حرب أكتوبر

شريف إمام

كيف أصبحت حرب أكتوبر حتمية؟

2023.12.13

مصدر الصورة : مصورون آخرون.

كيف أصبحت حرب أكتوبر حتمية؟  

قراءة في الأرشيف القومي الأمريكي

على الرغم من مُضيِّ نصف قرنٍ على حرب أكتوبر 1973؛ فإن روايتها لم تلتئم كل فصولها بعد، لعل وضعها - من قبل بعض الدراسات - في شكل إحدى جولات الصراع العربي الإسرائيلي أفقدها الكثير من خصوصيتها ، وصرفنا عن الإحاطة بكافة نتائجها، في ظل اختزالها في صورة مجرَّد نتيجة لحرب يونيو 1967؛ كما أنَّ المسار التفاوضي الذي سارع إليها - حتى قبل أن تنفصل الجيوش المشتبكة - طغى عليها، فجعل البعض يراها وقد صُمِّمت من أجله، فحديث المقترحات والتسويات صرف المؤرخين عن دراسة الخطط العسكرية، وصناعة قرار الحرب ومراحل المعركة، لكن يبقى الباعث الأهم على وجود تلك الرواية المنقوصة، قلة المادة الوثائقية المتاحة للمؤرخين لتقديم سردية متكاملة عما جرى في تلك الحرب، ربما تكون الوثائق الغربية - ونقصد بها الأمريكية والبريطانية - قد باتت متاحةً بنسبة كبيرة، كما أن إسرائيل أفرجت عن قدر ليس بقليل من وثائقها، وكان آخر هذا المسموح بنشره في الشهر الماضي، مجموعة من الوثائق تشمل محاضر اجتماعات مجلس وزراء الحرب والشهادات والملاحظات المكتوبة بخط اليد من رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مائير وموظفيه. أما على الصعيد العربي، فقد قدَّمَت مذكرات رجال الحرب والسياسة مادةً ثرية عن الحرب، وإن كانت لا تخلو من الذاتية، لكنها عوضت بعض الشيء غياب الأرشيف الرسمي، الذي لا نرقب ظهوره في المدى القريب. ونحاول في هذا المقال معرفة كيف رسمت الوثائق الأمريكية صورة الأشهر السابقة للانفجار العظيم في أكتوبر، بشكل جعل الحرب حتمية الوقوع؟

 عودة الأمل: الجولة الأولى لمحادثات حافظ إسماعيل كسينجر:

 في أواخر شهر يناير 1973 تم التَّوْقيع على اتفاقات باريس للسلام، التي نصت على إنهاء الحرب وإحلال السلام في فيتنام، منهيةً رسميًّا التدخل الأميركي المباشر في حرب فيتنام، وما كادت واشنطن تنفض يدها من شراك الفخ الفيتنامي، حتى كان لزامًا عليها - حسب الوثائق الأمريكية - تلبية نداء "المُتوسِّلين لها" من أجل عودة الانخراط في ملف الصراع في الشرق الأوسط، والذي تجنبت دبلوماسيتها الخوض في مُعتركه بفاعلية منذ إخفاق مبادرة روجرز، وبالفعل استأنفت واشنطن دورها؛ ففي 13 فبراير 1973 أرسلت برقية إلى مستشار الرئيس السادات لشؤون الأمن القومي حافظ إسماعيل، وكان المُرسِل مساعد الرئيس نيكسون للأمن القومي هنري كسينجر - والذي سيُصبح في سبتمبر 1973 وزيرًا للخارجية - وجاء في الرسالة: إن واشنطن ترحب بعقد اجتماع بين الرجلين، وإنه سيتم توجيه دعوة رسمية إلى إسماعيل من خلال جوزيف جرين Joseph Greene - القائم برعاية المصالح الأمريكية في القاهرة - لزيارة واشنطن .

