مراجعات

هشام أصلان

“جبل الرمل”.. أحلامنا المنكسرة في سيرة رندا شعث

2020.04.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

عرض كتاب “جبل الرمل”
الناشر: دار الكرمة، 2020
الكاتب: رندا شعث

“جبل الرمل”.. أحلامنا المنكسرة في سيرة رندا شعث

في هذا التساؤل، كما هو "من شباك غرفتي اكتشفت الأسطح من حولي. كل سطح يحمل قصصًا وسيرًا لحياة بإيقاعات مختلفة".

لا أتذكر متى وأين رأيت أول صورة فوتوغرافية من تصوير رندا شعث خارج عملها الصحفي، لكني أتذكر الصورة جيدًا. كانت بالأبيض والأسود، لمساحة واسعة من سطح بيت شبه مستطيل، نظيف ومُبلّط، على العكس من أسطح البيوت التي عرفتها صغيرًا في حي إمبابة، حيث لا يهتم أصحاب البيوت بتشطيب أسطحها. في منتصف السطح جلست أسرة صغيرة تتفرج على التليفزيون، وتظهر في الفراغ المحيط به نوافذ مضيئة من بيوت مجاورة، وفكرت، حين رأيت الصورة للمرة الأولى في كيف ينشغل سكان هذا السطح عن مراقبة الجيران والشارع بالفرجة على التليفزيون. تذكرت الصورة، وعاودتني الأفكار نفسها، فور رؤيتها ثانية في إحدى صفحات "جبل الرمل"، كتاب رندا الجديد الصادر مؤخرًا عن دار الكرمة للنشر، مسبوقة بكلامها عن مراقبتها الحياة على الأسطح، حيث تطل من شباك غرفتها "بعدها بزمن واتتني الشجاعة أن أحمل كاميرتي وأذهب مستكشفة أسطح جاردن سيتي وقصص ساكنيها. وجدت في التصوير ملاذًا أقرب إلى طبيعتي للتعبير عن مشاعري ورؤيتي".

2

تلك الصورة، وما حولها من كلام في كتاب "جبل الرمل"، لم تكن الوحيدة التي لامست شيئًا يخصني. ذلك أنه من المراحل التي توقفت عندها رندا في سيرتها الشيقة، كانت بداية وأجواء عملها في صحيفة "الشروق"، حيث تزاملنا قبل نحو 12 عامًا، بدأت مع مرحلة تأسيس الصحيفة، التي كان انطلاقها مبشرًا في عصر ما قبل موت الصحافة في مصر. أتذكر أيام الدور الرابع في المبنى القائم في شارع البطل أحمد عبد العزيز؛ لم نكن قد أكملنا العشرة أفراد بعد، كنت محررًا في القسم الثقافي وكانت غرفتها بالقرب. تحكي رندا عن بداية عملها هناك، وتأسيسها قسم التصوير، وفكرة "محرر الصور" الحديثة على الصحافة المصرية وقتها، وإخراج المصور الصحفي من دور تقليدي معتاد إلى متسع أكثر للمشاركة والإبداع وإعطاء مساحة مغايرة لمعنى الصورة الصحفية.

حكايات رندا إن أعطت لي كقارئ، أو للبعض، بُعدًا يخص الذكريات الشخصية، فمن المؤكد أنها لا تقف عند هذه الحدود، ذلك أنك بينما تقرأ، على سبيل المثال، سطورها عن هذه المرحلة، تطلع من ثم على مساحة مهمة من مساحات المشهد الصحفي المصري في فترة شديدة الأهمية، إذ كان هناك بريق للصحافة المستقلة الحديثة بشكل ما، وآمال للقائمين عليها في اتخاذ الأفكار الحديثة في العالم منهجًا، وفرصة كبيرة كانت على وشك احتواء طموح الكثير من شباب الصحفيين الذين وجدوا في تلك المساحة ملاذًا من تقليدية الصحف الحكومية أو الحزبية على كل المستويات. ليس هذا فقط. أنت أيضًا أمام زاوية رؤية مختلفة عما اعتدناه لمشاهد من أحداث ثورة 25 يناير التي اندلعت بعد إصدار الصحيفة بعامين تقريبًا، خصوصًا في داخل كواليس المطبخ الصحفي.

