مراجعات
هشام أصلان«قد أفسدت إسرائيل كل شيء».. يهود مصر برواية «أبو الغار»
2022.08.01
«قد أفسدت إسرائيل كل شيء».. يهود مصر برواية «أبو الغار»
"في اليوم التالي مباشرة كنت أقلب العدد الأخير من مجلة الوسط وأقرأ: توفى في باريس عالم النفس والكاتب المصري الأصل جاك حسون عن 62 عاما بعد صراع مع المرض الخبيث. وحسون معروف كأحد أبرز علماء النفس في فرنسا. كان أحد أعضاء مدرسة باريس الفرويدية التي أسسها جاك لاكان، بالإضافة إلى انخراطه طويلاً في صفوف اليسار التروتسكي. اشتغل صاحب (إسكندريات) و(القسوة الكئيبة) على اللغة والمنفى، والعلاقة بين اللغة الأم والهوية، وأصدر كتابا مرجعيا عن يهود بلاد النيل، الذي ينحدر منهم".
بالفقرة السابقة، أنهى إبراهيم أصلان حكايته مع جاك حسون، المصري اليهودي الودود الذي قابله على طاولة طعام في محفل ثقافي فرنسي إحدى سنوات التسعينيات. قال له الرجل إن أصوله تعود لقرية مصرية قرب المنصورة اسمها "خلوة الغلبان". واستساغ إبراهيم أصلان اسم القرية، وقرر أن يكون اسمها عنوانًا لكتاب يؤلفه مستقبلاً وإن لم يكن قد عرف بعد عن أي فكرة سيدور الكتاب. بعد سنوات أصدر أصلان كتابه "خلوة الغلبان" ليضم عددًا من الحكايات الواقعية بتقنية السرد القصصي، وكان من بينها حكاية لقائه بجاك حسون ملهم عنوان الكتاب.
لم تتجاوز حكاية أصلان عن حسون سطورًا قليلة، التقط فيها شيئًا من مشاعر تأثرت بلحظة فرح الرجل بلقاء مصريين ومحاولة الاحتفاء بهم ما لم تسمح به ظروف برنامج رحلتهم، مرورًا بارتباك الكاتب لمعرفة أن الرجل يهودي الديانة، انتهاء باقتراب عودته إلى فرنسا بعد سنوات وعزمه على الاتصال بحسون للقائه وتعويضه بمساحة أكبر من الوقت جبرًا لخاطره، قبل أن يقرأ خبر نعيه في مجلة "الوسط"، فيما لم تقدم حكاية أصلان عن حسون معلومات تتجاوز تلك السطور القليلة التي جاءت في النعي.
استعدت حكاية "خلوة الغلبان" بينما أقرأ فيضًا من سيرة جاك حسون في كتاب الدكتور محمد أبو الغار الأحدث "يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟"، الصادر مؤخرًا عن دار الشروق.
سنوات طويلة عاشها جاك حسون بعد هجرته إلى فرنسا يتوق إلى زيارة مصر، الأمر الذي بات مستحيلاً على أي يهودي مصري في الخارج بعد العدوان الثلاثي عام 1956، إلى أن تم توقيع معاهدة السلام وبات الأمر سهلاً. وجاء حسون إلى مصر عدد من المرات قائدًا مجموعات من اليهود يأتون للتعرف على ماضيهم وثقافتهم. أخذ خلال إحدى زياراته حفنة من تراب مصر ونثره على قبر والدته في فرنسا، بعدما كان فشل في الفعل نفسه مع والده الذي رحل قبل أن يتمكن حسون من المجيء إلى مصر. كانت زياراته المتكررة رغبة في حفظ التراث اليهودي المصري "كي لا ينسى أحد آبائه وأجداده". وألف كتابًا عنوانه "تاريخ يهود النيل"، ترجمه يوسف درويش وصدر عن دار الشروق، يتعرض له أبو الغار باستفاضة ويشتبك معه بالتعليق والربط بينه وبين كتب آخرين.