مثَّلت الدعوة الأمريكية قُبلة الحياة لمنطق السادات الباحث عن حل سلمي للصراع، بعيدًا عن ويلات الحرب، فبادر بإرسال رسالة لنيكسون في 18 فبراير يعبِّر فيها عن سعادته بإعادة إحياء الوساطة الأمريكية، بعدما صارت الظروف مواتية لبذل المزيد من الجهد؛ من أجل الوصول إلى تسوية شاملة وعادلة للصراع في الشرق الأوسط، كما ذكر أن حافظ إسماعيل سيتوجه إلى واشنطن تلبيةً للدعوة، محملًا بالأمل في أن تتحمل واشنطن مسؤولياتها الدولية، وأن تُلقيَ بثقلها دفاعًا عن الحرية والاستقلال والحق المشروع للشعوب في تقرير المصير، لكن السادات كان يُدرك أنها ربما تكون الفرصة الأخيرة للجميع من أجل تجنب الحرب، فلم يُرد أن يفوِّت الفرصة دون البوح - لمن ارتضى وساطتهم - بما يخالط تفاؤله من قلق، فقال: "لقد تدهور الوضع في منطقتنا إلى حد شارف الانفجار تقريبًا، ووعينا الشديد بمسؤولياتنا يدفعنا إلى بذل جهد جديد ومكثف لتحقيق السلام المبني على العدالة".

 The situation in our region has deteriorated almost to the point of explosion. And our intense awareness of our responsibilities urges us to exert a new and intensified effort to achieve peace based on justice

 في الكواليس، كان نقاشٌ قد جمع نيكسون وكسينجر بعد يومين من تلك الرسالة، أبان عن فلسفة الأخير القائمة على أساس خلق نظام جديد أكثر استدامة، عبر تجنب المعاهدات الشاملة والاقتصار على الاتفاقيات المرحلية الخاصة؛ فلقد بسط كسينجر أفكاره من ضرورة أن يُطْلَب من العرب أنفسهم - في تلك الفترة - تقديم إستراتيجية يمكن قبولها إسرائيليًّا، مع التأكيد لهم على أن واشنطن بدورها على استعداد لممارسة الكثير من الضغوط على الإسرائيليين، لكنها ليست على استعداد لخوض حرب من أجل ذلك. ثم شرح نيكسون بوضوح خطتهما، القائمة على أساس التأكيد على أن الطريق إلى تسوية شاملة لن يكون إلا بتسوية مؤقتة بين مصر وإسرائيل، تُمكِّن من فتح القناة وإقامة علاقات بين مصر وإسرائيل مع إعادة سيناء. ومن جانب كسينجر، فإن عودة سيناء ستكون في ظل فصل قضية السيادة عن قضية الأمن، ومنح الإسرائيليين منطقة أمنية خاصة، لا يتواجد بها سوى رجال من الشرطة المصرية، مع إمكانية أن يكون للإسرائيليين بعض القواعد هناك، وبالتحديد مدينة شرم الشيخ، لكن هذا المخطط أراد الرجلان ادِّخاره في تلك اللحظة وعدم البوح به للضيف المصري.

 ولمَّا كان من الضروري أن تُطلع الإدارة الأمريكية إسرائيل على زيارة حافظ إسماعيل وكيف سيتم التعامل معها، فقد التقى كسينجر- في اليوم التالي - السفير الإسرائيلي في واشنطن إسحاق رابين، وأوضح له أنه ينوي ألا يقدم أي تصور لحافظ، وأنه سينحو إلى التعميم الذي لا يُوصِّل إلى شيء، وقال ممتدحًا نفسه: "إن تشو إن لاي قال: الرجل الوحيد الذي يمكنه التحدث إلى الصحافة لمدة نصف ساعة دون أن يقول أي شيء هو هنري كسينجر". وبالفعل عُقد اجتماع حافظ - كسينجر وهو الأهم في سلسلة لقاءات الوفد المصري في واشنطن، حيث أخذ طابع السرية وأريد له أن يكون بعيدًا عن وزارة الخارجية الأمريكية؛ فقد رتبت وكالة المخابرات المركزية لإجرائه في مسكن خاص في أرمونك شمال مانهاتن، وحسب الوثائق الأمريكية فإن كسينجر أراد أن يُسيِّر اللقاء كما تصوره من قبل، وهو ما جعل روح التشاؤم تتسلل إلى قلب حافظ إسماعيل، فقال بوضوح: "إن الوضع برُمَّته في المنطقة محفوف بالخطر؛ نحن لا نستبعد حتى احتمال وقوع صدام عسكري؛ فالبلدان أَضْنَاهما ثلاثون شهرًا من وقف إطلاق النار، والبشر أحيانًا تنهار بسبب الضغوط والمطالب الهائلة".

