مراجعات

دينا قابيل

يا نساء العالم إحكوا

2017.11.01

يا نساء العالم إحكوا

"حكايات خط الأم"، التي عرضت منذ أسبوعين على مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية، ليست مسرحية بالمعنى المتعارف عليه،وليست عرضًامن عروض الحكي التقليدية المعروفة، بل تأتي أهميتها من خصوصية التجربة وذاتيتها. لا مكان هنا للسينوجرافيا وأعمال الإضاءة المركّبة والحوار بين الممثلين وتتابع الفصول، بل هو عرض يعود بنا إلى أشكال المسرح الطقسي أو السامر الشعبي الذي يجتمع فيه المؤدون على خشبة المسرح، فيطرح كل منهم روايته، ليتفاعل معه المشاهدون في إطار حميمي.

عرض مسرحي: حكايات خط الأم.

إخراج: إليزا سمبسون وأماندا أديل ليدرير.

المنتج والمشرف الفني: داليا بسيوني.

تصميم إضاءة: حسن عيد.

عُرض على مسرح الفلكي بالقاهرة.

 يبدأ العرض بمجموعة من 13 سيدة من أعمار مختلفة تقفن في ظلام المسرح، بينما تتواتر في خلفية المسرح الصور العائلية القديمة لتضعنا في لحظة الحنين إلى الجدات، إلى جذور المرأة الأولى.ومن هنا تبدأ سلسلة من المونولوجات.

تقص كل واحدة من النساء حكاية تخصها كامرأة في علاقتها بـ"خط الأم"، أي الفتاة مشروع أم المستقبل، وفي علاقتها بالأم والجدات؛ تحكي عن الطفلة التي كانت، وعن ممارستها للأمومة، وعن ثالوث الأموالأبوالأبناء. وفي توازي الحكايا من راوية إلى أخرى يتولد هذا الخط المعنوي المتين الذي يربط المرأة بجذورها؛ هذا "السلسال" الذي يتجاوز خشبة المسرح ليشتبك مع جمهور المشاهدين.

فكرة "حكايات خط الأم" التي اشتق منها العنوان ليست جديدة، بل استوحتها المخرجة الأمريكيةإليزا سمبسون من طقس أوروبي يرجع إلى العصور القديمة، مفاده أن كل أنثى هي مشروع أم محتمل، هي أشبه برحم داخل رحم، بويضة داخل بويضة، إلى ما لا نهاية، حيث أن هناك خيط يصل بين النساء حتى التاريخ القديم للنساء الأوائل.

"هذا الطقس الروحي"، كما تفسر المخرجة داليا بسيوني التي ساهمت في إنتاج العرض مع فرقة سبيل للفنون التي أسستها منذ 1997، "يؤكد على التواصل العضوي في خط الأم".تبرهن المخرجة المصرية على إيمانها بمفهوم خط الأم من علم البيولوجيا نفسه، بما أن هناك خلايا مثل الميتوكوندريا يتوارثها الأبناء من الأم فقط ويستدل عليها فقط من الأم.

بدأ مشروع "حكايات خط الأم" في شكله المسرحي على أيدي الأمريكيتين إليزا سمبسون وأماندا ليدريرفي 2015، مع مجموعة من السيدات في شقة صغيرة في نيويورك، منهن الممثلات ومنهن الكاتبات، وكان الأساس أن تُكتب ثلاثة نصوص في شكل مونولوج يتم الشغل عليهم واختيار أحدهم ليكون مادة الحكي. ولذا ففي خلال عامين قامت إليزا وأماندا -اللتان تعملان بالتمثيل والإخراج والإنتاج- بتنظيم 26 ورشة كتابة وحكي مع 300 سيدة، وكان عرضهما في القاهرة أول عرض دولي بعد أن طافوا ببعض الجامعات في الولايات الأمريكية.

في عرض مسرح الفلكي بدا خط الأم عابرًا لحدود اللغة والجغرافيا والثقافة.ففي غضون خمسة عشر يومًا استطاعت المنتجتان الأمريكيتان مع الفريق والممثلات المصريات إنجاز الورشة وإعدادها للمسرح وتقديمها للجمهور. بل إن المثير كما تقول أماندا هو "أن تجد في الآخر، الذي يبدو بعيدًا، أجزاء من نفسك".

يكشف العرض عن مناطق مسكوت عنها في علاقات الأمومة، تلك المشاعر التي لا يتم تناولها لأنها "تفاصيل" تغلق عليها القلوب وبيوت الزوجية تمامًا. في أحد المشاهد تقدم ماري أرافانيس، من خلال المونولوج، مكالمة تليفونية من بلد المهجر في اليونان تحادث فيها أمهاالتي تروي لها بحماس عن مشاهداتها السياحية وعن المتنزهات وعن اكتشافاتها في اللغة اليونانية، محاولة أن تخفي تحت غطاء الثرثرة تعاستها العميقة ووحدتها وشعورها بالاغتراب. تستمع لها الأم ونعرف من خلال إجابة أرافانيس النموذجية المتكررة "إحنا كويسين" أن الأم التقطت عبر هذا الخيط السحري أن الأشياء ليست على ما يرام.

