عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

ثقافات

كمال مغيث

اللحم في الثقافة المصرية - الجزء الثاني

2025.10.12

اللحم في الثقافة المصرية - الجزء الثاني

 

 

كان فوق الخيال والتصور وجود طبق كافٍ من اللحم وسط الطبلية أو المائدة، ليمد من يريد من الآكلين يده، فيأخذ ما يحب من قطع اللحم حجمًا وهيئة، لذلك كان يُقدم طبق أو صينية اللحم إلى صاحب السلطة، أو صاحب الأمر والنهي في البيت، لتفريق اللحم وإعطاء «المنابات»، وكان من المفترض أن يكون الأب، ولكن كان من الشائع أيضًا -منعًا لوجع الرأس، خاصة إذا كان عدد الآكلين كبيرًا- أن يتنازل عن هذا الحق إلى أمه أو زوجته أو ابنه الأكبر، ولكن كان من المهم أن يتمتع من يفرق اللحم بالمصداقية والرضا والحنان والحزم والهيبة معًا، فالمفترض أنه يعرف كل فرد وما يفضله من قطعة اللحم، سمين أو ملبًس أو أحمر، أو من الدجاج الورك أم الصدر، وأن يستجيب ويحن على من يرى نفسه مظلومًا، وأن يغير «المناب لمن لا يروقه منابه»، ويردع الطمعان في الوقت نفسه.

وكان من القواعد المقبولة في عملية تفريق اللحم، أن يبدأ تفريقه على الضيف، الذي ينبغي أن يتميز أيضًا، وبعده رب الأسرة، يليه الإخوة الذكور الكبار، ثم الأم، ثم البنات الكبار، وبعدهن نزولًا حتى الأطفال، ولكي أكون مفهومًا للأصدقاء القراء فأنا أتحدث عن طبلية حولها أكثر من عشرة أفراد، هم إخوتي فضلًا عن جدتي وأبي وأمي وما تيسر من ضيوف.

وظل اللحم فى القرى لزمن طويل لحمًا يميز منه نوعان فقط، حمراء أو ملبسة، أي فيها جزء من الدهن الأبيض، إذ لم تكن الظروف المادية والوعي الغذائي أيضًا يسمح بتمييز الكباب والكفتة والبفتيك والموزة والأنتركوت وغيرها مما تعرفها أسر المدينة المستورة، وكانت الهدية من اللحم تعد هدية معتبرة، خاصة في المواسم، وكان على الخاطب أن يمنح في المواسم لخطيبته هدية من اللحم، أو بعض «ذكور البط»، وفي ليلة الدخلة كان على أم العروس وأهلها إعداد «حلة الاتفاق»، وهى وجبة كبيرة من اللحوم المختلفة، التي من المفترض أن يتعشى منها الزوج وأهله جميعًا، ولذا فمن المفترض أن تضم بضعة كيلوجرامات من اللحوم الجيدة، وبضعة أزواج من الحمام المحشي وكام دكر بط.

وتعتبر أطباق اللحم بالذات على المائدة دليل الكرم والحفاوة الأول بالضيوف، فكلما كان هناك إلى جانب اللحم الدجاج أو البط أو الكبد، كان هذا دليلًا على أن الضيف من أصحاب الحظوة والأولوية في اعتبار الأسرة، كما قد يكون اللحم فقط هو ما تقدمه بعض الأسر الفقيرة إلى ضيوفها من قراء القرآن، في مناسبات تلك القراءة، اللحم مسلوق ويبلل بالمرق أو الشوربة الخاصة به بضعة أرغفة من العيش أو البتاو، لتصبح فتة تقدم فوقها قطع اللحم ولا شيء بعد هذا.