The whole situation in the area is pregnant with danger ...We don’t even exclude the possibility of a military clash. The two countries [are] under the strain of thirty months of cease-fire…. People sometimes get broken down by the immense pressures and demands

 الحل السلمي في نَزعه الأخير:

 كان مارس عام 1973 شاهدًا على احتضار الحل السلمي للصراع، على الرغم من أن الوثائق الأمريكية تُظهر قبول إسرائيل بتصورات نيكسون وكسينجر سالفة الذكر، فجولدا مائير قالت في محضر اجتماعها معهما في الأول من مارس: إنهم – أي: الحكومة الإسرائيلية - يريدون الأمن وليسوا معنيين بالسيادة؛ فهم يوافقون على خط انسحاب مؤقت - من الممكن أن يكون إلى منطقة الممرات - تتبعه مفاوضات للتسوية النهائية، وهذا يعني عمليًّا تضحية إسرائيلية من أجل السلام، يتواكب ذلك مع تطهير قناة السويس وإعادة تشغيلها وعودة سكان القناة كمؤشر على عدم تجدد القتال. ثم قالت مائير: "إن المشكلة مع مصر؛ هي أنهم يريدون للأمور أن تنتهي قبل أن تبدأ، في حين أن الإمكانية العملية - في تقديرنا - هي الاتفاق المرحلي". لم يكن كسينجر راغبًا في مناقشة ما دار أثناء زيارة مائير مع الجانب المصري، وأرسل رسالة جديدة تتسم بالتعميم حول الزيارة لحافظ إسماعيل في التاسع من مارس، وكان رد حافظ به قدر من الإحباط، خصوصًا بعد إعلان واشنطن تزويد إسرائيل بمزيد من الأسلحة بعد زيارة مائير، فقال مستهجنًا: "إن التقييم الأولي للقيادة السياسية في مصر لمحادثاتنا، هو أنه هناك توقع بأن مصر ستقدم - مرة أخرى -تنازلات، على افتراض أن مثل هذه التنازلات قد تدفع إسرائيل إلى أن تكون أكثر استعدادًا".

 The preliminary assessment of the political leadership in Egypt of our talks is that Egypt is, again, expected to make concessions on the assumption that such concessions might presumably induce Israel to be more forthcoming 

 في 26 مارس 1973 عبَّر السادات بوضوح عما وصل إليه الخيار الدبلوماسي؛ ففي خطابه أمام المؤتمر المشترك للجنة المركزية ومجلس الشعب، قال: "على مدى خمس سنوات ونصف دخلنا مراحل كثيرة: مرحلة الصمود، مرحلة الاستنزاف، جهد دبلوماسي في كل اتجاه، عرضنا مبادرات وقبلنا مبادرات، كل ما يمكن عمله عملناه"، ثم انتقل للحديث عن زيارة حافظ إسماعيل للأمريكان، فقال: "لم يذهب حافظ إسماعيل إلى واشنطن بمبادرة من عندنا، ولم يسمع مبادرة من عندهم، ويؤسفني أن أقر أمامكم بأن خلاصة الاتصالات مع أمريكا لا تؤشر إلا إلى مؤشر واحد؛ هو: أن علينا نحن أن نقدم تنازلات؛ حتى يمكن أن تتحرك القضية، لا أن تحل. تنازلات في أشكال متعددة ومعلنة". في الثاني من إبريل 1973 نشرت جريدة الأهرام حديثًا مع السادات أكد فيه رفض تقديم أي تنازلات، واسِمًا الوضع في الشرق الأوسط بأنه سيكون أخطر من فيتنام، وأن أمريكا سترتكب أكبر أخطائها إذا ظنت أن العرب مشلولون.

