دراسات

أحمد زكريا الشلق

إدوارد سعيد: سنوات التكوين القاهرية (1935-1951) - الجزء الأول

2024.08.03

مصدر الصورة : آخرون

إدوارد سعيد: سنوات التكوين القاهرية (1935-1951) - الجزء الأول

 

يعد الكاتب الفلسطيني العربي، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، إدوارد سعيد (1935-2003) واحدًا من أهم عشرة مفكرين تأثيرًا في القرن العشرين، ومن أبرز المتخصصين في النقد الأدبي والأدب المقارن في العالم، من خلال كتبه وأبحاثه وعمله الأكاديمي أستاذًا في جامعة كولومبيا بنيويورك لنحو أربعين عامًا (1963-2003). وقد صار من أهم الشخصيات التي أسست لدراسات ما بعد الاستعمار أو ما بعد الكلونيالية. والمعروف أنه ولد في القدس ونشأ وترعرع في مصر وفلسطين، في زمن كانت فيه مصر محتلة من الإنجليز، بالرغم من بعض الاستقلال المقيد بتصريح فبراير 1922 وبمعاهدة 1936، وفي نفس الفترة كان الإنجليز يدعمون الحركة الصهيونية لتستوطن فلسطين وتحتلها.

وبعد أن انتهى إدوارد من تعليمه العام والأساسي بالقاهرة، انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليكمل دراسته الجامعية والعليا، فقضي نحو عامين في مدرسة ماونت هيرمون (1951-1953) انتقل بعدهما إلى جامعة برنستون، التي أنهى دراسته فيها عام 1957، ليحصل بعد ذلك على درجة الماجستير عام 1960، ما أهله للفوز بمنحة للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة هارفارد، فحصل عليها عام 1963، ليبدأ بعدها مرحلة التدريس في قسم اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا التي ظل بها حتى وفاته.

أما عن نشأته باختصار، فقد نشأ في أسرة عربية فلسطينية، حصل عائلها، وهو والده وديع إبراهيم سعيد، على الجنسية الأمريكية بعد أن خدم مع القوات الأمريكية في الحرب العالمية الأولى تحت قيادة جون بيرشنج، ما أكسبه الجنسية الأمريكية وقد لجأ إلى ذلك حتى يتفادى التجنيد في الجيش العثماني في فلسطين، التي كانت تحت الحكم العثماني آنذاك. وبعد أن حصل على الجنسية الأمريكية عاد إلى وطنه فلسطين عقب انتهاء الحرب، وبدأ يمارس نشاطًا تجاريًّا بين فلسطين والقاهرة، ثم تزوج بفتاة فلسطينية-لبنانية تدعى ليندا التي ولدت بالناصرة وعاشت في لبنان ودرست في الجامعة الأمريكية ببيروت. واستقر الزوجان في القاهرة منذ عام 1933 حيث رزقا بإدوارد في نوفمبر 1935 ثم ببنات أربع، أكبرهن روزماري التي ولدت هي الأخرى في القاهرة عام 1937، وصارت مؤرخة فلسطينية معروفة بتخصصها في تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر، وقد تزوجت بفيزيائي فلسطيني هو سعيد زحلان الذي حملت اسمه، أما إدوارد فقد تزوج بمريم قرطاس وهي ابنة وحيدة لعائلة ثرية عام 1970، وأنجب منها نجلاء، ثم وديع الذي عمل أستاذًا للقانون في ساوث كارولينا.

ومنذ مولده عاش إدوارد فترة طفولته وصباه في القاهرة، قبل أن ينتقل إلى الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة عام 1951، أي إنه عاش الست عشرة سنة الأولى من حياته في مصر (1935-1951) وهي الفترة التي تفتَّح وعيه فيها وشهدت تعليمه وتربيته الأساسية فضلًا عن تكوينه الثقافي. ولعل ذلك يقتضي منا أن نذكر بعضًا من ملامح الوضع السياسي والاجتماعي لمصر خلال هذه المرحلة التي تفتَّح وعي إدوارد سعيد فيها، والتي ظلت محفورة في ذاكرته حتى قيّض له أن يتذكر كثيرًا عنها وهو يكتب سيرته بعد نحو خمسين عامًا. ثم نعرض شيئًا من ملامح مجتمع النخبة الذي نشأ فيه، في حي الزمالك، وواقع الاحتلال الإنجليزي وتأثيره في تكوين إدوارد طفلًا وصبيًّا في المدارس التي تعلم فيها، وأخيرًا نرصد انطباعاته عن الحياة والبشر والنظام السياسي في مصر، خلال هذه المرحلة من حياته والتي تذكرها بشكل مثير وسجلها في سيرته "خارج المكان".