الحواشي والسقط والحلويات

عندما لم تكن ميزانية البيت تسمح بشراء اللحوم الحمراء الغالية، فإن الأمهات كن يلجأن إلى الحواشي، أو ما يطلق عليه السقط والحلويات، أو فواكه اللحوم، التي تباع فى طسوت وليست معلقة في المحال مثل اللحوم الحمراء، كالكوارع، وهى أرجل الذبيحة الأمامية والخلفية، التي يقال إن لجيلاتينها الوافر فوائد جمة، وخاصة للمتزوجين والراغبين فى تحسين أدائهم الزوجي، والحلايل وهي قضبان الثيران والفحول، ولحم الرأس، الذي يحوي قطعًا شهية كالصدغ والجوهرة، وهي العين وما يحيط بها من لحم ودهن، واللسان الذي يقدم كلحم بارد شهي في كثير من المطاعم، والعكاوي، وهي ذيل الذبيحة، الذي يصنع منه طواجن فخمة، والفشة التي تُسلق ثم تحمر، والكرشة وهي معدة الذبيحة، وتتكون من قطع مختلفة كالغربال وأم الشلاتيت، التي تطبخ مع الصلصة والحمص، والطحال، والممبار، وهي الأمعاء عندما تحشى بالأرز، وأظن أنها نوع محبوب من المحشي عند الناس جميعًا، وهذه كلها لحوم جميلة، وذات مذاقات مختلفة وشهية، إذا ما تعودت عليها منذ الصغر، وإذا ما صنعت بحرفية.

وهي تباع مطهوة ومطبوخة، أو ما يطلق عليه «السمين»، على عربيات تشبه عربيات الكشري، أو يدور بها بائع متجول يحمل على رأسه صينية مغطاة بشاش أبيض نظيف، ويعلق بكتفه عمود من الجريد، في انتظار من ينادي عليه ليشتري رغيفًا سمينًا شهيًّا، من تشكيلة الفشة والكرشة ولحمة الراس والممبار، وقد اشتهرت محلات كبيرة بالتخصص في بيع السمين، في حي السيدة زينب والمناصرة والمدبح كالركيب وبحة، تفخر وتبالغ وتعلق على الجدران صورًا للمشاهير من الفنانين ولاعبي الكرة والشيوخ المغرمين بتناول الطعام عندهم. 

اللحوم بين الحلال والحرام

يحدد الإسلام اللحم الحلال على أساس نوع الحيوان وطريقة الذبح وعقيدة الذابح، فذابح اللحم ينبغي أن يكون مسلمًا، أو من أهل الكتاب، وطريقة الذبح تكون بقطع عرقي رقبة الحيوان وحنجرته فقط، ويحرم أكل الحيوانات والطيور الميتة، والمصعوقة، والمخنوقة، والتي تضرب بمسمار في رأسها، وبقايا ما أكل حيوان مفترس.

أما نوع الحيوانات فيقر الإسلام أكل مشقوقة الحافر، والتي بلا أنياب، ولذلك يحرم أكل لحوم الحيوانات المفترسة، كما يحرم أكل الخنزير، واختلف الفقهاء في جواز أكل الحمار والحصان، ومع ذلك تلعب الثقافة دورًا كبيرًا في تفضيل ما يؤكل من اللحوم، فالمصريون لا يأكلون لحم الحصان، بينما يحبه الأوربيون، ولا يتصور أن المصريين يأكلون «الضب» مثلًا، وهو نوع من السحالي الكبيرة، رغم أنه حلال في الإسلام.

الدواجن

أما بدائل اللحم في القرى والبلاد الصغيرة، بل والأحياء الشعبية في المدن، فهي الدواجن، من بط وإوز ودجاج وأرانب، والمعروف تاريخيًّا أن البط والإوز والأرانب دواجن معروفة في مصر منذ ما قبل التاريخ، ففي آثار الدولة القديمة، هناك تماثيل لذبح وتنظيف الإوز والبط وشيهما، وهناك لوحة إوز ميدوم الشهيرة من الأسرة الخامسة، أما الدجاج فلم تعرفه مصر إلا في الدولة الحديثة، ويقال إن حملة تحتمس الثالث (الأسرة 18) على الشام قد جلبته معها، وعمومًا فهذه هي اللحوم الأقرب منالًا للقرويين وللشعبيين، فهي، خاصة في القرى، كائنات طبيعية تقتات على الأعشاب والحشائش والبذور المتوفرة بشكل تلقائي في تلك البيئة القروية، كما تقتات أيضًا على بواقي الطبليات من أرز وخبز وطبيخ وقشر بطيخ، وبواقي عملية طهو الطعام نفسها، كعروق الملوخية والخبيزة وأضلاع الكرنب، وتربى في عشش وأقفاص في الأفنية والمناور وفوق الأسطح.