"ترك مصر دون أمل في العودة 80 ألف يهودي رباني، و8 آلاف يهودي قرائي. هذه المجموعات كانت متجذرة في الأرض في مدينة أو بلدة صغيرة، ومع ذلك انتشروا في كل مكان في العالم، في ملبورن، في برمنجهام، لوزان، كولون، باريس، ميلانو، بروكسل، من جميع الأعمار، وكلهم يقولون عن أنفسهم إنهم يهود مصر أو يهود مصريون"، ينقل أبو الغار عن جاك حسون.
في حكاية "خلوة الغلبان"، التي مر عليها أبو الغار، يقول جاك حسون لإبراهيم أصلان "مصر جميلة، وقد أفسدت إسرائيل كل شيء". هذه الجملة التي تبدو عامة وبديهية وربما عابرة، ربما تكون، عمليًا، أبلغ ما قيل في جدلية العلاقة بين اليهود المصريين، سواء في الداخل أو الخارج، وبين مصر، ذلك أن هذه العلاقة المرتبكة لم تكن كذلك قبل قيام إسرائيل، بل كانت على النقيض بشكل لافت ومثير للتأمل، إذ أنه ليس فقط من باب الفصل بين الديانة اليهودية والسياسة الصهيونية، ولكن حتى على المستوى الثقافي والفكري، لم يكن التعامل مع المثقفين اليهود من أصحاب الفكر الصهيوني وصمًا. وفي فصل خصصه أبو الغار لعلاقة اليهود المصريين بالثقافة، يحكي أن أبا إيبان، أول وزير خارجية إسرائيلي، والمولود في جنوب أفريقيا ودرس في إنجلترا، كان قد جاء إلى القاهرة وشارك في الحياة الثقافية في مصر، وكانت أكبر متعه حضور لقاءات المثقفين المصريين، وفق ما يقول في مذكراته، وينقل عنه أبو الغار "في يوم هام، تم تقديمي إلى طه حسين، الروائي والأديب الكفيف الذي يعتبره المصريون عميد الأدب العربي والمصري". يكمل أول وزراء الخارجية الإسرائيلية "لم يكن المصريون عندهم عداء مثل العرب للصهيونية، وكان طه حسين قد نشر حديثًا كتابًا هامًا هو (مستقبل الثقافة في مصر)، طالب فيه المصريين بالاتجاه شمالاً نحو ثقافة البحر المتوسط ونحو الثقافة اليونانية واللاتينية بدلاً من الاتجاه شرقًا... ولم تكن الحركة المصرية المقاومة للصهيونية عنيفة ولا قوية، ولم تكن هناك مشكلة أن تقيم فرقة الموسيقى الكلاسيكية الصهيونية حفلاً في القاهرة، وكان زعماء الصهيونية يحضرون للزيارة في القاهرة، وكان الفيلق اليهودي يعسكر خارج القاهرة. والجالية اليهودية في مصر كانت كبيرة ومحترمة. وكان زعماء الجالية اليهودية في فلسطين يحضرون إلى القاهرة للتباحث مع القيادة العسكرية البريطانية والدبلوماسيين البريطانيين والمصريين أيضًا".
وقصة وزير الخارجية الإسرائيلي ليست الإشارة الوحيدة إلى عادية العلاقة بين الطرفين، إذ "قدم العقاد ماكس نوردو، المفكر والفيلسوف الصهيوني إلى القارئ المصري، ورثاه بعد موته، وكان العقاد واعيًا بصهيونية نوردو، لكن ذلك يشكل له مشكلة قط". ويخلص أبو الغار إلى أن الشعب والحكومة والمثقفين المصريين لم يظهروا أي عداء لليهود حتى قيام دولة إسرائيل أو قبل قيامها ببضع سنوات على أقصى تقدير".