أما عن القاهرة التي استقر فيها آل سعيد في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين فكانت تتدافع فيها الأحداث الداخلية والخارجية تدافعًا أدى إلى علو المد الوطني الذي تبلور في انتفاضة الشباب الثورية عام 1935 التي أفضت إلى تشكيل جبهة وطنية نجحت في استعادة دستور 1923 وتشكيل وفد من الزعماء السياسيين نجح في التوصل إلى معاهدة 1936 التي حصرت الوجود العسكري البريطاني في قاعدة محددة في منطقة قناة السويس ولفترة محددة، وإن منحت الإنجليز حق استخدام أراضي مصر وموانيها في حالة الحرب أو خطرها. وبالرغم من اعتراف نصوص المعاهدة بانتهاء الاحتلال، وباستقلال مصر، وتحول المندوب السامي إلى سفير لبريطانيا في مصر، فإن الواقع لم يعترف بانتهاء السيطرة البريطانية على مصر، التي صارت ميدانًا من ميادين الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ومجالًا لهجمات الدول المعادية لبريطانيا، فتعرضت لهجمات الألمان والإيطاليين الذين اندفعت جيوشهم لمحاولة غزو مصر من الجبهة الغربية، لكنها هزمت في معركة العلمين في أكتوبر 1942. وقد شهدت أواسط الثلاثينيات أيضًا وفاة الملك فؤاد في إبريل 1936، وتولي ابنه الملك فاروق سلطاته في يوليو 1937، كما بدأت مصر منذ هذا العام تتخلص من قيود الامتيازات الأجنبية بموجب اتفاق مونترو.

وقد شهدت هذه الفترة حادث 4 فبراير 1942 الذي أرغم فيه السفير البريطاني الملك فاروق علي تكليف مصطفى النحاس باشا بتأليف الوزارة تحت التهديد بحصار الدبابات البريطانية لقصره، ما مثّل تدخلًا سافرًا في شؤون مصر الداخلية وتأكيد هيمنتها على البلاد. وقد عانت مصر خلال هذه الفترة كذلك من التضخم النقدي، واستدانت بريطانيا منها مبالغ ضخمة تحت ضغوط استعمارية، حيث فرضت عليها تموين جيوش بريطانيا وحلفائها الأمريكان من منتجات البلاد وحاصلاتها، ما أدى إلى غلاء الأسعار ومعاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة من ضيق شديد.[1]

