غزة تقاوم

نيفين النصيري

إعادة تشكيل الواقع: الحياة في أعقاب السابع من أكتوبر

2024.01.21

تصوير آخرون

أستاذة الأدب في جامعة ويسكونسن-ماديسون
غزة تقاوم

إعادة تشكيل الواقع: الحياة في أعقاب السابع من أكتوبر

رؤية أستاذة مصرية في جامعة أمريكية لردود الأفعال على حرب غزة

شهد العالم الذي أعيش فيه تحولًا عميقًا في الأسابيع التي تلت ذلك اليوم المصيري (7 أكتوبر)، لا يتعلق الأمر فقط بأحداثه تحديدًا، بل بردود الفعل المذهلة من الحكومات والساسة ووسائل الإعلام، وحتى الأشخاص العاديين، التي تردد صداها عالميًّا. وقد أدى هذا الوضع المقلق إلى حدوث تباين كبير في السرديات، مما دفعنا إلى الاعتراف بالانقسامات المتزايدة في العالم.

من الضروري أن نبدأ بالتأكيد على أن ما شهده الإسرائيليون في السابع من أكتوبر هو صورة مصغرة للمعاناة اليومية التي كابدها الفلسطينيون على مدار  ستة وسبعين سنة، منذ إنشاء دولة إسرائيل في 14 مايو 1948. ويتجاوز ذلك ما يُشار إليه غالبًا باسم: "الصراع بين إسرائيل وحماس"؛ فهو ينطوي على تطهير عرقي معقَّد ومتشابك، ومنظَّم ومستمر، يؤثر على آلاف المدنيين العزل الذين يفتقرون إلى الحماية، بما في ذلك الرجال والنساء والأطفال. ويُعَد ذلك بمثابة انعكاس صارخ للمعايير المزدوجة، وجماعات الضغط القوية، والتفاعل بين المصالح الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية - السياسية، وكلها تساهم في استمرار الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير العقاب الجماعي الذي تفرضه إسرائيل -وهو انتهاك للقانون الدولي- والتطهير العرقي المستمر في غزة أو نظام الفصل العنصري المفروض على الفلسطينيين في إسرائيل والضفة الغربية. ولن يجلب هذا السعي المتواصل واللا إنساني نحو الحرب والاحتلال الأمن لإسرائيل، ولن يعيد الرهائن. وقد اعترفت "منظمة العفو الدولية" و"منظمة هيومان رايتس ووتش" بأن احتلال فلسطين ومعاملة الفلسطينيين داخل إسرائيل، يُعتبَران شكلًا من أشكال الفصل العنصري، وهي جريمة ضد الإنسانية، على النحو المحدد في الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها لعام 1973 "اتفاقية الفصل العنصري"، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 (ICC).

 

ومن الأهمية بمكان إعادة صياغة سياق الأحداث التي تتكشف بعد 7 أكتوبر، فبينما ينظر الكثيرون إلى ذلك اليوم باعتباره بداية الصراع، إلا أن هذه الرؤية تتجاهل بسهولة حقيقة أن العمليات العسكرية وعنف الدولة الإسرائيلية لم يبدأ في ذلك الوقت. بل إنه يمثل ردًّا عسكريًّا من قِبَل شعب عانى من الاحتلال على مدى عقود عديدة، علاوة على ذلك، فإن الحصار المستمر على غزة منذ عام 2007 والهجوم الإسرائيلي الكارثي الذي بدأ في السابع من أكتوبر، والذي شمل الآلاف من عمليات القصف الجوي، قد تسببا في خسائر فادحة. حتى هذه اللحظة، فقَدَ أكثر من ٢٣.٥٠٠ فلسطيني بريء حياتهم، نصفهم من الأطفال، وأصيب أكثر من 57000 آخرين، وتعرضت البنية التحتية الأساسية والمرافق الطبية والمساجد ومرافق المياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين والنازحين، لتدمير شامل. ويواجه 2.2 مليون فلسطيني الحرمان من المياه والدواء والوقود والكهرباء والمياه النظيفة والوصول إلى الإنترنت في الوقت الحالي، مما يؤدي إلى أزمة إنسانية مروِّعة.