كتاب "يهود مصر في القرن العشرين"، هو الإصدار الثاني لأبو الغار في هذا الشأن، حيث تناوله في كتاب صدر عام 2004 بعنوان "يهود مصر من الازدهار إلى الشتات"، انطلق من بعض فصوله إلى الكتاب الجديد لتوسيعها مع إضافة مناطق جديدة. وكانت الفكرة قد بدأت في منتصف التسعينيات بعدما نشر أبو الغار بعض الكتابات عن الأرمن وحياتهم، قبل أن يتلقى نصيحة بتناول تاريخ اليهود المصريين، وبالفعل أصدر الكتاب الأول عن دار الهلال. يقول "وخلال هذه الفترة الطويلة بعد نشر الكتاب، صدر عدد كبير من الكتب عن يهود مصر في دور النشر العالمية، استطعت الحصول عليها جميعًا، وحصلت أيضًا على بعض المراجع القديمة التي لم تكن متوفرة لي في أثناء الكتابة للمؤلف الأول. وكانت رسالة الدكتوراه للباحث جويل بنين من جامعة بركلي وجدرون كرامر من جامعة برلين من أهم المراجع التي اعتمدت عليها، وكذلك كتاب شيمون شامير السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة، بالإضافة إلى أكثر من خمسين كتابًا استطعت الحصول عليها وجميعها مدرج في مراجع هذا الكتاب. أما بقية المراجع الإنجليزية المهمة فقد بحثت عنها في المكتبات التي تبيع الكتب المستعملة في نيويورك، وحصلت على الكتب الفرنسية من مجموعة اليهود الشيوعيين المصريين في باريس".
هكذا يأتي الكتاب الجديد، شأن المراجع الكبيرة فيما يتناوله، شبيهًا ببانوراما شديدة الاتساع، ويحيل القارئ إلى عدد مهول من الكتب والمراجع العربية والأجنبية التي تناولت تاريخ اليهود المصريين من زوايا نظر مختلفة، أشار أبو الغار إليها، ووضع في كتابه عددًا كبيرًا من الملخصات لهذه الكتب والمراجع، فضلاً ضم الكتاب لمجموعة من الحوارات التي أجراها الكاتب مع بعض اليهود المصريين المقيمين في جينيف وباريس وفلوريدا، قبل حوار أجراه مع السيدة ماجدة هارون رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، طرح عليهم جميعًا الأسئلة نفسها، ودون إجاباتهم في أحد أهم فصول الكتاب.
ماجدة هارون
أول مرة أشوف بابا في قفص الاتهام والحديد في يديه بعد انتفاضة الحرامية عام 1977، كانت أيامًا جميلة. أنا فاكرة كنا كل يوم خميس نحضر طعامًا، ونتفق مع عائلة زكي مراد وأحمد الرفاعي وغيرهما، وأنا الوحيدة التي كنت أقود سيارة، وكنت أمر على كل السيدات، وكن يتفقن على تحضير الأكل والسيارة تمتلئ بصواني الطعام، وكنت أغيب عن الجامعة يوم الخميس لنذهب إلى الزيارة. ولكنها كانت صدمة بالنسبة إليَّ أن أرى والدي في قفص الاتهام مقيد اليدين.
ريمون ستامبولي عن تأثير إسرائيل وعملية سوزانا
ـ يهود مصر كانوا في حالة قلق، وكان هناك شعور بأن شيئًا سوف يطيح بهم، وعندما حدثت فضيحة لافون وقنبلة سينما مترو، شعروا بأن هناك شيئًا انكسر في مصر، وثقة المصريين في اليهود ضاعت، وأضاف: الخطأ كان من إسرائيل، وقد فعلت ذلك لكسر الثقة وإشاعة القلق بين اليهود حتى يهاجروا إلى إسرائيل.
يوسف درويش
ـ لم توجد ظاهرة صهيونية في مصر، وإنما كان هناك ناد صغير في شارع مراد بمصر الجديدة اسمه نادي الصهاينة، لكن الحكومة المصرية هي التي أعطت القوة للحركة الصهيونية، فمثلاً حين كون بعض اليهود المصريين "الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية"، قام النقراشي باشا بإغلاق الجمعية بدون سبب، وعطل ذلك نمو حركة مناهضة للصهيونية، حين اعتقل الشيوعيين اليهود، وعرض علينا الخروج من المعتقل والسفر إلى إسرائيل لمن يرغب.
