رؤى

يحيى وجدي

10 سنوات على ثورة يناير.. الاحتفال  بما لم يحدث من قبل

2021.03.01

10 سنوات على ثورة يناير.. الاحتفال  بما لم يحدث من قبل

في شارع مراد بالجيزة بموازاة سور حديقة الحيوان، وعلى ُبعد خطوات من مبنى السفارة الفرنسية، سمعت شابًا صغيرًا يمزح مع رفيقه قائلاً "إحنا نسميها ثورة الجمل. رمز الصبر"، وفي اللحظة نفسها التقطت عيناي سيدتين عجوزتين تقفان في شرفة منزلهما تقرعان بفرح أغطية الحلل تحية للمتظاهرين، وتشجيعًا لهم. كانت قوات الشرطة قد انسحبت تمامًا، أو للدقة هربت مهزومة قبل نحو ساعتين، وفي طريقنا من ميدان الجيزة كنا نرى آلياتهم المتروكة؛ مدرعات ضخمة، وناقلات الجند، وسيارات "البوكس"، بعضها محترق وأغلبها يعبث به المتظاهرون ويلتقطون معها، وفي داخلها، الصور، ويكتبون بالسبراي على هياكلها الحديدية عبارات النصر والوعيد.

كان ذلك عصر يوم ٢٨ يناير ٢٠١١، وفي الشارع الذي طالما كان مزدحمًا بالسيارات لكنه في تلك اللحظة خلا منها تمامًا، بدا الحشد وكأنه بلا نهاية، كنا نحاول أن نتسلق أي شيء مرتفع لنرى أين تبدأ الجموع وأين تنتهي، لم يكن أحد يهتف، فقط نضحك على ما مر بنا قبل قليل، أو نشجع بعضنا البعض بعدم الاستسلام للإرهاق ومواصلة السير إلى التحرير، نتزاحم على المحلات القليلة التي ما زالت أبوابها مفتوحة لنعرف من أجهزة التلفزيون ماذا يحدث في باقي المناطق، وماذا جرى منذ الصباح، وهل نحن وحدنا، هل هناك من سبقنا إلى التحرير، هل انهزمت الشرطة فعلاً في بقية المدن، أم أنهم ينظمون صفوفهم للهجوم علينا من جديد. نتزاحم حول المحلات فقط لنعرف، أو نجري مكالمة تليفونية عبر الخطوط الأرضية لطمأنة أُسرنا والاطمئنان عليهم، لا لنشتري شيئًا، فعلى طول الطريق من ميدان الجيزة وحتى نقطتنا تلك، كان سكان العمارات يمدوننا بزجاجات المياه، والمأكولات البسيطة والعصائر (ومن كان يهتم بالطعام أصلاً؟). وبعضهم يسألنا إن كنا نحتاج إلى أدوية وما شابه. بعض الشُبان والشابات ممن كانو يرتدون معاطف بيضاء كونهم أطباء أو يدرسون الطب، كانو يطلبون شاشًا وقطنًا ممن لا يعرفونهم لتغطية جروح في وجوه ورؤوس ممن لا يعرفونهم.

وصلنا إلى ميدان نهضة مصر، لأرى تمثال مختار الشهير مغطى بالبشر الذين تسلقوه من أجل رؤية أفضل. وقف صف من الضباط بملابس مدنية يسدون مدخل كوبري الجامعة، ويشجعوننا على استمرار المسير حتى ميدان التحرير، كنا نضحك لهم بخبث وشفقة، نعرف أن كل همهم الآن حماية السفارة الإسرائيلية وإبعادنا عنها. حيلتهم مكشوفة وتشجيعهم الكاذب مفضوح، بعض المتظاهرين كان يسبهم أو يسائلهم عن أي فريق يحمون. لم يكن أحد يهتم بالسفارة الإسرائيلية أصلاً، وكأن هناك اتفاقًا جماعيًّا بين الآلاف على أن الهدف مختلف هذه المرة، وهذه النقطة مؤجلة. تذكرت أنه في التظاهرة الوحيدة في الجامعة التي استطعنا كسر كردونات الأمن في أبريل ٢٠٠١ ضمن تظاهرة تضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، نجحنا في الوصول إلى هذه النقطة، لكن قنابل الغاز المنهمرة علينا والرصاص المطاطي أعادتنا يومها جريًا إلى النصب التذكاري المواجه لباب الجامعة بعد دقائق قليلة.