لا يُجرِّد الدعم الأحادي والمتحيز من جانب المؤيدين لإسرائيل الفلسطينيين من إنسانيتهم فحسب، بل يحمي إسرائيل أيضًا من المُساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان. ومن الضروري أن تتم معالجة الوضع من خلال منظور شامل وغير منحاز لتعزيز التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع.

منذ يوم السبت 7 أكتوبر، شهد العالم تحولًا عميقًا. وبينما يبدو الأمر وكأن إسرائيل تستهدف قيادات "حماس" العسكرية، فإن هناك جهودًا متزامنة لإظهار القوة العسكرية الإسرائيلية وكأنها قوة لا تُقهَر، وتصوير أنفسهم كضحايا يتعرضون للهجوم بسبب إنسانيتهم، وهويتهم اليهودية، وديمقراطيتهم. وعلى الجانب الآخر، وفي خضم الأحداث المأساوية في غزة، لم يتم اتخاذ أي إجراء ملموس للاستجابة إلى الدعوات العاجلة لتحقيق العدالة، والوقف الفوري لإطلاق النار، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الإنسانية ما عدا دولة جنوب افريقيا والتي مؤخراً قدمت دعوى قضائية من 84 صفحة إلى محكمة العدل الدولية تتهم فيها دولة إسرائيل، في ردها على هجوم حماس، بارتكاب جرائم إبادة جماعية. ومن شأن غياب التحرك أن ينبئنا بالكثير عن طبيعة الوضع الحالي.

 

ونظرًا لتشابك هذه الاضطرابات الإنسانية والجيوسياسية المعقدة، والتي تتجاوز ما هو أبعد من نطاق هذه الصفحات وحتى إدراكي الشخصي، فسوف أركز فقط على كيفية تغير العالم، أو بشكل أكثر دقة، كيف تغير عالمي من حولي منذ 7 أكتوبر 2023.

دعوني أبدأ بتسليط الضوء بإيجاز على التحولات في مواقف الحكومة الأمريكية والساسة، ووسائل الإعلام، والجمهور الأمريكي فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وبعد ذلك سوف أتطرق إلى المواقف المنقسمة داخل الجامعات، وأتفحص التغييرات التي طرأت على ما حولي.

في أعقاب الهجوم الذي شنته "حماس"، كان هناك إجماع رسمي على التعاطف والدعم لإسرائيل من الولايات المتحدة، وهو ما عبر عنه البيت الأبيض والكونغرس بشكل قاطع. وتردد صدى هذا الدعم القوي في جميع أنحاء المجتمع الأمريكي، حيث صدرت بيانات مؤسسية تعبر عن التضامن مع إسرائيل، وإدانة الهجوم باعتباره عملًا إرهابيًّا. ولسوء الحظ، فقد تجاهلت غالبية هذه التصريحات الوضع المتردي الذي واجهه الفلسطينيون في غزة في كل دقيقة خلال الـ42 يومًا الماضية.

 

منذ هجوم "حماس" في 7 أكتوبر، ركز خطاب بايدن باستمرار على دعم إسرائيل، وضمان أن لديها كل ما تحتاجه للدفاع عن نفسها ضد "حماس"، التي تصنفها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون على أنها جماعة "إرهابية"، وقد تم التأكيد على هذا الدعم في طلب المساعدات العاجلة الإضافية التي قدمها بايدن بقيمة 14.5 مليار دولار؛ لتوفير المساعدات العسكرية والإنسانية لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، فقد أكدت كاميلا هاريس نائبة الرئيس، مؤخرًا، على الدعم غير المشروط لإسرائيل. وتجدر الإشارة إلى أن النائبة رشيدة طليب - وهي الفلسطينية/ الأمريكية الوحيدة في الكونجرس - واجهت انتقادات بسبب تصريحاتها حول الحرب بين إسرائيل وغزة، وخاصة دفاعها عن شعار "من النهر إلى البحر" المؤيد للفلسطينيين. وعلى الرغم من تفسير رشيدة طليب للشعار على أنه دعوة طموحة للحرية والتعايش السلمي، فإن اللغة اللا إنسانية التي يستخدمها المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون، والتي تشبِّه جميع الفلسطينيين بالنازيين وبـ"الحيوانات البشرية"، لا تزال متواصلة دون رادع.

