات من الخيال، كما صرح في إحدى حواراته إن رواية «الوصايا» هي العمل الذي ظل ثلاثين سنة يحلم بكتابته. فكل شخصية من شخصياته الأثيرة شديدة التجذر في الواقع وفي الوقت ذاته شديدة الرمزية في علاقتها بالأرض والجذور. وهو ما يتضح من خلال العديد من الشخصيات وعلى رأسها الشيخ عبد الرحمن وابن أخيه «على سليم» اللذان تفصل بينهما هوة سحيقة. الشيخ كبير العائلة الذي نجح في استعادة الأرض، يدرك قوته، يأمر وينهي، عالمه مادي لا مكان فيه للخطأ أو السهو، يقرر هدم وبناء الدار نزولاً على متطلبات العصر والحفاظ على نسل عائلة سليم حوله داخل الدار الجديدة. 

أما علي سليم فهو المعادل الموضوعي للأرض ذاتها، المتوحد معها، قضى حياته منذ صباه في الطين «يروِّض الأرض ويفهم طباعها». ففي حين أن «الشيخ يعمل في الأوراق، ويرى الأرض كلمات على ورق، وتوقيعات وأمور يمكن التلاعب بها، علي سليم» يشعر بالأرض نفسها التي تشقها فأسه؛ كان واثقًا فيها ما دام يقف عليها بقدميه فإنها ستخضع له». وعلى الرغم من ولعه وعشقه للأرض لم يستطع أن ينفرد بالفدادين الثلاثة الذين خصصهم الشيخ له بعد وفاة أبيه، فوحدة العائلة وتقاليدها الريفية الصارمة لا تتهاون مع تفتيت الأرض وتوزيعها.فالتضحية بوحدة العائلة خيانة، وبالنسبة لعلي، كان «العيش في العائلة هو ملامح وجهه، فكيف يمكن للمرء أن يفارق ملامحه؟»

هل كانت صلافة الشيخ سببًا في الحزن والهم اللذان تمكنا من علي سليم حينما اتهمه بإهمال الأرض وتمكن الدود من القطن ولم يستطع علي أن يغفر له ولا لنفسه، هل مات كمدًا بحسرته؟ أم أن مثاليته كانت من النبل والتطهر بحيث يصعب أن تتعايش مع العالم الجديد؟

حين يسترجع السرد تفاصيل الصراع المكتوم بين عالم الشيخ وعالم علي، يكون عنوان وصية الجد لحفيده «احذر أن تقتل أخاك» كما لو كان يعبر عن ندمه العميق لتخليه عن ابن أخيه وتهميشه وقتله معنويًّا. 

وفي نهاية الرواية، تأتي الوصية العاشرة لتفاجئ القارئ؛ وتعطي بعدًا صوفيًّا جديدًا لشخصية الشيخ حين يقرر أن يتخلى عن حيازة الأرض ويقسمها بين العائلة «أعظم الفضائل تكمن في قدرتك على التخلي. (...) الحيازة يظنون أنها الحياة. هكذا سارت السنن منذ الخليقة». 

نجح الشيخ عبد الرحمن، قبل أيام من رحيله، أن يعطي درسًا أشبه بدرس المتصوف لمريديه بتطبيقه لوصية التخلي. فكان تقسيم الأرض على الأبناء في حياته حدثًا جللاً يثير التساؤلات.. هل يقع في منطقة الواقع أم في منطقة الخيال؟ لا أحد يعلم على وجه الدقة، غير أن مع تقسيم الأرض وانفراط عقد العائلة وتبدد الدار، تحققت نبوءة الجدة خديجة التي انتابتها حالة مرضية جعلتها تتسمع ما وراء الجدران وتنتظر «هؤلاء»، «من لا اسم لهم» الذين أرادوا خراب الدار وهجر أهلها لها.