في مواجهة مبنى مديرية أمن الجيزة، كان عدد هائل من المتظاهرين يقطعون بغضب وفرح صورة فينيل ضخمة لحسني مبارك مرفوعة على أعمدة (تسلقوها) أمام مقر الحزب الوطني المركزي لمحافظة الجيزة، ويدوسون على القطع الممزقة بأحذيتهم، ويلتقطون الصور ويسجلون اللحظة بالموبايل، شأن كل ما حدث في هذا اليوم الطويل الذي لم ينتصف بعد. واصلنا السير وعلى جانب الطريق وقف مجموعة من السياح يبتسمون بانبهار لما يشاهدونه، ربما كان هؤلاء محظوظون من بين أقرانهم في العالم كله، فمن واتاه الحظ ليشاهد ثورة في رحلته السياحية! أمامهم وقفت شابة تصرخ بفرح أمام كاميراتهم. تردد بلا توقف:

Egyptian Revolution. WE ARE FREEEEE

مع المسير الصامت، تأتي مجموعة متحمسة بالمئات من الخلف، سلكت طريقًا مختلفًا عن الطريق الذي أتينا منه، وخاضوا تجربة مختلفة ومعارك أخرى، يندفعون نحو التحرير الذي اقترب. وصلنا إلى ميدان الجلاء، وفوق تمثال طه حسين كما تمثال نهضة مصر، تحاول مجموعة من المتسلقين الحصول على رؤية أفضل. على مشارف كوبري الجلاء كان الوضع أكثر توترًا؛ جماعات صغيرة عائدة من المقدمة تتحدث عن شهداء وإصابات ومعركة كبرى تدور رحاها على على مدخل كوبري قصر النيل، وتؤكد أن الشرطة لم تنسحب بالكامل، وقواتها تغلق الطريق للميدان، يعود بعضهم يطلب من بعضنا دعم المقاتلين هناك. الهواتف ما زالت لا تعمل، والمحلات لا توجد عند هذه النقطة. لا نعرف ماذا تركنا وراءنا، وماذا يحدث في الأمام.

مع كل خطوة تقربنا من التحرير، كنا نرى بوضوح أكثر سحب الدخان، على يسارنا سور الأوبرا، وسور حدديقة الأندلس على اليمين، ووالطريق محتشدة بناس أكثر، والأرصفة أرائك للراحة قليلاً وتبادل الأخبار والمعلومات مع الغرباء.

نرتاح قليلاً ونتقدم، لنعرف أن علينا خوض معركة مثل التي خضناها في ميدان الجيزة بعد صلاة الجمعة للوصول إلى الميدان. كوبري قصر النيل مغلق بكردونات الشرطة والمدرعات في منتصفه، ومن هذه الجبهة نرى عائدين يحملون أجسادًا مشوهة بنقاط سوداء محمرة بسبب الخرطوش، وبعضهم بعين مفقوءة.

هذا ما أتذكره جيدًا من يوم الجمعة ٢٨ يناير ٢٠١١، اليوم الذي بدأت فيه الثورة المصرية فعلاً، وإن كانت تحمل اسم ثورة ٢٥ يناير. اليوم الذي يحمل كل منا له ذكرى، وصورة، وربما أثرًا في جسده. اليوم الذي أدركنا فيه أننا لسنا أقلية، وأن الخوف مشاعر فى رؤوسنا من السهل التغلب عليها. اليوم الذي لم أعد شخصيًّا بعده كما كنت قبله. كل ذكريات الثورة رومانسية، وربما هذه الرومانسية كانت مقتلها، لكن أحدًا ليس بإمكانه التبرؤ من هذه الرومانسية أو إنكارها.