وشهدت أواسط الأربعينيات جهودًا مصرية في إنشاء جامعة الدول العربية كُللت بتوقيع ميثاقها في مارس 1945 الذي تضمن بندًا يتحدث عن صيانة حقوق عرب فلسطين والعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة. وفي ظل حكم أحزاب الأقلية، شهدت البلاد موجات من القلق والاضطرابات السياسية راح ضحيتها أحمد ماهر رئيس الوزراء، كما اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال مطالبة بالجلاء عام 1946، في عهد إسماعيل صدقي باشا، الذي قام بجولة مفاوضات مع وزير الخارجية البريطانية "إرنست بيفن" لم تنجح في تحقيق أماني المصريين. وشهدت هذه الفترة جلاء القوات الإنجليزية عن بعض مواقعها في الإسكندرية والقاهرة وخاصة عن ثكنات قصر النيل في مارس 1947 ما أنهى احتلالهم للقاهرة وضواحيها. وفي نوفمبر عام 1947 صدر قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة، وكان هؤلاء قد اتفقوا مع الإنجليز على أن يحلوا محلهم في فلسطين، في الوقت الذي اتفقت فيه الدول العربية على أن تدخل جيوشها فلسطين بمجرد خروج القوات الإنجليزية منها لإعادتها إلى أهلها العرب، ولكن سياسة الدول العربية كانت خرقاء متخاذلة، ينقصها العتاد والسلاح والقيادة.. وجرت أحداث الحرب في مايو 1948 ولم تنجح الجيوش العربية في تحقيق أي انتصار، وأعلنت قوات العصابات الصهيونية قيام دولة إسرائيل كما هو معروف.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شهد المجتمع المصري تفاوتًا كبيرًا في الوضع الطبقي بسبب تداعيات الحرب، فازداد الفقراء فقرًا وازداد الأغنياء غنى وصارت الطبقة الوسطى تضمر لتنشأ مشكلة اجتماعية خطيرة، فضلًا عن تعثر النخبة الحزبية الحاكمة في الوصول إلى حل حاسم للقضية الوطنية، ما أفسح المجال لبروز تنظيمات إيديولوجية شعبية جديدة، مثل تنظيم الإخوان المسلمين وجماعة مصر الفتاة والتنظيمات اليسارية، والأهم من ذلك تكون تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش. وقد ترتب على ذلك تفشي موجة من العنف والإرهاب، بين عامي 1945 و1949 بدأت باغتيال أحمد ماهر رئيس الوزراء والوزير أمين عثمان، وقيام عناصر إرهابية من جماعة الإخوان باغتيال القاضي أحمد الخازندار، ثم مقتل سليم زكي حكمدار العاصمة، وحل جماعة الإخوان لانحرافها عن أهدافها الدينية والاجتماعية، ثم اغتيالها لمحمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء، واغتيال الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين كرد فعل لذلك.

وعندما تولت الحكم وزارة الوفد الأخيرة قبل ثورة يوليو وأجرت مباحثات مع الجانب البريطاني، لم تصل إلى نتيجة تحقق المطالب الوطنية، ألغت معاهدة 1936 من جانب مصر وحدها في أكتوبر ما وضع مصر في حالة حرب مع بريطانيا من دون إعلان ذلك، ومن ثم بدأت أعمال الكفاح المسلح ضد المعسكرات البريطانية في منطقة القناة، التي تصدى لها الإنجليز بكل عنف، بلغ ذروته في مذبحة قاموا بها ضد بوليس الإسماعيلية في 25 يناير 1952، وفي اليوم التالي اشتعلت الحرائق في قلب العاصمة كرد فعل عنيف، ورغم عدم تحديد هوية الجماعات التي قامت بالحرائق، فإن السبب الرئيسي كان الضيق بالاحتلال وبإنشاء دولة إسرائيل، وبفساد نظام الحكم القائم الذي أثبت عجزه التام. وكان حريق القاهرة بمثابة احتضار للنظام القائم، وقد مهدت الأوضاع السابقة جميعًا الطريق لقيام الثورة في 23 يوليو 1952.[2]

* * *

كان للوجود البريطاني في مصر زمن الاحتلال آثاره الثقافية من كل الوجوه، من تأسيس للنوادي إلى المؤسسات التعليمية، وكان مضمار الجزيرة لسباق الخيل نشيطًا، وفي الخلفية من الصورة، التي يحتلها الملك فاروق، انتعشت نخبة رجال الأعمال الأجانب. وكان هؤلاء "الخواجات" يملكون نسبة ضخمة من رأس المال، بلغت 96% مع بدايات القرن العشرين. وكان الحضور الأمريكي، من خلال المدارس التبشيرية قويًّا في المجتمع القاهري، على الرغم من أنه ظل هامشيًّا في آخر المطاف شأنه شأن الأنجليكان الشاميين، إذ لم تأتِ أي من الطوائف بما يمكن أن يسمح بالدخول في الشبكات المؤثرة في المجتمع. ومع ذلك كان ثمة تميز لمن هو قادم من أمريكا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قبل أن تبدأ الإمبراطورية الأمريكية الآخذة في التوسع في منافسة الإمبراطورية البريطانية في الاحتلال الأجنبي الذي لا يشبع، وكان وديع والد إدوارد قد هاجر إلى الولايات المتحدة في إطار نشاط الحركة العربية في الاتجاه نحو الغرب الأمريكي في عهد النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.[3]