 لم تكن الروح المتشائمة التي غمرت خطاب السادات الأخير خفيةً على الجانب الأمريكي؛ فقد رصدتها الوثائق الأمريكية من خلال مذكرة قدمها كسينجر إلى نيكسون في 30 مارس محلِّلًا فيها الخطاب، لكن استنتاجاته كانت تقوده إلى أن الأمور لا تسير إلى حافة الانفجار، فبالنسبة له: فإن السادات لا زال يفكر فيما قيل لإسماعيل في واشنطن، وأنه من المؤكد بات واقعيًّا بشأن ما يمكن أن يتوقعه من الولايات المتحدة، ويبدو أنه يفكر في أن مفهوم استعادة السيادة المصرية لا بد أن يخالطه سماح ببعض الترتيبات التي تعالج المخاوف الأمنية الإسرائيلية.

هكذا حوَّل شتاء اليأس الذي خلقته جولة التفاوض الفاشلة في واشنطن ربيع القاهرة إلى موجة من الغليان؛ ففي الخامس من إبريل انعقدت الجلسة الأولى لمجلس الوزراء المصري الجديد برئاسة السادات، وقرر المجتمعون حتمية الدخول في معركة عسكرية وإن غابت الرؤية الواضحة لأهدافها ومداها. في المقابل، يمكن فهم إلى أي مدى تزعزعت ثقة السادات في قدرة الولايات المتحدة على لعب دور جاد من أجل حل الصراع سلميًّا، من خلال حرصه على إيصال رسالته - بالذهاب للحل العسكري - إلى واشنطن لعلها تستفيق، فأجرى مقابلة حصرية لمجلة نيوزويك مع الصحفي أرنو دي بورشغريف Arnaud de Borchgrave، والذي كان مقربًا من وزير الخارجية. قال فيها: "إن كل باب فتحته، أغلقته إسرائيل في وجهي". واشتكى من مباركة أمريكا لذلك.

 بالتوازي مع هذا السعي الأخير لحث واشنطن على التحرك وأخذ تهديد مصر على محمل الجد، عاود حافظ إسماعيل مراسلة كسينجر، فكتب له في التاسع من إبريل رسالة تؤكد تقدير مصر لموقف الرئيس نيكسون الإيجابي حيال احترام السيادة المصرية على أراضيها، وثقة مصر في قدرة واشنطن على ممارسة ضغط على إسرائيل من أجل قبول التسوية السلمية، مع التذكير بأن مصر ليس لديها أية نية أو قدرة على تقديم تنازلات جديدة. ورد كسينجر على رسالة حافظ برسالة مطوَّلة أكد فيها أن الولايات المتحدة تبذل جهدًا من أجل الحل السلمي، لكنها لا يمكنها أن تَعِد بما قد تعجز عن تحقيقه. ودعا إلى جولة جديدة من التفاوض المباشر في مايو، على أن يكون الجانب المصري مستعدًّا لطرح فكرة التمسك بمناقشة التفاصيل في القضايا التي أُثيرت في الاجتماع الأخير، وأسهب كسينجر في نقد الجانب المصري على إفشاء محادثات فبراير للروس والسعوديين، بل إن النقل شابَهُ بعض التحريف حسب زعمه، وختم كلامه: "إذا لم يكن من الممكن الحفاظ على سرية المفاوضات، فإنني قد أعيد النظر في المشاركة فيها".