يوم ٢٨ يناير لم يحدث مثله من قبل في التاريخ الذي أدركناه، قد يشبه يومي ١٨ و١٩ يناير عام ١٩٧٧، لكن الأصدقاء من ذلك الجيل يقولون إن ٢٨ يناير أعظم وأضخم وأعمق في شجاعة من خاضوه وأعلى في سقف طموحاتهم وأكثر وضوحًا في مواجهة الخصم والخصم نفسه.

لا شيء يشبه ٢٨ يناير في أي تجربة مررنا بها. مارس ١٩١٩؟ ربما، لكنها بعيدة، والعدو كان مختلفًا. طوال شهور، وخلال السنوات العشر المنصرمة من رحيل مبارك، وعلى الرغم من الأحداث المتلاحقة، كنا نتبادل الذكريات حول ٢٨ يناير. نحكي أين كان الواحد منا يومها، ومن أين أتى وإلى أين وصل في مسيرته. لكل منا بطولة صغيرة، وشعور مختلف، وحكاية غريبة عن غرباء لا يتذكر وجوههم، لكنه ارتبط بهم بما قد يصل إلى ربط حياته نفسها بهم، حياته حرفيًّا.

كان الخروج الكبير يوم الجمعة ٢٨ يناير، أو جمعة الغضب، هو الدعوة التي تبناها جميع المشاركين في الاحتجاجات التي انطلقت يوم ٢٥ يناير ٢٠١١ مطالبة بإقالة وزير الداخلية، وبالأساس وقف سياسات التعذيب على يد الشرطة، والدعوة لإجراء انتخابات نزيهة بعد الانتخابات البرلمانية المزورة بفجاجة قبلها بشهور، وبين المجموعات السياسية المختلفة تراوح مطلب رحيل مبارك، بعضها لم يذكره (ولم يرد ذلك) والبعض الآخر ممن كان يشارك في الفعاليات السياسية منذ عام ٢٠٠٥ التي ترفع شعار لا للتمديد -لمبارك- ولا للتوريث - لنجله جمال- كان يرى أن في رحيل مبارك عن الحكم إنهاءً لهذا كله. عسف الشرطة، وسيطرة الحزب الوطني على المجال السياسي والبرلمان ومؤسسات الدولة، واستشراء الفساد، وتحكم أجهزة الأمن في العمل العام، وتردي أوضاع الفقراء والاقتصاد بشكل عام، وانهيار الخدمات العامة؛ كل هذا يجب أن يحل جذريًّا بإسقاط النظام، النظام بكامله وليس حبيب العادلي وقيادات الحزب الوطني، هكذا انطلق الهتاف المستعار من الثورة التونسية التي كانت قد سبقت بأقل من شهر. الهتاف الجذري: الشعب يريد إسقاط النظام.

