فنون

وليد الخشاب

"بالعربي": الأرض والتاريخ يغنيان للمقاومة

2024.01.04

مصدر الصورة : الجزيرة

"بالعربي": الأرض والتاريخ يغنيان للمقاومة

كنت أرتعب في طفولتي متى سمعت صوت سيد مكاوي في التلفزيون يصدح بقصيدة فؤاد حداد بالعامية المصرية: "الأرض بتتكلم عربي... الأرض.. الأرض/ الأرض بتتكلم عربي ومن حطين/ رد على قدس فلسطين/أصلك مية وأصلك طين/ الأرض.. الأرض/ الأرض بتتكلم عربي".

كنت أتصور أن الأرض في أي مكان يمكن أن تفتح فاها لتتكلم، وكنت أتوقع في كل مكان تحتي زلزالًا قد يصدعها، أو فوهة قد تنفتح. على أي حال، أدركت بفطرة الطفولة أن الأرض حين تتكلم، فهذا حدث عظيم، وخطب جلل، وعلامة على غضب شديد، حتى إنني اندهشت حين عاودت الإنصات إلى التسجيلات نفسها في شبابي، فوجدتها أكثر شجنًا وأقل غضبًا من ذكريات الطفولة.

اليوم وقد مرت الأراضي الفلسطينية - لا سيما في غزة - بمحنة جديدة تضاف إلى عشرات المحن من غارات وتدميرات منذ ثلاثة أرباع القرن، تعاودني أنشودة الأرض التي "تُحَدِّثُ أخبارَها" بصوت سيد مكاوي بأن الكيلَ قد فاض، وأن المقاومة - ولو في حدها الأدنى، بالمحافظة على الحياة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية - ما زالت عفيةً، مسموعة الصوت.

اليوم تدهشني تلك القصيدة؛ لأنها لا تتبدى مجرد صوت ضمن جوقة الخطابات والكتابات والأغنيات الوطنية التي اشتعل بها الخطاب القومي العروبي بين الخمسينيات والثمانينيات، بل إنها تجسيد لما أسميه: الصوفية الوطنية. تتجلى في القصيدة وفي نسختها المغناة وحدة الوجود بشكل فَعَّال سياسيًّا وتاريخيًّا وروحيًّا، فكلام الأرض كما يُفَصِّلُه حداد بصوت مكاوي يؤدي ويؤكد وحدة الأرض؛ أي: وحدة مادة العالم، وهذا ما يجعل القصيدة عابرة للعصور والسياقات، لا مجرد تعبير عن الحنين القومي لإقليم الأمة.

تبدو القصيدة - لا سيما عندما يؤديها الصوت المنشد - حاملة لمفارقة لغوية أولية؛ فهي تترنم بأرض عربية وتسميها: حطين، القدس، فلسطين، وهي تؤكد أن لغتها هي العربية، ومع كل هذه الإشارات العروبية فلغة القصيدة نفسها قُطْرية، ألا وهي المحكية المصرية، لكن القصيدة في لُبِّها مبنية على هذه التناقضات/التوترات: فهي مصرية في لغتها، عربية في أفقها، وهي محكية، لكن شديدة القرب من الفصحى، وهي وطنية عروبية في معناها المباشر، شاملة كونية في منحاها وفاعليتها، وهي سياسية قومية مناهضة للاستعمار، لكنها روحانية صوفية تتوسل بوحدة الوجود.  

يشير المقطع الشهير في الأغنية - المقطع الثاني - إلى أرض فلسطين إشارة وطنية، ويستدعي تاريخ الأمة المجيد بوصفه تيمة راسخة في الأدب القومي، عندما يذكر معركتي حطين والقدس، وهما من أهم المواقع التي انتصر فيها عرب العصور الوسطى على الغزاة. لكن ختامه يعود إلى ما قبل التاريخ، إلى التاريخ المقدس للخليقة، وإلى لحظة بداية الحياة في الوجود: "أصلك مية/وأصلك طين".

يربط ذلك الصوت بخيط القافية زمنَ التاريخ المجيد بمجد البدايات المقدس، بين فلسطين المحرَّرة في التاريخ والطين كأصل الإنسان والحياة عندما يتلاقى مع الماء، لكن تلك الصوفية الوطنية مدخلها صوفية روحانية مسلمة، فالمقطع الأول يبدأ بالثناء على الله، مثل كثير من الأناشيد الصوفية الشعبية: "الأرض بتتكلم عربي وقول الله/ إن الفجر لمن صلَّاه". تبدأ الأغنية/القصيدة من لحظة ما قبل الخليقة، بذكر الخالق، ثم "تنزل إلى الأرض" فتذكر الفجر؛ أي: بداية اليوم، وبداية عودة الحياة للحركة في عالم البشر.

يستمر ذلك التراوح بين تأمل حياة الأرض كفكرة كلية للوجود وبين الأرضي التفصيلي؛ أي: النموذج العربي الفلسطيني في المقطع الثالث: "الأرض بتتكلم عربي بوجد وشوق/الفرع اللي يهب لفوق/لاجل الجدر يشم الضوء"؛ أي: أن الهم القومي الداعم لنضال فلسطين من أجل التحرر والحياة في المقطع الثاني واقع بين قوسين صوفيَّينِ، هما: المقطعان الأول والثالث. إن كان المقطع الأول يتوسل بالخالق وبمفردات الإسلام، فالمقطع الثالث يستخدم مفردات الطبيعة الأثيرة لدى شعراء الحياة وكتاب وحدة الوجود: فكلام الأرض - وإن كان بالعربية، وإن كان جزئيًّا عن أنين فلسطين وغضبها - هو صلاة للخالق وللحياة. من هنا جاءت المفردتان الصوفيتان من باب العشق: "وجد وشوق".

لكن المقطع الثالث ينطلق من الأرض إلى السماء، في مسارٍ عكس مسار المقطع الأول؛ يبدأ المقطع الأول من سماء الخالق ليهبط إلى الفجر على الأرض، بينما يصعد المقطع الثالث من جذور النبات المتشوق إلى الضوء: "الجدر يشم الضوء"، ولا يخلو من صورة يختلط فيها الوطني بالصوفي: "الفرع اللي يهب لفوق" هو النبات مجاز الشباب الذي ينتفض واقفًا مقاومًا، وهو أيضًا مجاز العاشق المتعبد الذي يصبو إلى مصدر النور فينتصب مستشرفًا ما هو أعلى.

قصيدة حداد - وإن بدَّل مكاوي في بعض كلماتها - تظل ملهمة؛ لأنها بلطف تحرِّك الجمادات، وتوقظ النماذج الأصيلة للهول (الأرض فاغرة فاها) وللسكينة (الماء والطين أصل الحياة)، وتذكرنا بأن فلسطين في القلب، ليس من باب نصرة أبناء الأمة الواحدة، ولكن من باب الأخوة في الإنسانية، التي تشترك جميعها في الأصل: الماء والطين، وفي التوق إلى ما هو أعلى: "قول الله". وبهذا يتبدى أن "الأرض بتتكلم عربي" بمعنى مزدوج؛ فهي تتجسد في ألفاظ عربية، وهي تُعرِب بالألفاظ عما استعجم، وتفسر كلام الطبيعة: الفجر بداية متجددة للأمل، والنبات دليل على انتصار الحياة مهما طال زمن القهر.

 رابط لأغنية: الأرض بتتكلم عربي.

https://www.youtube.com/watch?v=GYWgabYVQyE&ab_channel=FTYANI