مراجعات

سمير درويش

"الحب بمن حضر" لوحيد الطويلة..

2024.05.11

مصدر الصورة : آخرون

كيف يصنع الروائي أسطورته الشعبية الخالدة؟

الحدوتة في الروايات ليست هي الأساس، بالرغم من أنها الأداة التي يستخدمها الروائي لشد انتباه قارئه، فالحواديت كثيرة ومتشابهة، وتكاد تتطابق في بعض الأعمال الفنية، لكن الأساس هو البناء الفني. 

أقول هذا بعد أن انتهيت من قراءة رواية وحيد الطويلة "الحب بمن حضر" -الصادرة عن دار العين للنشر بالقاهرة- بالرغم من أن البناء جاء على شكل حدوتة شعبية!

الحواديت الشعبية الشهيرة الني يرويها المنشدون في الموالد والأفراح والحفلات بالقرى المصرية، تقوم بالأساس على قصة حب بين شاب وفتاة، مثل: حسن ونعيمة، شريف وشريفة، وحيد وإلهام، أنعام ورسلان، زهرة ومروان، سماح وصلاح.. تعاني من صعوبات نتيجة اختلافات مجتمعية، وتتداخل فيها الأساطير التي تقود إلى سلسلة من الأحداث الخارقة غير المتوقعة؛ لكي ينتصر هذا الحب في النهاية.

مستويان للسرد

لم يكتفِ وحيد الطويلة في "الحب بمن حضر" بأن يصنع قصة الحب غير المتكافئة تلك بين: "موعود" الذي يعمل في قمينة لصناعة الطوب والفخار، وهو في الأصل ابن الغجر الرُّحَّل، سرقته امرأة وهو رضيع واعترفت له بأصوله قبل أن تموت. و"بهجة" طالبة الفنون الجميلة، التي تنتمي إلى عائلة معروفة وأب مرموق بين ناسه، توفيت أمها وهي صغيرة، وتفرَّغ أبوها لتربيتها، وكان يثق فيها ولا يقف أمام طموحها ورغباتها.

لم يكتفِ بذلك، وإنما قسَّم الطويلة جسد روايته إلى مستويين: الأول -وهو الأقل حجمًا- هو سرد بلغة السرد الفصيحة المعتادة، يتتبع العلاقة الفعلية بين الشاب والفتاة يومًا بيوم؛ منذ أن التقيا وهما يافعان، فنبتت بذرة الحب في قلب موعود مباشرة، بينما ظلت بهجة مترددة، لا تفهم مشاعرها نحوه.. والثاني -وهو الأكبر حجمًا- الذي بدأ به هو أن تُحكى الحكاية على لسان راوٍ على ربابة، مثل رواة الأرياف الذين ذكرتهم، مستعيرًا لغة الحكي الشعبية الدارجة في مثل تلك القصص، التي تخلط الفصحى بالعامية المصرية، مثل قوله: "اصبروا عليَّا، الحكاية في أولها .."، "لكن أنا أحب أن أخفف عنكم، ولا أصدمكم مرة واحدة"، "لا أكذب عليكم لو قلت لكم إن أجساد الناس نحلت"، "الحقيقة يا كرام: مر أغراب كثيرون .."، "أنا لا أقول لكم ألغازًا، لا أفشر عليكم"، "أنتم مستعجلون، أعرف، تريدون نهاية الحكاية"، "لا أطيل عليكم في الكلام، قولوا طوِّل"، "لو سمعتم الحكاية من واحد آخر، سيقول: إن البلدة كلها خرجت"، "ماذا تريدون يا خلق؟ أنا لا أفتي، ولا أعرف ما في القلوب، أنا أقص عليكم ما جرى.."، إلى آخر هذا الحوار بين الصَّيِّيت والمستمعين المفترضين الذين يقوم مقامهم القراء هنا.