بالنسبة إليَّ؛ كصحفي مسيس في بداية الثلاثينات من عمري، انخرطت في العمل السياسي قبل ٢٠١١ بنحو ١٠ سنوات. وتمثلت تجاربي في العمل بالشارع في محطات محددة؛ فعاليات التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية بداية الألفية، وفي الفعاليات المناهضة للعدوان الأمريكي على العراق في ٢٠٠٣، وفي الحركة الواسعة المطالبة بالتغيير بداية من ٢٠٠٥، بالنسبة إلي لم أعوّل على الدعوة ليوم ٢٥ يناير بأكثر من أنه محطة، محطة قد تكون الأهم في طريق الحركة الداعية إلى التغيير الديموقراطي، حتى إنني يومها ذهبت إلى العمل، وقد رتبت يومي على الانتهاء منه ثم اللحاق بتظاهرة أمام نقابة الصحفيين كما يحدث في المعتاد، لكن وفي حدود الساعة الثالثة عصرًا، وبينما أتابع الأخبار عبر منصات المعارضة وفيس بوك، سمعت أصوات المتظاهرين تقتحم شبابيك الصحيفة من شارع التحرير بالدقي، وتليفوني لا يتوقف عن الرنين؛ أصدقاء وزملاء وأفراد أسرتي يتساءلون عما يحدث، وبعضهم يسألني عن مكاني، وأصدقاء يدعونني للنزول فورًا. هرعت إلى الشارع ووجدتني وسط آلاف المتظاهرين نحاول كسر الكردون الأمني الذي يغلق مدخل كوبري الجلاء إلى ميدان التحرير، وبعد أن تجاوزناه، لا أعرف كيف وجدت نفسي في ميدان التحرير وسط حشود هائلة تأتي من كل مكان. وتذكرت يومي ٢٠ و٢١ مارس ٢٠٠٣ حينما امتلأ الميدان بآلاف الرافضين لضرب العراق، لكن الأمر مختلف هذه المرة، ليست الجموع كالجموع، ولا المطالب، ولا الغضب لا الهتافات. إنها الانتفاضة الشعبية التي حلمت بها وجيلي. الانتفاضة التي عملنا لأجلها كأنها لن تحدث أبدًا، وعشنا لها كأنها ستندلع غدًا.

على عكس المتواتر فإن اعتصام الـ١٨ يوم في التحرير، لم يكن اعتصامًا تواصل ١٨ يومًا فعليًّا بشكل مستمر!

الثورة بدأت يوم الثلاثاء ٢٥ يناير بتظاهرات ضخمة في عدة مناطق ونقاط، انطلقت منها مسيرات حاشدة إلى ميدان التحرير، واستطاعت كسر الحصار المفروض حوله ودخول الميدان والاعتصام فيه حتى مساء اليوم، حينما هجمت قوات الشرطة بعنف بالغ، وفرقت المعتصمين وطاردتهم واعتقلت العشرات وأعلنت فض التظاهرات التي وصفتها صحف الدولة في اليوم التالي بالمحدودة. ولم يكن التحرير وحده الميدان الذي شهد تظاهرات في هذا اليوم، فقد تظاهر الآلاف في الإسكندرية والمحلة الكبرى والسويس، وفرقتهم الشرطة في ذات التوقيت الذي هاجمت فيه ميدان التحرير وربما بعنف أقوى، فسقط شهيد في السويس بميدان الأربعين، وتفاقم معه الغضب، ومع الحشود التي شهدها اليوم ونجاحه في زيادة ثقة المنتفضين في قوتهم وقدرتهم على صنع فرق حقيقي. كذلك كان في تجاهل الدولة والتقليل من حجم ما حدث استفزاز لهم، فتواترت الدعوات إلى استمرار التظاهرات وزيد على المطالب الإفراج عن المعتقلين ومحاسبة المسؤولين عن العنف في فض الميادين وقتل المحتجين.

وفي اليوم التالي، حاصرت الشرطة الطرق وأغلقت ميدان التحرير والميادين الكبرى في المحافظات وشنت حملة اعتقالات واسعة وسط النشطاء السياسيين من منازلهم، وواجهت الأعداد القليلة مقارنة باليوم السابق التي حاولت النزول إلى الشارع جحافل البلطجية المسلحين بالهراوات والأسياخ الحديدية، وانفجر الغضب أكثر ومعه الإصرار على المضي قدمًا في الاحتجاجات والنيل من الشرطة وأعوانها. وزادت الاحتجاجات في المحافظات وخصوصًا محافظة السويس الملتهبة نتيجة استشهاد أحد أبنائها، فسقط في الاحتجاجات شهيد ثان، وخرجت الأمور عن سيطرة الدولة وأجهزتها الأمنية تمامًا.