 

ويظل الرأي العام بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منقسمًا على أسس حزبية، مع ميل أغلبية متزايدة من الجمهوريين نحو إسرائيل، في حين تفضل أغلبية متضائلة من الديمقراطيين أن تحافظ الولايات المتحدة على موقف محايد. ومن الأهمية بمكان أن تعمل حكومة الولايات المتحدة على محاسبة إسرائيل بشكل فَعَّال على انتهاكاتها ضد حقوق الإنسان للفلسطينيين. كثيرًا ما تُكرر وسائل الإعلام الرئيسة مزاعم ضارة وغير مدعومة بأدلة ضد العرب والمسلمين، دون أن تتعرض للانتقاد، في حين أنها تدافع - دون أدنى شك - عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، حتى حين تؤدي هذه الإجراءات إلى خسائر فادحة بين المدنيين العزل، وإلى أضرار جسيمة في قطاع غزة!

 

وقد شهد الرأي العام الأمريكي مناقشات بشأن الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني المستمر منذ 75 عامًا والنكبة. ومع ذلك، فقد تصاعدت شيطنة الأصوات المؤيدة للفلسطينيين بشكل حادٍّ، خاصة تلك الصادرة عن المسلمين والعرب، ويتم استخدام الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية كسلاح لإسكات وتشويه سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطينية؛ مما يؤدي إلى زيادة اعتداءات وممارسات الصهيونيين والمعادين للإسلام. 

وعلى الرغم من تفهم وتعاطف أناس ينتمون إلى جميع الأديان والأعراق مع المحنة التاريخية للفلسطينيين، فإن التحيز المؤيد لإسرائيل يبدو جليًّا بشكل ملحوظ في تأجيج كراهية الإسلام؛ وذلك لدعم الادعاءات الكاذبة بمعاداة السامية. وقد استخدم اللوبي الإسرائيلي ومؤيدوه الصهيونيون هذه الادعاءات؛ لتشويه وإسكات منتقدي التطهير العرقي والفصل العنصري الإسرائيلي. ومن المرجَّح أن تتصاعد المواقف العامة، ومع توسيع نطاق الحرب في غزة، ازدادت انتقادات الإجراءات الإسرائيلية، خاصة في الأسابيع الأخيرة. ومع ذلك - وفي الوقت نفسه - تصاعدت المشاعر المعادية للفلسطينيين وللعرب وأعمال العنف والإسلاموفوبيا. لقد سببت الاضطرابات المتواصلة موجاتٍ صادمةً في الجامعات الأمريكية؛ مما يشكل تحديًا لدورها كمَعْقِل للتفكير النقدي ووجهات النظر المتنوعة. يواجه كبار الموظفين الإداريين ضغوطًا غير مسبوقة من الجهات المانحة المؤثرة والخريجين الأثرياء لدعم إسرائيل بشكل لا لبس فيه، وغالبًا ما يكون ذلك بذريعة حماية الطلبة اليهود؛ مما يوصف خطأً بمعاداة السامية. وكانت الاحتجاجات التي نظمها النشطاء المؤيدون للفلسطينيين، والتي سلطت الضوء على الخسائر في الأرواح الناجمة عن الحرب العدوانية لإسرائيل، سببًا في تكثيف المناقشات حول أسباب الصراع، والموقف المناسب الذي يجب أن تتخذه الولايات المتحدة.