وبشكل عام كان الأجانب من أصحاب الأرصدة البنكية الكبيرة والمهارات المهنية مثل آل سعيد، يعيشون حياة مريحة في القاهرة نحو منتصف القرن العشرين، على الرغم من أن مكانتهم الاجتماعية تعد أدنى من بعض النواحي. ففي مدينة عُرف أنها منفتحة على ثقافات العالم، كان آل سعيد أقلية أنجليكانية صغيرة ضمن أقلية مسيحية تبلغ نسبتها 10% من السكان تسيطر عليها الكنيسة اليونانية. وقد شكّل الشوّام، وهم مجموعة من الكتاب والمثقفين ورجال الأعمال والصناعيين، شريحة اجتماعية ذات علاقات داخلية وثيقة كان لها أثرها في تشكيل حياة آل سعيد، مع أن قيمهم البروتستانتية وتجاربهم الفلسطينية الخاصة بهم جعلتهم أقلية ضمن أقلية، ولئن كان لهم صلات بآخرين خارج الدائرة السورية أو ببعض الأوربيين على نطاق أضيق، فإن هاتين المجموعتين ظلتا هامشيتين في حياتهما الاجتماعية. وعلى الرغم من كل ما قيل عن انتماء آل سعيد إلى مجتمع النخبة، فإنهم لم يصلوا إلى أعلى الطبقات في مجتمع القاهرة.

بيد أن القاهرة كانت هي المدينة التي رسا مركب طفولته فيها. ربما كانت القدس هي مركز فلسطين التاريخي، والمكان الذي ولد فيه وعمّد، والذي كانت العائلة تحج إليه باستمرار، وفيه حصل على تعليمه المدرسي المبكر، ولكنه كان يذكرها كأنها مدينة نائمة لا ترحب به، إذا قورنت بالحياة المدنية المثيرة في القاهرة. كانت تجارة آل سعيد هي المورد الرئيسي لمعدات المكاتب للجيش البريطاني المحتل وللحكومة المصرية، وقد كان على أفراد العائلة أن يعملوا وقتًا إضافيًّا لإثبات انتمائهم وكونهم عربًا فلسطينيين أصليين. كانوا بالنسبة إلى البريطانيين في القاهرة يعرفون باسم "الشوام" أي القادمين من بلاد الشام، والتي كانت تشمل آنذاك سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، أو ما عرف بالشام الكبير قبل أن يقسمها الإنجليز والفرنسيون، بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

والمعروف أن إدوارد حصل هو وأخواته على جوازت سفر أمريكية منذ ولادتهم لأن والدهم كان مواطنًا أمريكيًّا، ثم إن جنسيته الأمريكية كانت تعطيه وضعًا ثقافيًّا وليس مجرد وضع قانوني، وذلك بسبب ممارسة الوالد للعادات الأمريكية في الأعياد وفي ترديد الأغاني الأمريكية ونحو ذلك.[4]