المجموعات السياسية الشبابية ومنصاتها التي دعت إلى الاحتجاج يوم الثلاثاء ٢٥ يناير الذي يوافق عيد الشرطة، اتفقت على الدعوة لخروج كبير يوم الجمعة ٢٨، وأطلقت عليه يوم جمعة الغضب، وانتشرت الدعوة وسط الجميع، وانضم إليها مشاهير في الفن والسياسة والعمل الثقافي وبدت الدولة مهزوزة ومرعوبة، وزادت في المقابل ثقة الجماهير في قوتها وقدرتها وغضبها، وانتشرت تظاهرات يوم ٢٧ يناير غير منظمة في مدن ومناطق لم تعرف التظاهرات من قبل، وبين تغير نبرة رموز الحزب الحاكم واستهانة الصحافة الحكومية وعسف الأمن المستمر على مدى يومين، تصاعد الغضب وبدا أن يوم الجمعة لن يكون عاديًا، ولن يكون كسابقه، وقد كان.

وفي مساء الخميس ٢٧ يناير، قطعت الحكومة خدمة الإنترنت عن بعض المناطق، وحجبت موقعي فيس بوك وتويتر جزئيًّا، وتسربت أخبار عن قطع الاتصالات في اليوم التالي وعن نزول الجيش إلى بعض المناطق، وسرت شائعات بهروب العديد من السياسيين ورجال والأعمال المقربين من النظام، وامتلأت شاشات التليفزيون الحكومي برجال الدين الذين ينهون بأمر الله عن الفوضى، ويتبادلون الكراسي مع المحللين والمراقبين والسياسيين الحكوميين الذين يتحدثون عن مؤامرة مرتبة، واتفقوا جميعًا على التحذير من مغبة الانخراط فيها، وبحلول صباح الجمعة بدت مصر مع قطع الاتصالات وخدمات الإنترنت وقطع الطرق ووقف المواصلات العامة كبلد خرساء تنتظر أول من يصرخ فيها!

انتهى يوم ٢٨ يناير بنزول الجيش، وبصراخ في كل المنابر الإعلامية أن مصر سقطت في الفوضي، ولم يكن أمام الدولة سوى بث الرعب في نفوس الملايين الذين شاهدوا الشرطة تنسحب هاربة وبعض أقسامها تحترق بعد مواجهات دامية، عاجزين عن الاطمئنان على ذويهم أو معرفة ما يحدث حقًا، وجاء صوت جنازير دبابات الجيش في الشوارع ليعلن عن وضع جديد، كان آخر ما يتذكره المصريون عنه انتفاضة الأمن المركزي في الثمانينيات.

لا أسعى في هذا المقال إلى التذكير بما حدث في تلك (الأيام العظيمة الحمراء) وأستعير هنا عنوان كتاب الشيخ عبد الوهاب النجار عن أيام ثورة ١٩١٩، لكنني أسعى بالتأكيد إلى تذكر ما حدث فعلاً في مواجهة السردية الكاذبة للثورة المضادة، والتي كرست حكايتها على مدى سنوات آملة أن تصبح الرواية السائدة.

على سبيل المثال، رددت هذه السردية أن أقسام الشرطة ومديرياتها على مستوى الجمهورية قد أضرم فيها النيران في وقت واحد، وهذا ليس صحيحًا. بعض أقسام الشرطة التي هاجم ضباطها المتظاهرين وأطلقوا على مسيراتهم الرصاص هي التي هاجمها المتظاهرين، وأغلب هذه الأقسام كانت في مناطق شعبية؛ مثل السيدة زينب والمطرية وعين شمس وإمبابة، ومديريات الأمن ومقار أمن الدولة في الأقاليم، لكن أغلب هذه المقار هوجمت على مدار أيام ٢٩ و٣٠ و٣١ يناير، بسبب ما اقترفه ضباطها من جرائم، وبعد أن فروا منها. الأمر نفسه فيما يخص السجون، لم تفتح كلها في يوم جمعة الغضب ٢٨، بل استمرت أيامًا تفتح بيد الشرطة نفسها بعد حدوث تمرد قمعته قوات السجن بالرصاص، وسقط ضحايا عديدون داخل السجون في البداية، قتلوا داخل عنابرهم إما مختنقين بالقنابل المسيلة للدموع أو بالرصاص مباشرة، مع أن التخويف من خروج المساجين إلى المناطق السكنية قد بدأ من الساعات الأولى لفجر يوم ٢٩ يناير، وكأنه كان سيناريو معدًا سلفًا. سيناريو أخذ بحذافيره من الأيام الأولى للثورة التونسية؛ سيناريو ما زال حتى الآن يتردد في سردية الثورة المضادة ليوم الثورة الشعبية. يوم ٢٨ يناير العظيم.