أما أكثر الحكايات قوة وتأثيرًا، فقد أتت على لسان أم المجند، التي يعتصر الخوف والقلق قلبها على ابنها الغائب. تحاول الأم أن تحتفظ برباطة جأشها أمام باقي أفراد الأسرةوتهاتف ابنها، إذ تريد أن ترسل إليه حوالة بمبلغ من المال. أما هو فرغم أنه يريد أموالها لتساعده على قسوة الحياة العسكرية، لكنه لا يقبل أبدًا أن ترسل الأم الحوالة باسمها، كما لو كانت ستنال من كرامة كبريائه الذكوري. تغضب المرأة وتثور وتتركه ثم سرعان ما تعاود الاتصال به مستسلمة لتبلغه أنها سترسل له المال اللازم باسم شقيقه.

وبعد تتابع الحكايات، ينتهي العرض في مشهد يكتسب جماله من القوة الجمعية للسيدات اللواتي يكسرن العرف والتقاليد ويقدمن أنفسهن واحدة تلو الأخرى إلى الجمهور، معلنة كل منهن عن اسمها بانتمائها للأم وليس للأب: هنا بنت هالة، ميسون بنت عائشة، الخ.

تتناول مدرونا سليم في مونولوجهاالصور النمطية للأم الحامية التي تسجن ابنتها في سلسلة من الممنوعات. يساعد أداء الممثلة المتميز، وانتقالها من مرحلة عمرية إلى أخرى،على تجاوز الفكرة النمطية. ومن خلال حيوية الأداء تدعو مدرونا المشاهد إلى تأمل السجن الأمومي المغلف بالعواطف وإلى النظر إلى طرق الخلاص منه والخروج عليه. يلخص المشهد ما تجسده الأم من سلطة لحماية الأخلاق والحفاظ على قيم المجتمع التي لا تنتصر أبدًا للفتاة.تحيط الأم ابنتها بسلسلة من المحظورات في اللهو والنزهة والاستمتاع بالحياة، بينما تبيحها جميعها لشقيقها الأصغر، ولا يبقى للابنة طريقًا للخلاص سوى الزواج. تحتفي الابنة بهذا الحل السحري توقًا للحرية، بينما قد لا يتعد الأمر استبدال سلطة بسلطة.

وفضلًا عن مدرونا وماري، هناك باقي كتيبة الحكّاءات الإحدى عشر وهن: أميرة محمود وإيمان حسين ورحمة حسين وسهام عبد السلام وليليت فهمي وميسون حسين وميسون محفوظ ونانسي علم الدين ونهاد نايل وهنا عفيفي وسهام أسامة.

أما الأب، الطرف الغائب عن المشهد، فتعبر إليزا سمبسون عن أمنيتها أن يصنع جمهور الرجال من المشاهدين، هم أيضًا، خط الأم الخاص بهم.تدعو إليزا الرجال أن يحكوا عن هذه النقطة المظلمة في حياتهم التي تسمى الأم. وفي الوقت نفسه تصمم المخرجة على استمرار مشروعها معتمدًا على حكايات النساء، تلك المرويات التي لا يتم تقديمها لسبب بسيط هو أنه: "حين تكتب النساء وتروي قصتهن، يسمى هذا عرض حكي، أما حين يحكي الرجال فهم في هذه الحالة يكتبون التاريخ". 

تقول الكاتبة والمحللة النفسية ناومي روث لوينسكيفي في كتابها حول نظرية خط الأم إنه عبر تجسيد المرأة لغموض ولغز الأصول الأولى، فهي تربطنا جميعًا بشبكة عظيمة من الأجيال وترسم حدودًا لامتناهية من قائمة خط الأم. البحث عن الذات النسوية (الذي نتناساه في صراع الحياة اليومية) يتطلب من المرأة رحلة لاستكشاف الجذور الشخصية والثقافية. إذ أن "العثور على جذورنا الأنثوية، واستعادة الروح الأنثوية، يتطلب تسليط الضوء على واقع حياة الأمهات الحقيقيات وخبرتهن؛ الإنصات إلى حكايات أمهاتنا وقصص جداتنا هو بداية فهم حكايتنا الشخصية".

ومع انتهاء العرض الفني، لا ينقطع مشروع خط الأم. حرصت إحدى الحكَاءات التي تدرس الدراما لطالبات المدارس أن تنظم ورشة كتابة لتعيد التجربة كاملة معهن. هذه الحيوية هي ما يبحث عنه القائمين على المشروع، أي أن يصيغوا نموذج به من المرونة ما يتسع لجمع الحكايات؛ نموذج قابل للتكرار في تجمعات ومجتمعات مختلفة؛ نموذج يسمح بالتواصل واستكمال الخط، ربما تلبية للنداء السحري: يا نساء العالم إحكوا!