  الطريق إلى الحرب: الجولة الأخيرة لمحادثات حافظ إسماعيل كسينجر:

 بالنسبة للإدارة الأمريكية، لم تكن على استعداد للتعامل مع تهديدات السادات بجدية؛ ففي الوقت الذي كانت أزمة الشرق الأوسط في ذروتها، أخذت رائحة فضيحة ووترجيت تفوح، بعد استدعاء مستشار البيت الأبيض جون دين John Dean للمثول أمام اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ، وقد أظهر دين تعاونًا مع محققي ووترجيت بشكل أحرج الرئيس نيكسون، لكن الأهم من ذلك هو ما كشفته الوثائق الأمريكية من استخفاف واشنطن بتهديدات السادات، بل إن مدير المخابرات المركزية شليزنجر Schlesinger قدم مذكرة في 16 إبريل 1973 إلى كسينجر؛ بشأن تقديرات القادة العسكريين الإسرائيليين: أوضحت أنهم لا يعتقدون أن الرئيس المصري قد اتخذ قرارًا بتجديد الأعمال العدائية ضد إسرائيل، بل إنهم يعتقدون أنه لن يفعل ذلك في المدى القريب، وأن التحركات العسكرية المصرية التي تم رصدها لا تعد أكثر من خداع؛ من أجل زيادة الضغط على إسرائيل أو الولايات المتحدة؛ للاستجابة للرغبات المصرية فيما يتعلق بالتسوية السلمية لمشكلة الشرق الأوسط، أو صرف الرأي العام المصري عن التركيز على عدم الرضا عن الأوضاع الداخلية في مصر، أو كليهما. وختم التقرير بالقول: "بالنظر إلى ضعف القدرة العسكرية المصرية في مقابل إسرائيل، فإن أي تحرك عسكري من جانب السادات سيكون بمثابة عمل يائس، ولا نرى أي دليل على أنه وصل إلى هذا الحد من اليأس في الوقت الحاضر".

 Given the weak Egyptian military capability against Israel, any military move by Sadat would be an act of desperation. We see no evidence that he is that desperate at present

مطلع مايو 1973 رصدت الوثائق الأمريكية وصول طائرات الميراج من ليبيا إلى مصر، كذلك مغادرة وحدات برية جزائرية وسودانية إلى مصر، بالإضافة إلى الإعلان عن توجه قوات مغربية إلى سوريا، لكن مذكرة مدير المخابرات المركزية شليزنجر إلى كسينجر في الخامس من مايو، لا ترى قلقًا في تلك التحركات العسكرية، وتعتبر أن هذا لا يعني الذهاب إلى الحرب، فبالنسبة لها: "فإنه من المشكوك فيه أن يذهب السادات إلى الحرب خلال الأسابيع الستة القادمة على الأقل، وأن التحركات التي قام بها العرب - بشكل جماعي - تهدف هذه المرة إلى ممارسة أقصى قدر من الضغط النفسي على الولايات المتحدة وإسرائيل، كذلك فإن السوفييت نصحوا العرب بعدم التعجل بالعمل العسكري، أما الإسرائيليون فيراقبون الوضع عن كثب، لكن تقييماتهم الاستخباراتية لا تزال تشير إلى أن السادات لن يذهب إلى الحرب. 

في مقابل تلك الثقة الأمريكية عن عدم وجود تهديد حقيقي بعمل عسكري عربي وشيك، كانت الاتصالات بين القاهرة ودمشق على المستوى العسكري قد وصلت إلى أعلى مستوياتها، بعد زيارة الفريق أحمد إسماعيل إلى سوريا، وتَوالِي اجتماعات التنسيق لعمل عسكري مشترك على الجبهتين: الشرقية في سوريا، والغربية في مصر. وتوصلت الاجتماعات إلى اختيار موعدين لبدء العمليات: موعد يقع في الأسبوع الأخير من مايو 1973، وموعد آخر يقع في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر من نفس السنة. واستعدادًا للقرار السياسي الذي سيصدر عن الرئيسين؛ فإن القيادة العسكرية راحت تستعد برفع درجة الإنذار إلى حالة العمليات من بداية شهر مايو. وفي منتصف مايو، بدأت تتبدل ثقة واشنطن قلقًا، وبدأت تتعامل بجدية مع التهديدات المصرية؛ فتقرير وكالة المخابرات الأمريكية في 17 مايو أشار بوضوح إلى صعوبة استمرار الحالة الراهنة في الشرق الأوسط إلى مدى طويل، فالسادات يمضي قدمًا في حملة من التهديدات على أمل خلق ضغط أمريكي على إسرائيل، لكن هذا يمكن - مع مرور الوقت - أن يخرج عن نطاق السيطرة ويتحول التهديد إلى حرب حقيقية، وإن كان من المستبعَد وقوع ذلك في الأسابيع القليلة المقبلة، لكن من المحتمل أن يرتفع مستوى الخطر إذا مرت مناقشات الشرق الأوسط في مجلس الأمن الدولي (أوائل يونيو) وقمة نيكسون - بريجنيف (أواخر يونيو) دون أي نتائج يعتبرها السادات مفيدة.

