عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

سجالات

محمد حسني

إسرائيل والدروز.. ورقة الطائفية واللعب على المكشوف - الجزء الأول

2025.09.07

مصدر الصورة : آخرون

إسرائيل والدروز.. ورقة الطائفية واللعب على المكشوف - الجزء الأول

 

عقب المواجهات الطائفية في السويداء السورية، ظهرت الأعلام الإسرائيلية بين المتظاهرين الدروز، وعلى صدور جنود مشاركين في التظاهرات، التي نادت بـ"حق تقرير المصير" بينما وجّه الزعيم الروحي الدرزي حكمت هجري الشكر إلى إسرائيل ورئيس حكومتها نتنياهو.

هل يمكن أن تحقق إسرائيل مع دروز سوريا ما حققته مع دروز فلسطين؟

أو.. ربما تحقق ما هو أكثر؟

الدروز.. تعميم الإدانات

قد يثير الدهشة أن نجد أسماءً عربية بين صفوف الجيش الإسرائيلي في غزة، بل إن بعض أصحابها يحملون رتبًا رفيعة. فبرغم أن الدروز لا تتجاوز نسبتهم 1.7% من سكان إسرائيل، فإن حضورهم في الوحدات العسكرية يبلغ نحو 10%.

هذا الانخراط لم يكن محض صدفة، بل نتيجة مباشرة لإستراتيجية امتدت قرابة قرن من الزمن، نجحت خلالها الحركة الصهيونية، ثم الدولة العبرية، في إعادة صياغة العلاقات الداخلية بين الطوائف الفلسطينية عمومًا، وإعادة تشكيل هوية الطائفة الدرزية على وجه الخصوص.

يُرجع البعض ما آلت إليه الطائفة الدرزية في فلسطين إلى خيانة الطائفة -أو زعامتها- أو إلى سياسة خصّت بها إسرائيل دروز فلسطين. لكنها نظرة قاصرة جدًّا تتعامى عن الوقائع التاريخية، وتستسهل تعميم الإدانات.

لقد انتهجت إسرائيل سياسة "فرّق تسُد" الاستعمارية بمنتهى البراعة وفي كل الاتجاهات، بين الطوائف، والطبقات، وحتى العشائر والعائلات وبعضها. وقد كان نجاحها متفاوتًا. لكنها حققت أعلى نجاحاتها بين الدروز، فأصبحوا جزءًا من جيشها، بل تصدروا الصفوف في مواجهة بقية الشعب الفلسطيني، وتحملوا جرم مذابح بعينها. هذا الدور يلعبونه الآن في غزة، وفي سوريا بطريقة مختلفة.

فكيف حدث ذلك؟

دويلة جبل الدروز

لم يكن حضور الدروز في صفوف الجيش الإسرائيلي لاحقًا معزولًا عن مسار طويل بدأ مع بدايات القرن العشرين، إذ سعى الانتداب الفرنسي عام 1921 إلى تقسيم سوريا إلى عدة دويلات، من بينها «دويلة جبل الدروز» التي ضمّت في ذلك الوقت نحو 50 ألف درزي إضافة إلى طائفة مسيحية كبيرة. وبعد إعلان دولة السويداء في مارس 1922، تغيّر اسمها عام 1927 إلى «دولة جبل الدروز» أو «جبل العرب».

غير أنّ هذا الكيان لم يدم طويلًا، لأن جبل العرب تحوّل في عام 1925 إلى منطلق للثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش، رفضًا لتقسيم سوريا، وهو ما أسفر عن فرض مسار الوحدة السورية باستثناء لبنان ولواء الإسكندرونة، كما جرى تثبيت ذلك لاحقًا في معاهدة 1936.

وفي الأثناء، كانت القيادة الصهيونية في فلسطين ترصد المشهد عن كثب، خصوصًا بعد «هبّة البراق» عام 1929، حيث وضعت نصب عينيها هدفًا إستراتيجيًّا يتمثل في شق الصف العربي واستقطاب حلفاء محليين. وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، أعلنت القيادات التقليدية الدرزية اعتزالها القتال، وهو ما ولّد فجوة عميقة بينها وبين قيادة الثورة العربية، التي تعاملت مع الموقف بحدة وارتكبت أخطاء فادحة، من بينها إعدام متعاونين مع الصهاينة والدخول في خصومات مع عائلاتهم. وإلى جانب ذلك، فقد أدّى الركود الذي سبّبه الإضراب العام إلى إنهاك المجتمع الفلسطيني بأسره، بما فيه المجتمع الدرزي، الأمر الذي منح الصهاينة فرصة ذهبية للوقيعة.