ألبير آرييه
ـ عام 1961 صدر قرار بالإفراج عني، وضغطوا عليَّ حتى أسافر خارج مصر، وقالوا: إحنا طردنا هنري كورييل مش هنعرف نطردك؟ فأخذت أزعق وقلت: أنا مش مسافر. أنا مصري ولا أقبل أن يشكك أحد في مصريتي. وقلت اعملوا اللي انتو عايزينه. وقرروا عدم الإفراج عني.
شحاتة هارون، ردًا على: كيف يكون يهوديًا ومعاديًا للصهيونية
ـ أليس الأغرب أن تكون مسلمًا وترفض الإخوان المسلمين، أو أمريكيًا أبيض وترفض التفرقة العنصرية؟ أنا أرفض الصهيونية لأنها حركة عنصرية عدوانية.
ويقع كتاب "يهود مصر في القرن العشرين" فيما يقترب من الخمسمائة صفحة، ليشمل كل الزوايا التي تخص تاريخ اليهود المصريين بطوائفهم الدينية والجغرافية وعلاقتهم بالتعليم والاقتصاد والثقافة، بداية من مصر القديمة ومرورًا بعصر محمد علي، ثم تطور مذاهبهم في العصر الحديث والصراعات الداخلية بين الطوائف اليهودية المصرية، مع تناول واسع للأماكن التي اشتهرت بتواجدهم، مثل حارة اليهود التي يعرفنا التاب أنها لم تكن حارة بالمعنى الحرفي، بل كانت كلمة "حارة" تطلق مجازًا على حي كامل بشوارع رئيسية ومتفرعة سكنها اليهود، مرورًا على يهود الإسكندرية والأقاليم، وتفنيد طبقاتهم الاجتماعية وعلاقاتها بأماكن السكن، ودورهم في الاقتصاد الوطني منذ بداية نشاطهم الاقتصادي إلى تأسيس عدد من الشركات الكبيرة في مجال التأمين والنقل والتجارة، والإدارة اليهودية لعدد من المشروعات الكبرى، وتطور قوانين الجنسية المصرية بالنسبة لليهود وعلاقة ذلك بقوانين العمل.
هنا، أيضًا، عرض شامل لأهم المشكلات السياسية التي أدت إلى الخروج النهائي لليهود من مصر، بداية من الصراع الألماني اليهودي في مصر بعد صعود النازية، وصعود الإخوان المسلمين الذين توجهوا بعنف بالغ تجاه اليهود، ثم أثر قيام دولة إسرائيل، وما حدث لهم في الخمسينيات والستينيات.
وخصص أبو الغار فصلاً للإشارة إلى مجموعة منتقاة من المذكرات التي كتبها يهود عن تاريخهم في مصر وكيف هاجروا، مثل "الرجل ذو البذلة البيضاء الشركسكين" و"أرض مثلك" و"الخروج من مصر" و"عندما كنا عربًا" وغيرها، وصولاً إلى حكايات اليهود المصريين داخل إسرائيل وحياتهم هناك بعد حرب 73 ثم بعد معاهدة السلام، فيما أفرد الكاتب مساحة للآثار اليهودية في مصر وأهميتها وضرورة حمايتها، وهي من المسائل التي لا يتوقف الجدل حولها، ذلك أنه إذا كانت الآثار عمومًا هي أهم شاهد على عصرها، فهي في هذه الحالة تعد الشاهد الوحيد على طبيعة وجود اليهود في مصر خلال عصور سابقة، ما قد يقبله المنفتحون والمتفهمون لطبائع الأمور ويرفضه المتشددون.
وإن كان القارئ العام سيجد هنا شيئًا كبيرًا من القراءة المسلية المحتشدة بالمعلومات والحكايات التاريخية، أتصور أن أي قارئ متخصص أو باحث في شأن يهود مصر وتاريخهم، في الداخل والخارج، من الصعب ألا ضالته في هذا الكتاب، أو أنه في أضعف الأحوال، سيجد أفضل توجيه لما يحتاجه في إشارة لمرجع هنا أو آخر هناك.