وكان الدجاج الأكثر انتشارًا، فهو ككتكوت رخيص الثمن، وينمو بسرعة، وعندما يكبر قليلًا بعمر شهر أو شهرين يصبح خفيف الحركة ويقفز من مكان إلى آخر، ويستطيع إطعام نفسه بالنكش في التراب والبحث عن أي شيء يؤكل من بذور وحشرات، وعندما يصبح عمره ثلاثة أشهر يصبح صالحًا للأكل «شمورت»، وتبيض الدجاج في عمر خمسة أو ستة أشهر، ذلك البيض الذى كان عملة معترفًا بها في القري الفقيرة -حيث بقايا البيع بالتبادل- والذي بادخاره يوفر وجبة مضمونه، ويسد جوع طفل جائع.

كانت ستي -رحمها الله– تدخر ميزانية مخصوصة لشراء الكتاكيت، وتنتظر موسمها الشتوي، وكانت هناك مفارخ للكتاكيت في بعض القرى المصرية ترسل مندوبيها لشراء البيضات الملقحة، التي تحوى البذرة (البيضة التي فيها كسر)، حيث توضع آلاف البيضات على ألواح من الخشب في غرف تشبه غرفة الفرن، يرعاها ثلاثة عمال، في ثلاث نوبتجيات، وبعد كل ثماني ساعات يخلع العامل ملابسه كاملة، ويدخل في غرفة البيض عاريًا كما ولدته أمه، ليشعل بعض أعواد القش تكون كفيلة برفع درجة حرارة الغرفة لتعادل درجة رقاد الدجاجة على بيضها، كما يقوم بتقليب البيض، وهكذا ثلاث مرات في اليوم، وأنا لم أفهم لماذا يدخل العامل عاريًا في غرفة البيض، وهي العملية التي يجمع عليها كل من كتب في هذا الموضوع، إلا لو تصورت أن خلع الملابس كان المقصود به إبعاد أي فيروسات، أو بكتيريا، قد تكون عالقة بتلك الملابس، تؤذي كائنات في حالة من الحساسية الشديدة.

في اليوم الواحد والعشرين تنقر الكتاكيت بيضها لتخرج إلى النور، وعندما ينادي بائعها: «الملاح الملاح، ولا يربي الملاح إلا الملاح، يا ملاح الملاح»، تناديه ستي ليضع في الفراندة قفصين كبيرين ممتلئين بالكتاكيت، حيث تقوم بفرزها كتكوتًا كتكوتًا، وتختار منها من يقفز وينط حتى تنتقي نحو ثلاث مئة كتكوت، قائلة: إنهم سترة البيت، طعامنا حين تقل الفلوس، وطعام الضيف الذي يأتي بلا ترتيب. وكانت تسعدنا أنا وإخوتي عندما تترك كل واحد منا يختار ديكين يكونان ملكه الخاص، حتى يكبرا ويأكلهم، وكنا نختار الديك الشركسي ذا الرقبة العارية، التي لا يكسوها ريش، فقط يكون الريش كقصة على الرأس فقط، وقد عرفت أن هذه الديوك أطلق عليها الشركسية، لأن كثيرًا من المماليك الجراكسة (1382-1517) الذين حكموا مصر بعد المماليك البحرية (1250-1382) كانوا ذوي رقاب طويلة حمراء.