ومن هنا برز اسم آبا حوشي، الناشط الصهيوني الأوكراني وعضو الهستدروت الذي أصبح لاحقًا رئيس بلدية حيفا. فقد عمل على بث شائعات تتحدث عن اعتداءات الثوار على أرواح وممتلكات الدروز، بينما كان في الوقت نفسه يخطط مع آخرين لمشروع «ترانسفير» يقضي بترحيل دروز فلسطين إلى دويلة جبل الدروز. ولم يتوقف عند ذلك، بل دفع شخصيات لتقديمه إلى سلطان الأطرش باسم «أبو خالد»، ونشرت الدعاية الصهيونية صورًا له معه، زاعمةً أنّها حصلت على موافقة مبدئية للمشروع، قبل أن يتضح لاحقًا، عبر يوسف نحماني، أنّ حوشي ضلل قيادته بادعاءات غير صحيحة.

وعلى هذا الأساس، أدركت القيادة الصهيونية أهمية القيادات التقليدية في المجتمعات العربية، وبخاصة في المجتمع الدرزي، غير أنّ محاولاتها لاستمالة العائلات الكبرى باءت بالفشل. ولهذا السبب تحولت إلى استقطاب شخصيات أقل شأنًا، ثم عملت على تضخيم حضورها إعلاميًّا باعتبارها ممثلة للطائفة بأسرها.

وعندما اندلعت حرب 1948، تغيّر الموقف جذريًّا، إذ تخلت القيادات التقليدية عن حيادها المزعوم، وزجّت بأبناء العائلات الفقيرة للتجنيد في صفوف الهاجاناه. ومن ثمّ جاءت الخطة الصهيونية واضحة بقطع خط الرجعة على الطائفة الدرزية. ولهذا السبب جرى تضخيم «بطولات» المقاتلين الدروز في مواجهة الجيوش العربية وطرد الفلسطينيين، على الرغم من أنّ القوات السورية نفسها كانت تضم كتيبة قوامها نحو خمس مئة مقاتل درزي، بينما لم تتجاوز «وحدة الأقليات» في الهاجاناه مئتي درزي ومئة شركسي ومئتي بدوي ما بعد النكبة.

وبينما احتاجت الحركة الوطنية الفلسطينية عَقدًا كاملًا لتنهض من جديد، كانت الصهيونية تسعى إلى تدعيم سلطاتها، وقد فرضت على المناطق التي لم تنجح في طرد العرب منها، بمن فيهم الدروز، حكمًا عسكريًّا.

وفي 1956 أصدرت قانون التجنيد الإجباري للدروز، ما فضح دعايتها عن استيعاب الدروز في صفوف الدولة، حيث واجه القانون معارضة شديدة، حتى من القيادات التقليدية، التي طالبت بجعل التجنيد طوعيًّا لا إجباريًّا.

من هنا دخلت العلاقة بين الدولة الصهيونية والدروز مرحلة جديدة، هي مرحلة إعادة التشكيل، التي ارتبطت باسم «يجآل ألون»، واتخذت ثلاثة محاور أساسية:

أولًا - المحور الاقتصادي:

رغم الخطاب الإسرائيلي عن «التحالف» مع الدروز، استمرت الدولة العبرية في مصادرة الأراضي دون تمييز بين العرب «المعادين» والدروز «الحلفاء». وبما إن الأرض شكّلت المصدر الرئيسي، بل شبه الحصري، للعيش في القرى الدرزية، فقد أدى ذلك إلى تضييق سبل الرزق عليهم، في الوقت الذي فُرض عليهم التجنيد، مع تهديدهم بعقوبة التهرّب.

وبسبب غياب أي خطط للتنمية أو التحول الصناعي في مناطقهم، باتت المؤسسة العسكرية والأمنية الإطار الاقتصادي الوحيد المتاح لهم، سواء خلال فترة الخدمة أو بعدها. ومن هنا ارتفعت نسبة التجنيد تدريجيًّا حتى وصلت إلى 85% من الشبان الدروز، وهي أعلى من نسب التجنيد في الوسط اليهودي (أقل من 69% للشبان و56% للفتيات). وهكذا، وبينما لا تتجاوز نسبتهم 1.7% من سكان إسرائيل، بلغت مشاركتهم في الوحدات المختلفة 10%، ما جعل الانخراط في المؤسسة العسكرية مصدر الرزق الأساسي للمجتمع الدرزي.