الأسابيع القليلة الماضية، وفي الذكرى العاشرة للثورة، انفجرت على السوشيال ميديا الذكريات والاحتفاء الكبير بذكريات الأيام الثمانية عشرة بما لم يحدث تقريبًا من قبل خلال السنوات العشر الماضية! كان الأمر لافتًا جدًا، ودالاً في الحقيقة، فقد كفر الجميع بسردية الثورة المضادة، فضلاً عن التخويف منذ يوليو ٢٠١٣ للمجاهرة بالانتماء لثورة يناير. هذا العام بعد وصول الأمور إلى الحضيض ومع وفاة مبارك، ولم يعد هناك خوف من التلويح به وباسمه وفساده، وبدور الجيش في الإطاحة به، لم يعد لأحد فضل على الجماهير. الجماهير التي وضعت أرواحها على أكفها من أجل إنهاء مبارك ووضع مبارك وطريقة مبارك.

يصعب الحديث عن أيام يناير دون التورط في التوصيفات القيمية وأفعل التفضيل. ودون التورط فيما هو عاطفي ورومانتيكي. الرومانتيكية التي كانت سببًا مهمًا، ضمن أسباب أخرى، في مقتل يناير، غير أنه لا يمكن أبدًا تذكر يناير دون ذلك، فقد كانت المشاعر هي المسيطرة في الأيام الـ١٨. وكذلك قيم التضحية والبطولة والانتماء للمجموع الطاهر المتخلص من الأنانية والخوف، الباحث عن سنوات أنظف له ولأبنائه، ولا يقتصر ذلك على الذين خرجوا في أيام ٢٥ و٢٦ و٢٧ و٢٨ يناير، وأقاموا في ميدان التحرير حتى ١١ فبراير ورحيل مبارك.

بدأ الاعتصام في ميدان التحرير فعليًّا صبيحة يوم ٣٠ يناير. يوم ٢٩ يناير ذهبت مجموعة كبيرة من الشباب إلى مقر وزارة الداخلية بلاظوغلي ليواصلوا احتجاجهم على وحشية الشرطة، لم تكن أعداد الضحايا؛ الشهداء والمصابون، قد اتضحت لأحد بشكل ملموس، كنا جميعًا نعرف بوقوع جرائم فظيعة شاهدنا بأعيننا كل في محيطه وفي حيه ومحافظته، لكن لا نعرف ماذا جرى على صعيد مصر كلها. عادت الاتصالات جزئيًّا صبيحة يوم الغضب، ومن كان قادرًا على الحركة توجه إلى ميدان التحرير، حيث لم يكن سوى عربات محترقة ومدرعات قليلة للجيش خوفًا من استفزاز المتظاهرين. وأمام وزارة الداخلية جرت مجزرة جديدة، حيث اصطاد القناصة العشرات في شارعي لاظوغلي والشيخ ريحان.

