غزة تقاوم

عمرو عادلي

خمس وسبعون سنة من هذا الهُراء!

2023.12.30

مصدر الصورة : The National.Scott ( Middle East )

غزة تقاوم

خمس وسبعون سنة من هذا الهُراء!

قبل أن يمر العام الخامس والسبعون، انفجرت أحداث السابع من أكتوبر، وفجرت معها حربًا ضروسًا لا تزال تدور رحاها في قطاع غزة، مع مخاوف حقيقية حول امتدادها للإقليم الأوسع، مما دفع الولايات المتحدة للتحرك عسكريًّا بإرسال حاملات الطائرات، ونشر بطاريات الصواريخ؛ لحماية قواعدها المتناثرة في الخليج وسوريا والعراق.

 بالطبع ليست الحرب الدائرة، ولا ما سيتلوها من إعادة ترتيب وتفكيك وتركيب، بأمر جديد على منطقة الشرق الأوسط، التي كانت ولا تزال ضمن أكثر مناطق العالم اضطرابًا؛ ففي العقد الماضي على سبيل المثال كان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو الإقليم الحاضن لأكبر عدد من الصراعات المسلحة الدولية والأهلية (أي: بين الدول وداخلها) على مستوى العالم ككل، ولا يبدو مع كل ما يحدث أن المنطقة تتجه نحو الاستقرار؛ لأن الكثير من مشكلاتها مستعصية على الحل.

وما القضية الفلسطينية إلا نموذج ومثال لـ كيف يكون استعصاء قضية على الحل على نحوٍ، خلق الوضع الحالي الذي يعيش بمقتضاه الفلسطينيون تحت احتلال مؤبد في الضفة الغربية؛ إذ يظلون عُرضة للتمدد الاستيطاني وانتزاع الأراضي، والطرد من البيوت بشكل ممنهج، وما ينطوي عليه هذا من أشكال شتى من العنف الأمني والعسكري بل والبنيوي، في أدق تفاصيل الحياة، بينما يرزح قطاع غزة تحت حصار مؤبد هو الآخر بلا أفق لرفعه يومًا ما.

والمثير للانتباه أن "استثنائية" الوضع الفلسطيني؛ لكون القضية - التي تدور في أساسها حول الاحتلال والاستيطان والضم والاستيلاء - قد وُلِدت تمامًا في لحظة تشكل النظام الدولي الحديث، الذي يقوم على تجريم الاحتلال والاستيطان والضم والاستيلاء تحديدًا، ويضمن الحق في تقرير المصير لكل شعوب الأرض في عالم يعتمد على دول مستقلة ذات سيادة.

تحولت القضية الفلسطينية إلى استثناء مؤبَّد هي الأخرى: حالة لا تنطبق عليها القواعد - لا الآن ولا غدًا - وكان الحل الذي سعت إليه الولايات المتحدة منذ انهيار عملية السلام في مطلع القرن الحادي والعشرين، هو تطبيع ذلك الاستثناء قدر الإمكان عن طريق خلق اتِّفاق عربي - إسرائيلي واسع لديمومة الاحتلال والاستيطان والحصار، وما تطور إليه الوضع إلى ملامح قوية للفصل العنصري، خاصةً مع اتجاه المجتمع الإسرائيلي إلى يمين أكثر يمينية من يمين قبله، وتخلي الصهيونية عن علمانيتها وليبراليتها (وكلاهما كان مليئًا بالتناقضات أصلًا) لصالح صياغات عنصرية ودينية فجة.

لست من أنصار إلقاء كل اللوم على الاستعمار والاحتلال لتفسير، وربما تبرير أداء دول المنطقة التعيس على صعيد التنمية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية، ولا أقول: الديمقراطية وحقوق الإنسان، فنحن فاعلون ولسنا فحسب مفعولًا بنا، وقد كانت هناك فرص، وفي مقابلها أخطاء بل وخطايا، قد أفضت إلى ذلك المسار الذي تجد أغلب شعوب المنطقة نفسها بإزائه على مختلف الأصعدة، والذي تجلى أشد ما تجلى في النتائج المباشرة لثورات 2011 و2019.

لكن في المقابل، فإن التحديات الخاصة بالاستعمار والإمبريالية، والتدخلات العسكرية الخارجية، ظلت ملمحًا أساسيًّا يحدد علاقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالعالم الخارجي أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، خاصةً بعد انتهاء الحرب الباردة ربما بجانب دول الساحل في غرب إفريقيا، وجمهوريات أمريكا الوسطى والكاريبي، وجميعها ضمن أكثر المناطق اضطرابًا وعنفًا.

فكم منطقة في العالم شهدت ممارسة كولونيالية تقليدية وقديمة، كأن تأتي الإمبراطورية (أي: الولايات المتحدة) بعددها وعديدها لتغزو بلدًا يقع على بُعد آلاف الأميال عنها ألا وهو العراق في 2003؟ وكم منطقة في العالم لا تزال تشهد "استثناءً دائمًا" كدولة إسرائيل الباقية أبدًا والخالدة أبدًا، والتي لا يفوِّت مسؤولوها وأصدقاؤها فرصة للحديث عن قدر نجاحها المدوي على أمل الإيحاء بأنها دولة "عادية" و"طبيعية"، وما هي كذلك.