تُعَد الدعوة إلى وقف إطلاق النار الآن بمثابة إهانة لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وبمثابة انحياز للإرهاب. وتُحقِّق العديد من الجامعات مع مجموعات طلابية مؤيدة للفلسطينيين بتهمة "الدعم المادي للإرهابيين"، دون وجود ما يثبت ذلك من أدلة، ويتم تصنيف الطلبة الذين يعبِّرون عن تضامنهم مع فلسطين، أو يدينون الفظائع في غزة، أو ينتقدون تصرفات إسرائيل ضد المدنيين، يتم تصنيفهم ظلمًا على أنهم معادون للسامية، ويواجهون التشهير العدواني والتشهير العام والمراقبة من قبل زملائهم الطلبة وحتى أصحاب العمل. لقد أصبحت هذه الأشكال المثيرة للقلق من المضايقات، ومحاولات خنق حرية التعبير المصونة في الحرم الجامعي أكثر وضوحًا بعد 7 أكتوبر 2023، وبينما تعمل الرابطة الوطنية للمحامين المسلمين (NAML) بجد لدعم طلاب الحقوق والمحامين الشباب الذين تأثرت حياتهم المهنية بالتحديات المختلفة، مثل: التحقيقات وإلغاء عروض العمل، فقد أرسل العديد من مكاتب المحاماة الشهيرة خطابات إلى عمداء كليات الحقوق؛ للتعبير عن مخاوفهم بشأن ما يعتبرونه زيادة في معاداة السامية في كليات الحقوق.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطابات لا تقر بالمضايقات وممارسات التشهير والترهيب، التي يواجهها الطلاب الفلسطينيون والمسلمون الذين يدافعون عن حقوق الإنسان للفلسطينيين. وقد قامت جامعة كولومبيا بخطوة متحيزة جدًّا ضد هؤلاء الطلاب، وذلك بتعليق عضوية جماعتي: "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" (SJP)، ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" (JVP)، كجماعات طلابية رسمية حتى نهاية فصل الخريف. ومن شأن هذا التعليق أن يجعل هذه المجموعات غير مؤهلة لتنظيم الأحداث في الحرم الجامعي، أو تلقي تمويل من الجامعة. لم يكن الهجوم على حرية التعبير في الجامعات الأمريكية شرسًا كما أصبح عليه الحال بعد 7 أكتوبر؛ إذ أصبح الحفاظ على الحرية الأكاديمية وحقوق حرية التعبير داخل تلك الجامعات الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى.

 

أما بالنسبة لمسيرتي الشخصية، فقد أدت الأسابيع التي تلت الأحداث المؤلمة في غزة، إلى تحول عميق في وجهة نظري بشأن الحياة والعالم، لقد تغلغلت موجات الصدمة الناجمة عن التطهير العرقي لآلاف الفلسطينيين في وجودي، وأعادت تشكيل تصوراتي بطرق غير متوقعة، لقد أصابتني كمية الجهل والصمت واللا مبالاة بالصدمة والغضب، وحتى ضمن مشاعر التعبير عن القلق من الأصدقاء والزملاء الليبراليين البيض ذوي النوايا الحسنة، فقد واجهت ميلًا بينهم للتدخل، مدفوعًا على ما يبدو بالرغبة في الحياد والحزن المشترك على الإسرائيليين الذين فقدوا حياتهم في 7 أكتوبر.

وقد حثني هذا الأمر على كتابة مقال رأي في صحيفتين محليتين؛ لأخاطب فيه هؤلاء الأصدقاء، ولأقدم شرحًا موجزًا للإبادة الجماعية والقمع الذي تعرض له الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي منذ 75 عامًا.

في مقالتي القصيرة هذه، أكدت على أن أحداث 7 أكتوبر هي نتيجة مباشرة لمنظومة استعمارية قمعية طويلة الأمد، فرضها نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ولم تستهدف هذه المنظومة الفلسطينيين في غزة فقط، بل استهدفت سكان الضفة الغربية أيضًا، ومواطني إسرائيل من الفلسطينيين، والفلسطينيين في الشتات حول العالم.