كان خلف بيتنا فناء نطلق عليه الجنينة، به بعض النخلات والأشجار وطلمبة مياه وغرفة للفرن والخبيز، وغرفة للطيور والدواجن، وكثيرًا ما كانت نساء الجيران يحضرن ليشاركن جدتي عملية الشراء، ويشترين لأنفسهن بعض الكتاكيت، فماذا يكون العمل وكيف يمكن التمييز بين تلك الكتاكيت حين تكبر وتصير دجاجًا وتتشارك في الأسطح المتلاصقة والأفنية المتجاورة والشارع الواحد، هنا كانت جدتي تأتي بمقص حامٍ وتتفق مع جاراتها على قطع ظفر أحد أصابع الكتكوت، فتصبح كتاكيتنا مقصوصة ظفر الأصبع الوسطى للرجل اليمنى، وجارتنا تلك الأصبع الأولى، والأخيرة فى الرجل اليسرى، وهكذا لا يتوه الدجاج مهما اختلط.

وكانت عملية تربيتهم شاقة في الشهر الأول إذ لم يكن من الممكن إطلاقهم من عششهم إلى منور البيت إلا في وجود جدتي تحمل في يدها عصًا غليظة تشوح بها يمنة ويسرة، لتخيف أعداء الكتاكيت من صقور وحدآت السماء وعِرس الشقوق في الأرض، وكانت تناديني لأقوم مقامها فى التشويح بالعصا، إذا قامت لبعض شؤونها.

وبعد تعب شهور يكبر الدجاج ويستطيع الهرب أو الدفاع عن نفسه في مواجهة الحدأة والعرسة، وتغتبط جدتي، وتفضل أن يكون عدد الديوك كبيرًا فالديوك هي المرشحة للذبح، حيث تبقى الدجاجات للبيض، وبالخبرة تعرف أن الدجاج لا يعرف الواحدية في الزواج، فلا يعقل أن يكون هناك ديك لكل دجاجة، وإنما ديك واحد يكفي سبع أو ثماني دجاجات، وعندما يحين وقت صنع الغداء تشير جدتي إلى ثلاثة ديوك لأمسكها وأعطيها لها لتذبحها، وكانت عملية الذبح ذات تقاليد مرعية، فينبغي أن يكون السكين حادًّا، حتى لا يعذب الطائر المذبوح، وينبغي تلاوة التشهد عليه، ولا يجوز ذبح دجاجة أو بطة ترعى أفراخها الصغار، ويقال إن الذابح لا بد أن يكون قد أخذ عهدًا بالذبح، وكنت ألاحظ ألم أمي بينما تذبح دجاجة قائلة «ربنا يصبرك»، وطبعًا لم نكن نرمي من تلك الدجاجة شيئًا، فكنا نأكل الأرجل والأجنحة والرقاب والرؤوس والكبدة والقونصة، حتى الأمعاء كان تفتح وتنظف ويربط بها رجل مع جناح لتصبح جزءًا معتبرًا من مناب طفل، وكان يوم السعد يوم أحصل على ورك كامل كمناب، ومع هذا كان الحظ يسعدنا بينما يحزن أمي وجدتي حزنًا شديدًا، عندما تصيب الدجاج «الفِرَّة أو الكوريرا»، وهما الوباء والكوليرا الذي يقتل الدجاج كله في ساعات أو نصف يوم، وهو شديد العدوى، فتضطر جدتي إلى ذبح الدجاج كله في دقائق، ولأنه لم يكن هناك كهرباء ولا ثلاجات وديب فريزر بالطبع، يصبح مناب الطفل منا ثلاث أو أربع دجاجات مرة واحدة، نضطر طبعًا إلى أكلها في يومين.

أما إذا نفذ الدجاج من الفِرة أو الوباء، فتبقى الأمهات لتبيض، ونحوشه للأكل، وبعد ذلك للتكاثر، بعد التأكد من أن البيضة ملقحة بوضعها أمام مصدر ضوء، حيث تنظر خبيرة ذات نظر حاد في داخل البيضة لتتأكد من أن ثمة حبة صغيرة قاتمة (البذرة) في جوفها، فتجنبها وتحفظها حتى تطلب إحدى الدجاجات الرقاد على البيض، فنضع تحتها نحو ثلاثين بيضة لتفقس كتاكيت رائعة بعد نحو ثلاث أسابيع، ولا يمكن أن أنسى مشاهد رعاية الأم الدجاجة لصغارها وإطعامها وتدفئتها والدفاع عنها ضد الخطر.