أما عن حي الزمالك الذي سكن فيه آل سعيد بعد أن انتقلوا إليه عام 1937، فقد كانت تتركز فيه جغرافية القاهرة وبيئتها الأغنى دلالة والأشد كثافة، وهي جزيرة تتوسط النيل بين المدينة القديمة إلى الشرق والجيزة جهة الغرب، يسكنها الأجانب والأغنياء المحليون. لم تكن الزمالك جماعة موحدة بل كانت -حسب تعبير إدوارد- أشبه بالمركز الكولونيالي الأمامي، يتحكم فيه الأوروبيون الذين لم يكن لأهله اتصال بهم. حيث كان لهم عالمهم الخاص داخل الزمالك. كان بيتهم شقة فسيحة في الطابق الخامس من المنزل رقم 1 من شارع عزيز عثمان، يطل على حديقة الأسماك -التي قدم لها وصفًا شائقًا- وكان يقضي جُلَّ أوقات اللعب فيها خلال أيام الآحاد والأعياد هو وشقيقاته. وكان يرتاد مدرسة تبعد بضعة صفوف من البنايات عن منزلهم هي "مدرسة الجزيرة الإعدادية" Gezira Preparatory School، وللرياضة كان يقصد "نادي الجزيرة الرياضي" وفي عُطل نهاية الأسبوع يقصد "نادي المعادي الرياضي" حيث تعلم السباحة. وفي صباحات الآحاد كان يذهب إلى القداس الصباحي في كاتدرائية "جميع القديسين" وفي الأماسي يذهب إلى كنيسة الإرسالية الأمريكية في الأزبكية. لقد كان عالمه محصورًا في المدرسة، والكنيسة، والنادي، والحديقة والبيت. كان هذا الحيز المحدد بدقة من هذه المدينة الجبارة يختصر عالمه كله حتى السنوات المتأخرة من مراهقته.[5]

لقد ظهرت الزمالك على خريطة القاهرة عندما أعاد الخديو إسماعيل تصميمها على غرار ما فعله المهنس المعماري هاوسمان في باريس، وقد أطلق عليها الخديو اسم الزمالك أي حديقة النباتات (وهي كلمة تركية تعني كرم العنب)، وبالفعل كانت الحديقة -التي تقع عبر الشارع الذي يسكن فيه آل سعيد- تضم مجموعة نادرة من الأسماك الإفريقية، وكانت حدائقها من بنات أفكار ضابط إنجليزي. لقد كانت هذه الضاحية التي جاء بها المستعمرون الأوربيون تشتمل على ملاعب للبولو والبولينج والتنس ذات الأراضي الحمراء "والمعزولة عن الفلاحين" كما وصفها إدوارد سعيد، الذي مارس وأسرته فيها ركوب الخيل والدراجات في الملعب الخاص بهم بعيدًا عن زحمة البشر. وبالرغم من أنهم كانوا محاطين بالأوربيين، فإن علاقتهم بهم كانت محدودة جدًّا. وكانوا إذا ملّوا من نادي الجزيرة كان في إمكانهم الذهاب إلى نادي التوفيقية للعب التنس أو إلى نادي المعادي لمشاهدة أفلام الأطفال، وخاصة أفلام طرزان التي ظل إدوارد يحبها طوال حياته.

أما البناية التي سكنت فيها الأسرة بالزمالك فكانت تضم مصعدًا صُمم بأسلوب فن عرف باسم "Art Deco" الذي شاع في فرنسا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وهو أسلوب ميز عمارات تلك الضاحية، وخلافًا للمناطق الحضرية الراقية -مثل جاردن سيتي أو المعادي- كانت الزمالك تتميز بأنها ذات موقع مركزي منعزل، بوصفها جزيرة جميلة وسط نهر النيل. لقد كانت في الأربعينيات ممتلئة بمساحات كبيرة من الحدائق غير المكتملة والغابات والطرق المخصصة لركوب الخيل وملاعب الجولف وبرك الأسماك، أما نادي الجزيرة الشهير، وهو أشدها بذخًا واحتفاء بالمظاهر، فكان على بعد مسافة قليلة من بيت آل سعيد.[6]