تداخل المستويين في زمن واحد

لكنَّ ثمةَ موضعًا في نهاية الثلث الأول من الرواية سيتداخل فيه السرد اليومي مع الحكاية الشعبية التي يحكيها الراوي، حين يقول: "في الوقت التى استعدت فيه الألسنة بالأسئلة، قال أحدهم: إن صوت ناي كان يلعلع في الفضاء قبل وصول الرسائل بدقائق، بموال حب يغشاه بعض الحزن بين المقاطع، موال تعيس يتناسب مع الحالة التي يعيشونها". بعد هذا المقطع سيتزامن المستويان ويتداخلان، بعد أن كان يُظَنُّ أن الحكاية الأصلية تحدث في زمن، وروايتها تتم في زمن آخر.

الحكاية الشعبية تقوم على حكمة ونبوءة، وبالطبع سيأتيان في "الحب بمن حضر" على لسان العجوز.. العجوز هو حارس القمينة الذي اقترب أجله، وتقول الأسطورة: إنه لا بد أن يأتي غريب ليعمل فيها محله، غريب مثله تمامًا، وإلا احترقت الدنيا، وهذا يحدث كل مئة عام، لا بد أن يكون غريبًا، وهو ينتظر وينظر للطريق، حتى جاءه الغريب، وهو ولدٌ تخطَّى مرحلة الطفولة ولم يدخل بعد مرحلة الشباب هو "موعود"، جاء به رجل بعد أن ماتت أمه وأصبح وحيدًا ومقطوعًا من شجرة وليس لديه مصدر رزق، ستنضجه نار القمينة على مهل، وسيتعلم فنون الفَخَّار ويعلمها لحبيبته، ويصنع لهما أيقونات فَخَّارية تخلِّد قصتهما، الكثير من الأواني والفازات والعرائس والطيور وقوالب الطوب المكتوب عليها اسمها، أراد أن يخلدها ويضع اسمها في كل البيوت، وأحيانًا يريد أن يضع اسميهما معًا، كحبيبين خالدين "موعود وبهجة".

الحكمة التي تفض اللغز

العقدة في الحكاية الشعبية تلك التي تصنعها الرواية؛ أن الحب لم يكن متبادلًا بين الشاب والفتاة، موعود وبهجة، مثلما كان بين حسن ونعمية، أو شريف وشريفة، وكل الحكايات المماثلة التي يكون الصراع فيها قائمًا على تصميم الحبيبين على الاقتران رغم الفوارق الاجتماعية ومعارضة الأهل، هذا هو الانحراف الكبير؛ لذلك قرر الشاب موعود أن يحرق البلدة كلها؛ لقناعته بأن نار الحب تدمِّر بالفعل، لكن الحب سيصلح ما تم تدميره بحيث يعود كل شيء أنقى مما كان، يعني أن فَتاته ستبادله الحب بعد الحريق العظيم.. وبالفعل يبدأ في خطته بإرسال خطابات لكل الأزواج وكل الزوجات، بأن الشريك يخون شريكه مع جارٍ أو أخ أو صديق.. هذه الخطابات تنذر بإشعال فتنة ستطلق نيرانها على الجميع، ولن تُبقيَ أحدًا، وبالفعل حين تبدأ نذر النار، تَظهَرُ الحكمة التي قالها العجوز لموعود قبل أن يموت:

"إذا أردت أن تصلح شيئًا أفسدته بيدك، فعليك أن تغمس هذه اليد في نار القمينة.. أَمسكْ عليها كما أُمسك عليك". ومثل الأساطير الشعبية يشعل موعود نار المازوت ويضع يديه فيها، فتطير قصة الرسائل من عقول الناس كأنها لم تكن وتُوأَد الفتنة.

طبعًا ثمة تلخيص مُخل واستسهال حين نُقر هنا بأن "موعودًا" هو من أرسل الرسائل، على الأقل حين نصل للنهاية بهذه البساطة دون المرور على التشويق داخل العمل، لكن -كذلك- تجب الإشارة إلى أن "بهجة" وجدت اسمه مكتوبًا أمام عينيها كفاعل لا شك فيه، بفعل شفافية العلاقة التي تستبطن نوايا الشريك دون أن يقولها.