إن من بين العوامل التي تميل إلى التعجيل بالأعمال "العدائية"، اقتناع الجانب المصري بأن من شأن تلك الأعمال أن تحفز مشاركة أمريكية وسوفييتية أكثر نشاطًا في عملية التسوية؛ كذلك فإن الحسابات المصرية تميل إلى أن الأعمال "العدائية" ستؤدي إلى عمل مناهض للولايات المتحدة من قبل السعوديين والدول الأخرى المنتجة للنفط؛ مما يؤدي إلى ضغوط أمريكية على إسرائيل.

 Egyptian conviction that hostilities would stimulate more active US and Soviet involvement in the settlement process. Egyptian calculation that hostilities would trigger anti-US action by the Saudis and other oil producers—leading to US pressures on Israel

 على وقع هذا الشعور الأمريكي بخطورة أن يدفع اليأس بالسادات إلى عملية عسكرية، انعقد اللقاء الأخير بين حافظ إسماعيل وكسينجر في باريس في العشرين من مايو 1973. وقبل ثلاثة أيام من هذا اللقاء، افتُتِحت جلسات الاستماع الخاصة بقضية ووترجيت في مجلس الشيوخ، وزادت متاعب إدارة نيكسون وتقلصت قدرتها على العمل المؤثر في الشأن الدولي. ولتبرير أي إخفاق محتمل للقاء، أبلغ كسينجر نظيره المصري بأنه أطلع الإسرائيليين على ما دار معه من نقاشات، وأنهم ليسوا على استعداد لقبول السلام بالصورة التي تعرضها مصر، وأنهم يودون لو تأجل النقاش إلى ما بعد انتخاباتهم في أكتوبر، وأعاد كسينجر التأكيد على أنه يفضل معالجة المشكلة على مراحل لتعقيداتها، وأنه لا يرى فائدة من مناقشة القضية في مجلس الأمن، وأعاد السؤال على مسامع حافظ إسماعيل، عن التنازلات التي يمكن أن تقدمها مصر من أجل التسوية. عمليًّا كان النقاش تأكيدًا أمريكيًّا على تصوراتهم العامة القائمة على تسويات مرحلية تمتد جولاتها سنوات، مع إعطاء إسرائيل ضمانات أمنية في مقابل عودة سيناء لمصر.

وبعيدًا عما خلص إليه هذا اللقاء، فإن مارتن إنديك ينقل في كتابه رواية يوجين ترون عن الاجتماع فيقول: "أخبرني إسماعيل أن كسينجر شرح له: "إذا كنت تريد منا أن نتدخل مع إسرائيل، فسيتعين عليك خلق أزمة؛ نحن نتعامل فقط في إدارة الأزمات". إسماعيل - بحسب ترون - خلص من ذلك إلى أن كسينجر أراد أن تبدأ مصر حربًا مع إسرائيل. 

 Ismail told Trone that Kissinger had explained to him, “If you want us to intervene with Israel, you’ll have to create a crisis. We only deal in crisis management.” Ismail, according to Trone, had concluded that Kissinger wanted Egypt to start a war with Israel