ثانيًا - المحور الاجتماعي:

في هذا الجانب، عملت إسرائيل على تكريس العلاقات العشائرية، واستغلال الصراعات الداخلية بين العائلات، بحيث جرى توزيع الخدمات العامة والوظائف وفق هذه الاعتبارات لا وفق مبادئ المساواة أو الشفافية. وهكذا ارتبطت المكانة الاجتماعية بالمناصب العسكرية أو بالصلة بجهاز الأمن العام «الشاباك». وفي السياق نفسه، وُضع الدروز في الصفوف الأمامية لمواجهة بقية الفلسطينيين، سواء خلال الحكم العسكري في الضفة وغزة، أو لاحقًا على الحواجز وفي مصلحة السجون. ونتيجة لذلك، تعمّقت القطيعة، بل وتحوّلت إلى عداوة متبادلة بين الدروز وبقية الشعب الفلسطيني.

ثالثًا - المحور الثقافي والديني:

ولكي يكتمل المشروع، ركزت الخطة الصهيونية في إعادة تشكيل المجتمع الدرزي وفق «هوية» مصطنعة، غايتها قطع صلته بمحيطه العربي والإسلامي. فقد جرى التركيز في فترات الاضطهاد التاريخي وإخراجها من سياقها لتُقدَّم كاضطهادات عنصرية، بالتوازي مع اختلاق صلة «مصطنعة» باليهود. ومن الأمثلة البارزة إلغاء الاحتفال بعيد الفطر، واستبدال به احتفالًا مركزيًّا عند قبر النبي شعيب، مع عسكرة المناسبة بجعل أداء القسم العسكري للمجندين يتم في أثنائه. كما جرى اعتبار شعيب أو يثرو نبيًّا مشتركًا بين الدروز واليهود، رغم تعارض مكانته في اليهودية مع ذلك، وتوظيف كلمة «עדה – عيداه» للإشارة إلى الطائفة الدرزية وحدها، كما يُفعل مع الطوائف اليهودية.

أما في التعليم، ففُصل التعليم الدرزي عن العربي بشكل صارم، واستُبعد المعلمون غير الدروز رغم صعوبة ذلك بسبب تدني نسبة المتعلمين. وأُنشئت مناهج جديدة للتاريخ، صُوّر فيها تاريخ خاص بالدروز منفصل عن التاريخ العربي والإسلامي، وحُذفت تمامًا أي إشارات إلى القومية العربية. وحتى في اللغة العربية، خُصصت مناهج مختلفة تستبعد الأدباء والمفكرين العرب، بل وحتى الدروز المناهضين للصهيونية، مثل سميح القاسم، مقابل إدخال نصوص هامشية لمجرد أن كاتبيها من الدروز. وإلى جانب ذلك، وُضعت كتب عن التراث الدرزي، رغم أن المذهب نفسه لا يميل إلى تعميم دراسته، بل يركّز في مكارم الأخلاق المشتركة مع بقية المجتمع الفلسطيني.

وفي النهاية، نجحت إسرائيل في استمالة بعض القيادات الروحية لإصدار فتاوى تبرّر العلاقة مع الدولة الصهيونية، بل وتُجيز الخدمة العسكرية في صفوف جيشها، ليكتمل بذلك مشروع إعادة التشكيل.

مقاومة السياسات الإسرائيلية

واجهت إسرائيل مقاومة من الدروز لمخططاتها، وقد انبثقت هذه المقاومة من تيارين مختلفين.

فمن ناحية، كان هناك الدروز العروبيون والشيوعيون، الذين استمدوا دعمهم المعنوي من الصحوة العربية خلال الحقبة الناصرية، ومن مشروع الوحدة المصرية-السورية، خاصة بعد تشكيل منظمة التحرير وتصاعد المقاومة المسلحة.

ومن ناحية أخرى، ظهرت معارضة أخف في مواقفها وسقفها، لكنها كانت أقدر على الشحن، وتمثلت في القيادات التقليدية، التي فوجئت بتنكّر الصهيونية لها ومعاملتها كبقية الفلسطينيين فيما يتعلق بمصادرة الأراضي وجباية الضرائب وشح الميزانيات البلدية وانعدام التنمية. وفي الوقت نفسه، خافت هذه القيادات من تسييس المجتمع الدرزي وبالتالي تراجع هيمنتها، لكنها حرصت في خطابها المائع على التأكيد على ولائها للدولة وانفصالها عن المقاومة الفلسطينية.