نبوءة طائر الفَخَّار

أما النبوءة فقد قالها "موعود" لحبيبته، وتذكَّرَتْها حين لم تجده في القمينة؛ فقد غادرها بعد أن بنى بيتًا صغيرًا لهما، الطوبة الكبيرة في أعلاه عليها اسمهما؛ ففي الصباح وجدت في بلكونة بيتها -البلكونات هي أماكن استقبال الرسائل الغامضة في الرواية- طائرًا من الفَخَّار، فتذكرت أنه قال لها يومًا "لو وجدتِ طائرًا فى شرفتك فتأكدي أننى سافرت.. ولو احتفظتِ بهذا الطائر سنتقابل من جديد.. لو لم تحتفظي به لن نتقابل أبدًا".

سنلاحظ هنا أن "موعودًا" الشاب الصغير يرث الحكمة من العجوز لمجرد أنه أخذ مكانه، حكمة لا يصل إليها الناس إلا بعد الكثير من التجارب مع أنه شاب في مقتبَل العمر، كما سيَبِينُ من مواجهاته مع "بهجة" وهي تتهمه بإرسال الرسائل الغامضة، أنه يرد عليها برصانة ووقار لا يتناسبان مع تجربته، لكننا أمام أسطورة لا تعترف بالعمر.

أدوات الأسطورة وشخصياتها

وحيد الطويلة في "الحب بمن حضر" مثل لاعب الشطرنج الذي يلاعب الذكاء الإلكتروني، بَسَط الرقعة أمامه، وهدفه الواضح أن يصنع أسطورته العصرية، فجمع أدواته واحتشد بها، أهمها تلك الشخصيات الرئيسة التي ذكرتها: موعود وبهجة وأبوها والعجوز والمنشد والمستمعون وأهل القرية رجالًا ونساءً، لكن ثمة أدوات/ شخصيات أخرى تحتاجها أية أسطورة، مسعد سائق السيارة الذي اغتصب منبر الجامع في صلاة الجمعة، علولو أو علعولو (تحريف من علي) عازف الناي الذي يسرف في شرب الحشيش مع مسعد، وشيخ الجامع الذي تزوج "حربية" عرفيًّا في السر، المرأة الجريئة التي جاءت أمام المسجد وقت صلاة الجمعة لتفضحه أمام المصلين، والشيخة صباح وأعمالها المخبأة في أكفان الموتى، وعلاقتها المعقدة بحماها/ عشيقها، وبزوجها ودُرَّتها حيث تمارس عليها سطوة القوة والنفوذ.. شخصيات أسطورية، نصفها ملائكي، ونصفها شيطاني، صنع منها الكاتب ملامح أسطورته.

في النهاية تحتل قصة الرسائل المجهولة المُجَهَّلة حيِّزًا كبيرًا من (جسد) الرواية، الرسائل التي تشكك الأزواج في زوجاتهم، والزوجات في أزواجهن، وتشعل نيران فتنة لو استعرت نيرانها فلن تنطفئَ بسهولة، وهي حكاية لها شبيه في بعض الأعمال الروائية العالمية، أقصد ثيمة القرية الهادئة التي يهز هدوءها متغيِّرٌ خارجي، مثل قصة جثة الرجل الغريب التي اكتشفها أهل قرية طافية بجوار شاطئ النهر، وظنوا أنها لرجل يرافق امرأة منهم، وتبدأ الأسئلة تُطرَح، والنساء يدخلن في دائرة الشك واحدة إثر واحدة. أو المسافر الذي يعود بعد غيبة طويلة ليجد الأحوال التي يعرفها قد تبدلت، والعلاقات تعقدت، هذه المتغيرات التي تكشف زيف الهدوء الخارجي الذي يخفي مصائب في باطنه.

لكن هذه الثيمة ليست مقصودة لذاتها في "الحب بمن حضر"، وإنما المقصود هو صناعة الحكاية الشعبية، صناعة الأسطورة، وأتصور أن وحيد الطويلة فعلها بحُنْكة كبيرة.. ورغم أن ثمة مواضعَ كثيرة تحتاج التوقف الطويل أمامها، فإن تلك كتابة أخرى.