هذه الحقائق المروعة موثقة بشكل جيد، ومحفوظة، وبالتالي لا جدال فيها. في حين أنني تلقيت ردًّا إيجابيًّا للغاية من أحد القراء، الذي عبر عن امتنانه لشجاعتي في التعبير بجرأة عن وجهة نظري؛ فقد كان هناك أيضًا ردٌّ عدائيٌّ من قارئ آخر، فقد اتهمني هذا الشخص بدعم الإرهاب، وحاول تشويه دوري كأستاذة جامعية، بل وذكر تقديم شكاوى ضدي إلى "فيسبوك" و"رابطة مكافحة التشهير" ورئيس الجامعة التي أعمل بها. وعلى الرغم من الطبيعة المقلقة لردود الفعل هذه، فإنني توقعت مثل ذلك وما زلت مصرة على التزامي بالتعبير عن الحقائق المهمة.

في الختام: أود أن أعرض قصتين، الأولى: عن صديقة يهودية أمريكية عزيزة جدًّا، والثانية: تخص إحدى طالباتي:

تسيلا هي صديقة يهودية أمريكية، وناشطة مناصرة لفلسطين منذ عام 1985، زارت غزة وشاركتني دوافعها. هي تشعر بمسؤولية أخلاقية، باعتبارها يهودية؛ للتحدث علنًا ضد القمع الإسرائيلي للفلسطينيين؛ إذ تقوم إسرائيل بذلك باسمها. وعلى الرغم من مشاهدتها لممارسات وحشية من قبل، تشير تسيلا إلى أنه منذ 7 أكتوبر، وصل مستوى العنف ضد غزة إلى أبعاد مفرطة، لقد أذهلتها القسوة التي أظهرها المشاركون في هذه الممارسات، وعَزَتْها إلى التلقين الذي يشجع العنصرية ضد الفلسطينيين، بدءًا من القادة السياسيين، إلى الجنود الذين ينفذون الأوامر، وحتى إلى التجمعات الأمريكية واليهودية المحيطة بها. تشعر تسيلا بالفزع من صمت الكثيرين، الذي تعتبره نوعًا من التواطؤ، وتعتقد أن التاريخ لن يحكم على إسرائيل أو الولايات المتحدة بشكل إيجابي؛ بسبب تواطؤ كل منهما في هذه الإبادة الجماعية.

جاءت غيداء، وهي إحدى طالباتي، إلى مكتبي مؤخرًا وأعربت عن ألمها كامرأة مسلمة من شمال إفريقيا، لقد كان الشهر الماضي خطرًا بالنسبة لها؛ فهي لم تكن مسلمة بشكل واضح بحجابها فحسب، بل كانت أيضًا ضعيفة في جامعة بها العديد من الصهيونيين، لقد شعرت بعدم الأمان للمرة الأولى، وتساءلت عن افتقار الجامعة إلى الحماية أثناء الإبادة الجماعية في غزة. تمثلت إحدى الحوادث المؤلمة في رجل أبيض يحمل مضرب بيسبول، ألقى به عليها قبل دخول المتجر، دون أن يتدخل أحد من المارة!

هذه الحادثة جعلتها تدرك تمامًا أنها أصبحت الآن هدفًا للاعتداء.

كانت هناك لحظة مزعجة أخرى، وذلك عندما بدأ أستاذها، الذي كان يساعدها من قبل، ينظر لها نظراتٍ غير مريحة، حتى إنه افترض أنها فلسطينية على الرغم من تذكيرها المتعدِّد له بـ"أنها ليست فلسطينية"، لاحظت غيداء تحولًا كبيرًا في الطريقة التي يتم التعامل بها مع المسلمين والعرب والفلسطينيين؛ فهم يعامَلون معاملة سيئة منذ 7 أكتوبر، وتتساءل: متى ستشعر بالأمان الحقيقي في الحرم الجامعي على الرغم من التعليم الذي يُفترَض أنه يعزز التفاهم؟

تسلط القصتان الضوء على الموقف السلبي والعدائي تجاه القضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، تؤكدان على الحاجة الملِحَّة  لتسليط الضوء علي التجارب المعيشية الشخصية، ووجهات النظر للجماعات الأمريكية - الفلسطينية والعربية والمسلمة.