مدفوعًا بما هو شخصي في أثناء القراءة، أترك الكتاب بين صفحة وأخرى وأتذكر كثير مما رأيته فيما تحكي رندا. أتذكر فرحتنا يوم صدرت الشروق بمانشيت "مبارك يتراجع والشعب يتقدم"، كان ذلك صبيحة جمعة الغضب، ومن قبله "مجلس الشعب تحت حصار الشعب الغاضب"، مصحوبًا بصورة إحدى المسيرات الحاشدة التقطها روجيه أنيس. أتذكر يوم اختفى زميل من قسم التصوير وارتبك كل من في الصحيفة، قبل أن يظهر فجرًا بذراع مكسورة وحكاية عن عدد من ساعات الاحتجاز، ليطمئن قلب رندا وتنتبه لشعور بالحنق انتابها بسبب عدم وجودها في قلب بداية الأحداث إذ كانت في زيارة أسرية لأمريكا وتوقفت خطوط الطيران بسبب الأحداث، وسؤالها الغاضب بطفولية "كده يبدأوا الثورة من غيري؟".

مع أحداث الثورة شعرت رندا بمسؤولية تجاه سلامة من تصفهم بأبنائها المصورين "المصور بشكل أساسي معرض للخطر، لا يستطيع إنجاز مهمته إلا إذا كان في الصفوف الأمامية، على خط المواجهة، غير ذلك لن تكون هناك صورة". وهنا حكاية قصيرة، بين حكايات يستطيع من يهتم التعامل معها بوصفها من شهادات حية تأتي من رؤى العين مباشرة:

"ليلة حادث ماسبيرو في أكتوبر عام 2011، وقبل أن يتدنى الصراع إلى ما بدا وكأنه بين الشعب والشعب، كان أحد مصورينا يقوم بعمله ويرقب المشهد من خلال العدسة، حين شهد دهس المدرعات لخمسة أجساد، ولم يستطع التقاط الصورة، لم أتبين كلامه حين تمكن من الاتصال بي، لم أسمع سوى نحيبه. ظل يكرر كلمة واحدة: "بيدهسوا الناس.. بيدهسوا الناس".

تعتز رندا بالعلاقة الإنسانية التي كونتها مع شباب قسم التصوير، الذين اختارتهم للعمل بمعايير ليست تقليدية، مشغولة بحبهم للتصوير الفوتواغرافي، وبأفكارهم حول العمل تحت رئاسة سيدة، وهي علاقة امتدت بعدما تغيرت أحوال العمل، وبعدما صار لكل منهم اسم معروف. لطالما تهامسنا حول ظلم العمل في الصحافة لفنانة مثل رندا. هي تقول إنها، وبمرور الشهور، اكتسبت عدة كيلو جرامات بسبب الجلوس فترات طويلة خلف جهاز الكومبيوتر، فضلاً عن عائلة من المصورين تفتخر بهم، إلا أنها، وإن شغلت هذه المهمة وقتها عن انطلاقها فنانة مصورة حرة، استطاعت نحت نسق مغاير للمعتاد يحسب لها في تاريخ مهنة المصور الصحفي في مصر.

3

المؤكد، أن هناك كثير ممن عرفوا رندا شعث، في سياقات مختلفة، سيقرأون في سيرتها الذاتية عن أشياء تخصّهم بشكل مباشر، ذلك أنه، وبينما يحتل عملها في الصحافة مساحة مشتركة بينها وبين زملائها، تحتل جوانب أخرى في حياتها مساحات تشاركت فيها مع آخرين، وهي كلها جوانب ذات ثقل في عدد من أشكال المجال العام المصري والعربي، ذلك أن حياة رندا شعث الخاصة هي حياة تقاطعت مع أكثر من منطقة حيوية في جوانب لتاريخ هذا المجال العام. ولدت في أمريكا لأب من أشهر الساسة الفلسطينيين هو نبيل شعث وأم مصرية، وتنقلت في حياتها بين أمريكا ومصر ولبنان والجزائر مع زيارات لفلسطين، ما يذهب بنا في الحكي عن سيرتها لصورة واضحة من صور "الاغتراب الفلسطيني"، بتعبير الكاتب محمد سلماوي على الغلاف الخلفي للكتاب.