ولَّد هذا "الاستعصاء" الاستعماري آثارًا كثيرة، ليس أقلها تصدر أيدولوجيات ذات نزوع سلطوي وربما شمولي باعتبارها ما يلزم لمواجهة الاستعمار، بدءًا من البعث والأيديولوجيا الناصرية، وانتهاءً بالأيديولوجيات الإسلامية سنية كانت أو شيعية، والتي كثيرًا - وربما عادةً - ما تماهت مع مشروعات طائفية وجهوية بل وقبلية ضيقة، تخالف تمامًا ادعاءات العالمية التي تحملها باسم: القومية، أو باسم: الدين الغالب في المنطقة (انظر: تجربتي البعث في سوريا والعراق على سبيل المثال لا الحصر).

ولا شك أن المشهد اليوم ينطق إلى حد كبير بهذه التيارات، فمحور "الممانعة" أو "المقاومة" يضم بين جنباته نظامًا ثيوقراطيًّا صريحًا يحكم من طهران، يواجه انتفاضة شعبية بمعدل سنوي تقريبًا، يقابلها بالمزيد من القمع، بينما يتجه النظام نفسه أكثر فأكثر ليمزج طابعه الديني الشمولي القائم على ولاية الفقه بديكتاتوريات العالم الثالث العسكرية، مع الصعود المستقر للحرس الثوري.

وبما أن إيران - عن حق بالمناسبة - هي أهم فاعل إقليمي يواجه الإمبريالية (وإن كان يتعاون معها في بعض الأحيان وبشكل مرحلي؛ كما حدث في أفغانستان، ثم مؤخرًا في العراق ضد داعش)؛ فإن حلفاءها في الإقليم يتمثلون في قوى ذات نزوع طائفي واضح بدءًا من حزب الله أو ميليشيات الحشد الشعبي، ثم مؤخرًا أنصار الله (الحوثيون في الأغلب بفضل التدخل الخليجي الفاشل في اليمن، والذي لم يدفعهم عن السلطة بقدر ما دفعهم إلى أحضان إيران)، وهم جميعًا أبطال لحلقات ممتدة من الصراع السياسي التالي على 2011، والذي أخذ خطوطًا مذهبية وطائفية فجة بين السنة والشيعة، وكانت سوريا والعراق بالأخص (واليمن بدرجة أقل) هي مسرح الأحداث التي قُتل فيها مئات الآلاف وتشرد بسببها الملايين، هذا بالطبع بالإضافة إلى نظام أسرة الأسد وما تبقى معه من سوريا، والتي تحتلها قوات إيرانية وروسية وأمريكية، وربما بلاد أخرى.

كان فشل التدخل الإمبريالي الأمريكي في 2003، وما تبعه من خسائر اقتصادية وعسكرية باهظة قد خلق ما يشبه "عقدة" لدى الجمهور الأمريكي ضد أي تورط عسكري مستقبلي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا - كان هذا الفشل نفسه مصدرًا للكثير من الفوضى تسببت فيها طموحات إنشاء إمبراطوريات إقليمية تملأ الفراغ الأمريكي المتزايد في العقد الأخير - وما كان المشروع الإيراني إلا التجلي الأكثر نجاحًا مقارنة بالمحاولات التركية والسعودية بل والقطرية والإماراتية، التي لم يكن يجب أن تؤخذ على أي جانب من الجدية في أي وقت من الأوقات.

لقد كان النجاح الإيراني راجعًا إلى كونه الأكثر "ممانعة"، وكذلك الأكثر شمولية وأدلجة وطائفية.

أطلق اضطراب المشروعات الإمبراطورية الإقليمية فعاليات خاصة به، كان أهمها التطبيع بين دول الخليج العربي (ودول أخرى أقل أهمية في ذلك الملف، مثل: المغرب والسودان سابقًا) مع إسرائيل في صيغتها الأشد يمينية وتطرفًا، ولكن كذلك في صيغتها الأشد اضطرابًا من الناحية السياسية الداخلية، وكما تبدى في أكتوبر الماضي ربما تكون النسخة الأشد ضعفًا وترنحًا منذ نشأة الدولة العبرية الخالدة دائمًا وأبدًا، وذلك كله على أمل تكوين محور في مواجهة إيران.

ومن هنا كان التماهي الوقتي بين القضية الفلسطينية ممثلة في حماس - علمًا بأن القضية قد شهدت تديينًا مستمرًّا في إطار نزوعها نحو اليمين في العقود القليلة الماضية - وبين إيران في مواجهة المحور الآخذ في التشكل في مواجهتها برعاية أمريكية، والذي لن يترسخ إلا على حساب النكران الكامل لأي حقوق للفلسطينيين.

حقيق بالإسرائيليين وحلفائهم وأصدقائهم أن يحتفلوا بمرور ثلاثة أرباع قرن على نشوء دولتهم، التي وردت في نبوءة إشعياء، وفي ترنيمة حزقيال وفي بشارة دانيال، والتي تقف في منطقتنا نموذجًا للحداثة التكنولوجية الفائقة المؤسسة على أرسخ الأساطير الدينية والخرافات العنصرية والقومية.

هل كان يمكن أن ينشأ في ذلك السياق التاريخي طرح تقدمي ديمقراطي؟ ربما، وربما لا، ولكن المؤكد أن فرص مثل ذلك التحول في المنطقة لن تكون بالقفز على تركة الاستعمار التي لا تنتهي، ممثلة بالأساس في الاستثناء الأبدي الذي طالما واجهه الفلسطينيون ولا يزالون.