وسط هذه الاضطرابات، ظهر بصيص من الأمل على مستوي حياتي المهنية وذلك من خلال كورس جامعي قمت بتدريسه هذه السنة حول "نساء متمردات من الجنوب ". درسنا في هذا الكورس آثار الاستعمار والإمبريالية الجديدة والعولمة الرأسمالية واليات القوي غير المتوازنة بين الشمال والجنوب على الجماعات المهمشة من خلال الفنون المختلفة مثل الأدب والسينما.

في نهاية الفصل الدراسي، طلبت من الطلاب أن يكتبوا تقييم عام عن أهم ما تعلموه. وكانت ردود الطلاب إيجابية بالإجماع. فأعربت إحدى الطالبات قائلة: "لقد ساعدني هذا الصف على تطوير فهمي للصراع التقاطعي  (intersectional)بين الحركة النسوية والاستعمار في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى ذلك، فهمت بشكل أعمق تقنيات التحرر التي يقدمها سينما العالم الثالث (Third World Cinema (من خلال الفيلم الفلسطيني ملح هذا البحر لآن ماري جاسر، والذي يرصد مدى القمع يعيشه الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.. كتب طالب آخر: “يمثل هذا الفصل لقائي الأول مع تاريخ الاستعمار الفرنسي والسياق الأوسع للاستعمار. أحد الجوانب التي تركت انطباعًا دائمًا في نفسي هو فيلم صمت القصور للمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي. لقد كانت الصدمة الثقافية التي مررت بها مثيرة لي، وذلك نظراً لثقافتي المختلفة، ولكنها متشابهة إلى حد ما. حددت أوجه التشابه بين الفيلم وتربيتي في مجتمع يفضل الأبناء الذكور، مما استحضر ذكريات طفولتي. كانت جدتي امرأة صينية تقليدية وكانت تؤمن بأن الأولاد أفضل من البنات، وأن النساء أقل مكانة من الرجال. لذلك أرفق الكثير من التجارب العاطفية الشخصية عندما كنت أشاهد هذا الفيلم.

وقال طالب آخر: "لقد ألهمني هذا الفصل تغيير نظرتي الغربية الاستشراقية وأحكامي الشخصية عن الثقافات الأخرى، فقبل هذا الصف لم أكن مدركا بمدي رسوخ عدسة الاستشراق في ثقافتنا. أتذكر كتابة مقالتي الأولى للصف ثم تشغيل التلفزيون مباشرة بعد ذلك لأرى بداية الحرب الإسرائيلية الفلسطينية. شعرت بأنني أكثر ارتباطًا وتعلمًا بشأن هذه المأساة. وأخيرًا طالبة اخري كتبت "لقد ألهمني هذا الفصل كثيرًا وأشعر بأنني مرتبط جدًا بجزء من العالم كان يبدو غريبًا وغير قابل للتواصل قبل أن أبدأ رحلتي في هذا الفصل. لدي الكثير من المساحة والتعاطف مع أي شخص متنوع ويشرفني أن تتعلم الكثير من الحقائق ووجهات النظر الخاصة بالشرق الاوسط، أشكرك على وجودك معي في هذه الرحلة."

تسلط ملاحظات الطلاب الضوء على التأثير الإيجابي عندما يتوفر مساحة من الحوار حيث يمكن تبادل الأفكار ومناقشتها وحتى الاصطدام بها.

وبما أن المأزق الإسرائيلي الفلسطيني غير متوازن إلى حد كبير ويتحدى العقل والمنطق، فإنه يتطلب المزيد من التثقيف، والمناصرة، وفي الأساس، المطالبة بالعدالة، والوقف الفوري لإطلاق النار، والمساءلة عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية. علاوة على ذلك، من المهم توضيح أن هذا ليس مجرد صراع بين إسرائيل وحماس؛ إنها تطهير عرقي للفلسطينيين دام 75 عامًا نفذته آلة الحرب الاستعمارية الإسرائيلية. تؤكد هذه القصص على الحاجة الملحة إلى الوعي بالتجارب الحياتية وتحدي الروايات السائدة التي ينشرها الإعلام. ويتحمل المجتمع العالمي، بل وكل فرد مسؤولية مشتركة لمعالجة التداعيات الإنسانية والعمل على إيجاد حل مستدام.