لا تحكي رندا سيرتها من فوق مقعد سياسي، هي ببساطة تحكي عن نفسها متقاطعة مع أبطال قصة حياتها وأماكنها، من هنا ستجد نفسك في قلب اجتماعات لجنة مناصرة فلسطين ولبنان بعدما احتلت إسرائيل جنوبه، وستذهب معها في أجواء رحلتها إلى رام الله والبحث عن بيوت عائلتها بناءً على وصف والدها الذي تحول توتره وعصبيته، في أيام ما قبل ذهابها، إلى بكاء حار اختلط بصوته عندما هاتفته تطمئنه مطالبًا إياها: "لازم تروحي بيتنا في يافا. صوري لي بيتنا في يافا".

بصراحة، وعلى الرغم من كل ما مررنا به وآل إليه العالم وإدراكنا له في سنوات ما بعد 2011، لا يزال الكلام عن زيارة فلسطينية وأجوائها يستدعي لدى الواحد مشاعر تبدو سنتمنتالية، للدقة مشاعر لطالما تصور أنه تجاوزها بكثرة الاكتشافات والصدمات وانكسار الأحلام. وتستدعي المخيلة صباها البسيط، غير المشحون بالصدمات، مع قراءة عبارات من قبيل: "أمشي فوق السور العتيق وكأنني عصفورة طائرة فوق القباب والمآذن وأبراج الأجراس. أكاد ألمس قبة الصخرة الذهبية، غير مصدقة أنني هنا".

4

قد يندهش الواحد، بشيء من التأمل، من ثراء التجربة الحياتية التي عاشتها رندا، وربما من ندرتها. وكنت فكرت وقت صدور الكتاب في أنها أصغر عمرًا مما اعتدناه مع كتابة السير الذاتية، غير أن هذا سؤال تجيب عنه صفحات الكتاب وسرد جميل بسيط له سمات بصرية، أو كأن رندا أخرجت مئات الصور القديمة، وراحت تستدعي أجواء كل صورة في سردها لحياة متعددة الجوانب كثيفة الأحداث. حياة تصلح بارتياح لأن يعيشها أكثر من شخص في وقت واحد.

عادة ما يقف انتباه المهتمين بأدب السيرة الذاتية، في العالم العربي، عند مستوى ما يصل إليه الكاتب من صراحة، وفي "جبل الرمل" لفتتني صراحة رندا شعث. وكنت في الصفحات التي تذكرت هي فيها أيام ساعدت والدها في عمله والحضور في كواليس مفاوضات سرية قادها هو، أقول إنها تتكلم عن أحداث صارت تاريخًا، ولا بأس من الكلام بشأنها، غير أن حكيها استمر صريحًا بما يدين أشخاصًا يعيشون بيننا، نعرفهم وإن لم تسمهم. ليست مسألة نميمة شخصية، لكنك ستجد، على سبيل المثال إشارة لطغيان مصلحة رأس المال على حساب أي شيء، هي لا تقول أو تقيِّم، فقط تحكي كيف غض المسؤولون عن الصحيفة أبصارهم عما يتعرض له المصورين من خطر دون تأمين أو حماية أو رواتب تستدعي المخاطرة في أحلك أيام الحراك السياسي في السنوات القريبة الماضية، أو كيف لم يكلف أحدهم نفسه هاتفًا لمسؤول صديق في محاولة لاستعادة كاميرا أخذها الأمن من صاحبها. هكذا أنت مع سطور صريحة لكاتبة، بينما تحكي عن حياتها فهي تحكي دون أن تقصد عن عالم متسع من المعاناة والفرح والحزن والنضال والحرب والفن والحب والزواج والفقد، عن جاردن سيتي والإسكندرية وجبل من رمل أمام شرفة يحتضنها قوس حجري، عن بيروت والجزائر وغزة ورام الله، عن ثورة يناير وما قبلها من حراك سياسي سري، عن أحمد سيف الإسلام، وعلاء عبد الفتاح، والشيخ إمام، وكاميليا جبران، وعن صديقي نوهان، المصور الجميل الذي ذهب وراء عقيدته واستشهد في معركة لا أفهمها بين بعض وآخر في الأحداث السورية، وعن أحلام بدا ظاهرها لنا جميلاً، قبل أن نستيقظ منها منهكين.