وتستمر دورة الحياة، ولو كان الأمر بيدي لجعلت ملاحظة مثل تلك المشاهد دروسًا أساسية للأطفال في المدرسة الابتدائية، ليدركوا معنى الحياة في أعمق تجلياتها، أما البط والإوز فكان قليلًا حيث إن نموه بطيء بالمقارنة بالدجاج، واحتياجات تربيته أصعب بكثير، إلا لمن كان بيته على ترعة أو قناة، فكان يكفيه إطلاق الإوز والبط على ضفافها ليجد طعامه وشرابه بسهولة ومن دون مجهود، وكانت بعض الأسر تطلق الإوز حرًّا أمام الدور وفوق الأسطح ليقوم بدور كلاب الحراسة، فهو يتوجس ممن يقترب ويصيح صيحات عالية مزعجة توقظ من كان يغط في سبات عميق، وهي مع هذا تعتبر من اللحوم الشهية والثرية في المواسم والأعياد، خاصة بعد أن تقوم الأم «بتزغيطها» قبل يوم ذبحها في الموسم بأسبوعين أو ثلاث، حتى تمتلئ بالشحم واللحم، وإذا زُغط ذكر من البط أاو الإوز فلا بد من أن تنتهي العملية بذبحه، إذا لا يمكن تركه بعد ذلك ليحيا حياة طبيعية، فعملية التزغيط تفسد قدرته على التقاط الطعام وبلعه، وعملية التزغيط نعرفها نحن المصريين جميعًا، بينما تعجز اللغة الإنجليزية عن صياغة مرادف لها، فعندما قرأت وصف عالم الآثار الأكبر «جاردنر» لها في مقبرة كاجمنى بسقارة، وصفها بقوله: «يقوم أحد الأفراد بتغذية الإوز "تغذية صناعية"». إذ لم تسعفه اللغة الإنجليزية بمرادف لتلك العملية.

أما الأرانب فعلى الرغم من أنها لو صحت تعطي إنتاجًا وفيًرا، فإنها حساسة لأي متغيرات في الطقس أو التغذية فتنفَق سريعًا، ويفسر القرويون ذلك بأنها قابلة للحسد بسرعة، وهي بوجه عام قليلة الانتشار في البيوت، فهي تحتاج رعاية دائمة، كما أن كثيرًا من الناس لا يفضلون لحومها، ويبقى الحمام، وهو أيضًا قليل، بالرغم من أن أكل «زغاليله» محشوة بالفريك، أو الأرز يعتبر من أشهى الأكلات، التي تصاغ القصص حول حاجة المتزوجين إليها مثل الكوارع، ولا ننسَ مشهد إمام في فيلم شباب امرأة عندما راودته شفاعات عن نفسه، وعندما أدركت أنه أصبح طيعًا في يدها، سألته: تاكل جمبري ولا حمام؟ فقال وهو يعلن استسلامه: خليها حمام بقى.

أما الرومي فرعايته أكثر كلفة وتعقيدًا، لذلك هو نادر التربية، وربما لا يذوقه الناس إلا في المناسبات المهمة، وعلى فترات متباعدة.

وقد كانت منتجاتنا من تلك الأنواع كلها من الدواجن منتجات بلدية أو محلية ذات تاريخ طويل يمتد لآلاف السنين حتى زمن الفراعنة، وقد عرف المصريون كيف يربونها ويرعونها ويكثرونها، ترتفع أسعارها أو تنخفض تبعًا للمواسم الزراعية ومتغيرات البيئة المحلية، ولكن مع الزيادات الكبيرة في السكان، وبالتالي زيادة الطلب على الدواجن، ومع غياب أي تصور حكومي لرعاية الثروة المحلية من الدواجن، وتذليل العقبات التي تعترض تربيتها، كدعم أعلافها ورعايتها الصحية المجانية، وتشجيع الأهالي على تربيتها، اقتحمت بلادنا «مفارخ الفراخ البيضاء»، والبط الأبيض، التي تُربى في صوب، ولا تأكل إلا العلف، وتظل أنوار تلك المفارخ مضاءة ليلًا ونهارًا، لتأكل الأفراخ ويزيد وزنها في خلال شهر واحد على كيلو ونصف، بينما لا يزيد وزن الفرخ البلدي الطبيعي فى هذا الشهر عن مئتي أو ثلاث مئة جرام، ولذلك تأتي لحوم الفراخ البيضاء والبط الأبيض في درجة ثانية، وأقل جودة وأردأ طعمًا، بعد لحوم الدواجن البلدية، وتظل أسعارها أقل منها.