وعبر العقود، كانت أبرز موجات المعارضة تتجدد في محطات محددة، فقد اندلعت في الخمسينيات إثر إصدار قانون التجنيد الإجباري، ثم في عامي 1972–1973، ثم في عام 1982، وكذلك في مطلع التسعينيات، قبل أن تعود لتتصاعد مع قانون «يهودية الدولة» عام 2018.

وفي هذا السياق، تُعد حركة رفض الخدمة من أهم حركات المعارضة المستمرة، حيث تتمثل بشكل أساسي في حركة «أرفض»، التي تنسّق نضالها الإعلامي دوليًّا مع حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).

نسخة مصغرة من المشروع الصهيوني

تتحمل القيادات التقليدية، سواء الدرزية أو قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، نصيبًا كبيرًا فيما آل إليه مصير الدروز في فلسطين، وذلك إلى جانب الظروف العامة في فلسطين تحت الحكم العثماني القمعي القائم من الأساس على النظام الطائفي، ثم تحت الاحتلال البريطاني، وكذلك تخلف المجتمعات الدرزية المنعزلة بشكل خاص، من حيث علاقات الإنتاج والملكية وتدني نسبة التعليم، وبالتالي تراجع الوعي السياسي، ما أعطى فرصة للحركة الصهيونية في تنفيذ مخططها السابق قبل قيام الدولة.

غير أن المشروع الصهيوني تجاه الطائفة الدرزية بدءًا من خمسينيات القرن الماضي كان نسخة مصغرة من المشروع الصهيوني نفسه، إذ كان المقصود إيجاد تحول نوعي في مجتمع تقليدي، سواء على الصعيد الاقتصادي والعسكري أو على الصعيد الديني والثقافي، لتعزيز هذا التحول. وفي المقابل، استسهل الجانب العربي خطاب التخوين والمؤامرة، بحيث لا يمكن حصر المطبوعات والمنشورات الرقمية التي تتحدث عن غموض "الديانة" الدرزية وعدائها للمسلمين، وخيانة الدروز وتآمرهم، بالمنهج المشوّه ذاته الذي يتعامل مع الصهيونية باعتبارها ذروة مؤامرة يهودية ألفية.

ويبدو نجاح المشروع الصهيوني تجاه الدروز في بروز جيل جديد حريص على إعلان انتمائه -حتى لو كان عن غير وعي أو عن وعي مشوّه- إلى دولة إسرائيل وجيشها، وإعلان استعداده لأن يُقتَل في سبيلها، وبالبديهي لأن يَقتُل في سبيلها، بينما لا يشكو سوى من قلة المخابئ المحصنة خلال القصف مقارنة بالبلدات اليهودية. ومع ذلك، فقد زادت السياسات الإسرائيلية من الرابط الطائفي، حيث يعطي 81% من الدروز أهمية لانتمائهم إلى الطائفة، و58% لانتمائهم إلى الدولة.

وهكذا نجح المشروع الصهيوني في تحويل الدروز من مجتمعات زراعية مسالمة إلى جماعة عسكرية وظيفية تمارس دورًا استعماريًّا في إطار المشروع الصهيوني، سواء في قمع الفلسطينيين في الداخل، أو في الحروب الإسرائيلية التوسعية، أو حتى في جريمة الإبادة. وقد تعرضت هذه الجماعة لتجريف بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والروحية التقليدية، التي استُبدل بها بنية اقتصادية معسكرة، وهوية جديدة مختلقة تكرّس عزلتها وعداءها للمجتمع الفلسطيني والمحيط العربي الأوسع، وتزيد في الوقت نفسه تعلقها بالمشروع الصهيوني، ولكنها مع ذلك تمنعها من الاندماج الكامل في المشروع العنصري لكونهم غير يهود.

وبالتالي، فقد أصبحوا يمثلون "مرتزقة" حسب وصف المفكر الدرزي كمال كيوف، وقد يكون مصيرهم في النهاية شبيهًا بميليشيات جيش لبنان الجنوبي. والمؤسف أن إسرائيل توسع من استغلالها للدروز لإحياء المشروع الاستعماري ابن المئة عام لتكوين دويلة درزية في سوريا، في ظل نسيان أو تناسٍ أن الهدف الصهيوني كان ترحيل الدروز من فلسطين إلى هذه الدويلة.