شخصيًّا ذهبت إلى ميدان التحرير مساء السبت ٢٩، وحول الصينية كان رموز أغلب التيارات السياسية من اليمسن واليسار يتناقشون فيما يجب فعله، ويتساءلون عن أخبار رجال السلطة، ويمحصون الأخبار المترددة بهروب نجلي مبارك ويتبادلون المعلومات القليلة المتوافرة، وبين وقت وآخر يأتي مجموعة من الشباب ليخبروننا عن المذبحة أمام مبنى وزارة الداخلية، وأذكر أن مجموعة منا توجهت إلى هناك، وقبل أن نقترب من ميدان لاظوغلي كان الرصاص يئز من حولنا، وعدنا أدراجنا مع جثامين الشهداء التي أتت محمولة بيد اثنين أو ثلاثة إلى مدخل شارع محمد محمود؛ حيث أقيمت نواة ما أصبحت بعد ذلك المستشفى الميداني للثورة في التحرير.

يوم ١ فبراير ظهرت الخيام للمرة الأولى في ميدان التحرير، كان قد دعي إلى تظاهرات جديدة واعتصام مليوني في الميدان وإضراب عام شامل، بعد أن رأت الغالبية جرائم الشرطة يوم ٢٨ يناير. كانت خدمة الإنترنت قد عادت، وشاهدنا سقوط الشهداء تحت المدرعات المسرعة في الميادين، والشباب الذي عروا صدورهم أمام الأقسام في المحافظات وتلقوا رصاصة قاتلة. شاهدنا السيارة الميكروباص البيضاء في شارع قصر العيني وهي تدهس مجموعة من المتظاهرين، وشاهدنا كذلك بطولات هائلة في منع الأمن من التقدم في الميادين والشوارع الرئيسية في المحافظات، ولم يكن هناك من عودة.

من الصعب الآن وبعد مرور عقد على هذه الأيام، الحكم عليها بذات المشاعر حينها. لكنني أحاول التذكر، والإمساك ولو قليلاً بالروح التي كانت؛ فقد تحوَّل ميدان التحرير إلى مركز حقيقي لكل من له مظلمة ضد نظام مبارك، ولو منعه الخوف من المشاركة في يومي ٢٥ و٢٨ يناير. أصبح الميدان صالة استقبال كبيرة للفلاحين التي انتزعت أراضيهم، وللعمال الذي سرِّحوا من مصانعهم، ولأمهات وزوجات المعتقلين الإسلاميين الذين اختفوا منذ نهاية التسعينيات، ولضحايا التعذيب السابقين، وللحالمين بالطبع في غد أفضل.

كان ميدان التحرير بؤرة للإبداع، ولم يكن وللمرة الأولى للمسيسين وأصحاب التجارب السابقة في العمل السياسي في الشارع أي فضل أو تميز. الإبداع الشعبي كان سابقًا للجميع، ما بين اللافتات الساخرة ومسرحيات الشارع المرتجلة الساخرة من مبارك وبنيه ورموز نظامه، من الروح العظيمة في الإتيان بالطعام والماء والعصائر والأدوية والأغطية من المنازل، ولم يكن حتى يوم ما عرف بموقعة الجمل لجان شعبية تغلق الميدان أو تدقق في الداخلين إليه؛ فقط دبابات الجيش وضباطه على مداخل الكباري المؤدية إليه، يحاولون بلطف تارة وحسم أحيانًا منع الناس من التدفق إلى الاعتصام الذي يبدأ، لكن دون جدوى.