منع اللحم في يومين

للحم أهمية قصوى كمصدر للطاقة وبناء الجسم، وهو مصدر رئيسي للبروتين الحيواني مع الدواجن والأسماك طبعًا، ويلعب دورًا محوريًّا في فكرة الحفاوة والتقدير، فالمواسم الدينية كعاشوراء والإسراء والمعراج، لا بد من الاستعداد لها بذكري بط أو إوز «مزغطين»، وهو أيضًا الوجبة المناسبة للوفاء بالنذر؛ قطعة لحم في رغيف، وما زلت أذكر المشهد الفريد في فيلم بداية ونهاية (إنتاج سنة 1960)، عندما أهدى فريد أفندي كتف خروف لأسرة حسنين –عمر الشريف– عربونًا لصداقة عميقة، بعد أن خطب «حسنين» (عمر الشريف) ابنتهم «بهية» (آمال فريد)، وتعليق «حسن» (فريد شوقي)، وهو يضع يده على كتف أخيه حسنين، قائلًا: وإيه يعنى هُمَّه ادونا كتف خروف وخدوا بداله خروف بحاله! ثم تعليقه الساخر على تدريس شخصية أبي العلاء المعري الذي كان نباتيًّا: «الحكومة بتكرهكوا في اللحمة علشان تاكلها هيَّه لوحدها».

لكل هذا كانت أسعار اللحوم مرتفعة نسبيًّا إذا قورنت بالخضار والفاكهة والنشويات، وكانت تلك الأسعار والسعي إلى عدم زيادتها، أو التحكم فيها، مؤشرًا على مدى اهتمام الحكومة بالشعب الذي لا غنى عن اللحم على مائدته أكثر من يوم في الأسبوع، وكانت الحروب والأزمات السياسية تلعب دورًا مهمًّا في زيادة أسعار اللحوم، التي أظن أن سعر الأقة منها (تعادل كيلو وربعًا) لم تتجاوز عشرة قروش في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، لتصل إلى نحو 16 قرشًا مع ثورة 1919، وتصل إلى عشرين قرشًا مع نهاية العشرينيات، ومع مطلع الخمسينيات تصل إلى خمسة وعشرين قرشًا، وفى نهاية الستينيات تصل إلى خمسين قرشًا.

وفي سنة 1942، ومع احتدام الحرب العالمية الثانية، وشدة طلب جيش الحلفاء الثامن الإنجليزي على اللحوم، ارتفعت أسعارها، واضطرت حكومة الوفد إلى إصدار قرار بمنع ذبح اللحوم ليومين في الأسبوع -وهو التقليد الذي ما زال ساريًا- لوقف زيادة أسعارها، وإجبار الناس على التفكير في بدائل أخرى كالدواجن والأسماك، وهنا كتب عبد الحميد الديب (1898-1943)، وهو شاعر فذ وصعلوك، سأفرد له مقالة في المستقبل:

كلوا الحكومة أو موتوا من الجوع

صوت الضعيف المُرجَّى غير مسموع

من حرموا اللحم في يومين هل علموا؟

أن ليس في حكمهم زين لتشريع

حكومة الفقر والأيام قبلهم

على الورى حرمته ألف أسبوع

ترى لو عاش عبد الحميد الديب ليرى أسعار اللحم في زمننا هذا، وقد بلغ الكيلو منها نحو خمس مئة جنيه.. ماذا كان سيكتب؟