وقد حدثنا إدوارد عن "مشوار السيارة" الذي اعتادت أن تقوم به أسرته بوصفه من أهم الطقوس الترفيهية في سنواته القاهرية. فذكر أنه كان لوالده مجموعة من السيارات الأمريكية السوداء يستعين عليها بسائقين، وفي الأماسي والأعياد كان يستغني عن السائق ويأخذهم في مشاوير بالسيارة حيث يعبر جسر بولاق الذي يصل الزمالك باليابسة، فيصل إلى تقاطع "الإسعاف" ومبنى "المحاكم المختلطة" (لعله مكان دار القضاء العالي الآن) على تخوم المركز التجاري الأوروبي.. وقد اعتاد أن يتجه إلى واحد من أمكنة ترفيه معينة سلفًا وهو "مينا هاوس"، بعد ظهر الأحد لاحتساء الشاي والاستماع إلى حفلة موسيقية.. كما كان يذهب إلى منطقة السدود (لعلها القناطر الخيرية) بعد ظهر أيام السبت، والتي ذكر أنها على دلتا النيل تحدق بها المتنزهات الخضراء، حيث يتجول والده بالأسرة على مدى ساعتين أو ثلاث. وفي أيام الأعياد كانت الأسرة تمر على الأهرام في طريقها إلى الصحراء الغربية حيث كانوا يفترشون متاعهم ويتناولون طعامًا كان معهم، وذكر أن أسرته لم ترتَد مرة مكانًا عامًّا كمقهى أو مطعم، باستثناء مينا هاوس، وأنهم لم يذهبوا برفقة أحد أو يقصدوا مرة مكانًا معروفًا. وفي أماسي الأعياد كانت الأسرة تتجول جنوبي "باب اللوق" حيث الأبنية الحكومية تتلألأ بالأنوار الكهربائية الملونة.

في مطلع الأربعينيات تذكَّر إدوارد سعيد أن القاهرة كانت مدينة مكتظة بالسكان إلى حد كبير، تمركز فيها ألوف الجنود من جيوش الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. أضيف إليها عدة جاليات أجنبية كبيرة من إيطاليين وفرنسيين وإنجليز، ناهيك عن الأقليات القاطنة فيها أصلًا، مثل اليهود والأرمن والسوريين واللبنانيين (الشوام) واليونانيين. وقد ذكر أنه قد رأى بالصدفة مسيرة للجنود هنا أو استعراضًا عسكريًّا هناك وأنه شاهد مسيرات الجنود البريطانيين، والجنود الأسترالية والنيوزيلاندية المشتركة (آنذاك) وهم ينفخون في الأبواق ويقرعون الطبول.. وإن كان لم يفهم لم كان يتم ذلك ولأجل من؟

وذكر أن أسرته خلال فترة النصف الأول من زمن الحرب أخذت تقضي أوقاتًا أطول من المعتاد في القدس، حيث استأجروا منزلًا لقضاء عطلة الصيف في رام الله شمال القدس، ولم يرجعوا إلى القاهرة إلا في نوفمبر 1942، بعد انتهاء معركة العلمين. وكانت أسرته تعتاد السفر بعربات النوم الفخمة بالقطار من محطة باب الحديد إلى اللّد والقدس في رحلة تستمر اثنتي عشرة ساعة مع بعض الخدم وكمية من الأمتعة وكانت العودة بنفس الطريقة سهلة يسيرة، ولكنهم بسبب ظروف الحرب في عام 1942 لم يركبوا القطار بل اضطروا إلى السفر بالسيارة في مايو 1942 فرارًا أمام زحف الجيش الألماني الذي كان يتقدم صوب مصر من جبهة الغرب.

وقد روى كيف أنهم ركبوا سيارة والده البليموث وقد طليت مصابيحها باللون الأزرق للتعتيم، واستغرقت الرحلة إلى قناة السويس ساعات عديدة التقوا خلالها بعدة قوافل عسكرية بريطانية تتجه صوب القاهرة، فضلًا عن الدبابات والشاحنات وناقلات الجنود المتجهة إلى معركة أسفرت في البداية عن هزيمة لقوات الحلفاء، وإن أعقبها هجوم بريطاني مضاد توّج بانتصار كاسح في معركة "العلمين" في نوفمبر 1942. وقد وصف إدوارد المخاطر التي تعرضوا لها طوال الرحلة في سيناء بعد عبور القنطرة وسط غارات ليلية ألمانية، وذكر أن والده بصفته مواطنًا أمريكيًّا في مصر، كان يخشى من وصول القوات الألمانية بقيادة رومل إلى الإسكندرية ثم القاهرة، ومن ثم سيصبح في موقف لا يحسد عليه.. ولكن قدّر له أن يصل إلى رام الله بعد عناء شديد حيث قضت الأسرة صيفًا طويلًا ومربكًا فيها. وما إن عادت الأسرة إلى القاهرة في نوفمبر بعد انتصار العلمين حتى عاد إدوارد إلى "إعدادية الجزيرة". وفي عطلات الصيف في السنوات التالية منذ عام 1943 أخذت الأسرة تقضي كل صيف في قرية "ضهور الشوير" وهي من قرى جبل لبنان كان والده يتعلق بها، بينما كان إدوارد يراها مملة.