كان يوم موقعة الجمل عنصرًا حاسمًا في شكل الميدان وتركيبته، ففي الثاني من فبراير، وبعد خمسة أيام من سقوط الشرطة تنادى رموز الحزب الوطني ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام إلى الاحتشاد في ميدان آخر لموازنة ميدان التحرير، واختارو ميدان مصطفى محمود في المهندسين؛ نفس الميدان الذي خرجت منه أكبر مسيرات ٢٥ و٢٨ يناير، داعين جماهيرهم والعاملين لديهم ومن استطاعوا احتذابهم بالمال وبالتخويف من "سقوط البلد" إلى هناك. كانت قد مرت أيام على ظهور مبارك في حديث متلفز يعلن نزول الجيش لحفظ الأمن، ويعد بإجراءات لحل مجلس الشعب المزور، وعزل رموز الفساد، وتشكيل حكومة جديدة وعدم الاستمرار في الحكم، ويبدو أن قلة العدد قد أغرت هؤلاء فتوجه عشرات منهم إلى ميدان التحرير من جهة عبد المنعم رياض، يتقدمهم أصحاب الأحصنة والجمال الذين يعملون عند الأهرامات بدوابهم، ومن خلفهم البلطجية المستأجرون وفلول الشرطة في لباس مدني وسط حملة إعلامية في التليفزيون الرسمي وصلتنا ونحن في الميدان، عن انتفاضة للداعين إلى الاستقرار والحفاظ على الوطن من الفوضى، مع اتصالات وصلت لرموز ونشطاء القوى السياسية بضرورة إخلاء الميدان حفاظًا على الأرواح، مع تهديدات تحولت إلى وعود بُعيد قليل بعدم المساس بأي من المعتصمين فيما بعد إذا أخلوا الميدان.

ودارت معركة أسطورية حفاظًا على الميدان. وأسطورية هنا هي الوصف المناسب، ذلك أنها دارت في مواجهة جمال وأحصنة يمتطيها من يحملون الكرابيج والسيوف وكأن المشهد كله ينتمي لعصر سابق، واستمرت المعركة حتى فجر اليوم التالي، ومع اندحار الغزاة، ثبت أن النظام الحاكم سقط تمامًا، ولم يعد لديه المزيد؛ فشرطته هاربة وميليشاته الشعبية هزمت والجيش فيما يبدو ينتظر من يربح ليصطف معه!

بعد الثاني من فبراير وحتى رحيل مبارك في الحادي عشر منه، أصبح الميدان ثكنة شعبية إذا جاز التعبير، محاطًا بلجان شعبية، وله قيادة ما تسهر على حمايته، وتوفد إليه المزيد من الجمهور القادم من الأقاليم للزود عنه بعد أن كاد يضيع من الثوار، وأقيمت المنصات وتضاعفت خيام المبيت وتراجعت دبابات ومدرعات الجيش لتفسح للميدان أمتارًا أكثر في كل نواحيه، ومع ذلك لم تثبت انتمائها بالكلية للثوار فراح القادمون من كل مكان يتخذون من الجنازير أسرة لمبيتهم ولمنعها بأجسادهم من محاولات التقدم.

وبالتوازي، قرر الثوار حسم الأمر وامتدت خيامهم إلى شارع قصر العيني فحاصروا مقر مجلس الوزراء، ومقرات الوزارات ومقري مجلسي الشعب والشورى، ودعت المجموعات السياسية إلى مليونيات لحماية الثورة والميدان، ولم يعد أحد يلتفت إلى الوعود المُراقة على الشاشات والصحف بأن عودوا إلى منازلكم وسيتغير الوضع، وعرف الجميع أن الثورة وحدها ستحمي الثورة ولا شيء سواها.

لم يحتج الأمر إلى أكثر من أسبوع من الثبات في ميدان التحرير وتوسيعه إلى ميادين أخرى وصلت إلى قصر الرئاسة (الاتحادية) في مصر الجديدة، وكأن شارعًا واحدًا يربط بين الاثنين، وبحلول السادسة مساء الجمعة، ١١ فبراير دوى الصراخ وترددت الأهازيج الفرحة في الميادين، وعرف من لم يكن بالقرب من جهاز التليفزيون أن حسني مبارك قد أعلن رحيله.

ومن مكاني ارتبطت هذه اللحظة بمشهدين؛ الأول لصديق يهتف بكل جسده بعد أن عرف بتكليف مبارك للجيش بإدارة شؤون البلاد "عسكر تاني لأ.. عسكر تاني لأ"، لكن صوته راح سدى وسط المحتفلين، والثاني لشاب فقد إحدى عينيه يوم ٢٨ يناير بالرصاص المطاطي، يرقص بغمامة بيضاء متربة، محتضنًا صديقته مثل درويش يكاد يمسك بقطعة من السماء.