كان نصف نشاط عائلته التجاري في فلسطين ممثلًا في "شركة فلسطين التعليمية" (Palestine Education Company) يتعلق ببيع الكتب، وقسم صغير منه يتعلق بنشرها، وإن كان والده قد أدار في مصر بالشراكة مع ابن عمه شركة مكرسة كليًّا للتجهيزات والأدوات المكتبية وهي "شركة الراية للقرطاسية" (Standard Stationery Company) يبيعون في قسم منها في القدس وحيفا أيضًا.

وفي هذه الفترة ذكر أنه لم يكن قد شاهد سيركًا قبل ذلك، إذ لم يظهر "سيرك تونيي" في القاهرة إلا بعد أربع سنوات. وأضاف أنه في سن العاشرة أيضًا مرَّ بتجربة أخرى أسعدته تمثلت في حضوره بعض حفلات الأوبرا، وإن ذكر أنه لم يستمتع بحفلات أوبرا يختارها بنفسه قبل بلوغة الثامنة عشرة. وأنه قبل ذلك كان يلجأ إلى سماع ما تقدمه إذاعة "بي بي سي" والإذاعة الحكومية المصرية من برامج. وكانت متعته الكبرى في الاستماع إلى برنامج للإذاعة البريطانية يذاع بعد ظهر يوم الأحد بعنوان: "ليالٍ في الأوبرا".

وهكذا درس إدوارد في "مدرسة الجزيرة الإعدادية" من خريف 1941 إلى أن غادرت أسرته القاهرة في مايو 1942، ثم عاد إليها من أوائل 1943 إلى 1946، وبينهما فترتا انقطاع طويلتان بعض الشيء بسبب ظروف الحرب قضاهما في فلسطين ودرس خلالهما في مدرسة القديس بطرس بالقدس. في تلك الأيام لم يكن في مدرسة الجزيرة أي أستاذ مصري: "كما لم أعِ أىّ حضور عربي مسلم، فالتلامذة أرمن ويهود مصريون وأقباط، إضافة إلى عدد غير قليل من أبناء الإنجليز، بما فيهم كثرة من أبناء الأسرة التعليمية. والمدرسة فيلا من فيلات الزمالك تحولت إلى قاعات للدراسة"، وكانت تقع بالقرب من بيتهم في شارع عزيز عثمان القصير نسبيًّا في الزمالك.

وقد لاحظ بارتياب أن غرف الفيلا العلوية كانت أماكن سرية تنعقد فيها اجتماعات إنجليزية غامضة. وذكر أن رئيسة المدرسة "مس بولين" كانت تمتلك رخصة إدارة المدرسة لحساب "المجلس الثقافي البريطاني". وبعد ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، فقدت المدرسة تدريجيًّا طابعها الأوروبي. وعندما انفجرت أزمة السويس عام 1956 كانت قد تحولت إلى شيء آخر تمامًا. وهي الآن مدرسة تدريب مهنية تعلم اللغات للبالغين وقد زال كل أثر لماضيها الإنجليزي. أما عن طبيعة الدراسة وتكوينه الثقافي فهو موضوع المقالة التالية.


[1]- عبد الرحمن الرافعي: في أعقاب الثورة المصرية، ثورة 1919، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار المعارف، 1989 ص 145 وما بعدها.

[2]- أحمد زكريا الشلق: تطور مصر المعاصرة، فصول من التاريخ السياسي والاجتماعي، القاهرة 2007، ص 190-198.

[3]- تِمُثي برِنَن: إدوارد سعيد، أماكن الفكر، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت 2022، ص 43 -44.

[4]- المرجع السابق، ص 40 -43.

[5]- إدوارد سعيد: خارج المكان (مذكرات) ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى عام 2000 ص 47 -51.

[6] -تِمُثي برِنَن، المرجع السابق، ص 36 -37.