غزة تقاوم

محمود هدهود

مولد المقاومة المسلحة في قطاع غزة - الجزء الأول

2023.12.12

غزة تقاوم

مولد المقاومة المسلحة في قطاع غزة - الجزء الأول

في ٢٩ أبريل ١٩٥٦ قُتل شاب إسرائيلي من كيبوتس ناحل عوز في غلاف غزة على يد متسللين عرب من داخل القطاع، في اليوم التالي ألقى موشي ديان قائد الجيش الإسرائيلي خطابًا على قبره قال فيه: "فلنتوقف عن كيل الاتهامات للقتلة، وهل يحق لنا أن نورد ادعاءات ضد كراهيتهم الشديدة لنا؟ إنهم يجلسون منذ ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم نرث أراضيهم وقراهم التي عاشوا فيها وعاش فيها آباؤهم... كيف أغلقنا عيوننا عن النظر بوضوح في مصيرنا، وعن رؤية رسالة جيلنا بكل قساوتها؟ هل نسينا أن مجموعة الشباب هذه في ناحل عوز تحمل على أكتافها أبواب غزة الثقيلة، ومن وراء البوابات مئات آلاف العيون والأيادي التي تصلي لكي يحل بنا كل سوء، ولكي يقطعونا إربًا، هل نسينا ذلك؟" تبدو كلمات ديان بعد السابع من أكتوبر نبوئية جدًّا، فالمخيمات ضربت الكبوتس بزخم ثلاثة أرباع قرن من الألم، لكن المستوطن المقاتل الذي كان يرى بعين واحدة جانَبَه الصواب حين افترض أن الصراع هو صراع جيله فحسب، وأن أجيالًا تالية ستنسى. ربما نسيت أجيال إسرائيلية بعد ديان بالفعل، ودفعوا ثمن نسيانهم صفعة قاسية في السابع من أكتوبر، لكن أجيالًا من أبناء المخيمات لم تنسَ قط.

للسابع من أكتوبر وجهان: وجه العملية العسكرية التي تتبارى الأقلام اليوم وستظل كذلك زمنًا طويلًا في مراجعتها ونقدها، وطرح تساؤلات طويلة حول أبعادها الاستراتيجية. ووجه آخر: هو وجه ثورة المقاوم الفلسطيني، الذي يبدو معه السابع من أكتوبر كحدث فريد لعبت الإرادة الإنسانية فيه دورًا يفوق كثيرًا معطيات السياق التاريخي ويتعالى عليها، وهو بهذا المعنى ثورة لا يمكن تقريرها في لحظة ما، أو منعها، أو تأجيلها، أو القول بأنها جاءت في غير موعدها إلا على سبيل المجاز؛ فالثورة تحدث ولا تخطط، والحدث يكون ولا يُصنَع كما يقول آلان باديو، والسابع من أكتوبر هو ثورة، يجب السعي إلى فهم المخاض التاريخي الذي أنجب أصحابها.

من هنا يأتي هذا النص، محاولة لفهم الطريق إلى ٧ أكتوبر عبر قراءة تاريخ صناعته كلحظة ثورية تحمل طاقة تحررية هائلة هي بالضبط ما يجب التقاطه من هذا اليوم والاندفاع في زخمه، أو الإخلاص إليه بتعبير باديو كذلك.

 المخيم: الجذور الاجتماعية للمقاومة المسلحة:

 استقبلت غزة بعد النكبة الفلسطينية سنة ١٩٤٨ عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، وكانوا من سكان جنوب الساحل الفلسطيني من يافا إلى عسقلان الذي تأسست عليه إسرائيل، وقامت العصابات الصهيونية بتهجيرهم ضمن الخطة الإسرائيلية لتهجير العرب أو إبادتهم. أقام اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات للاجئين على طول قطاع غزة؛ كمخيمات جباليا والشاطئ والبريج والنصيرات وخان يونس ومخيمات رفح، وعاش هؤلاء اللاجئون ظروفًا قاسية جدًّا لم تكن تعود فحسب إلى الفقر الشديد وفقدان مصادر العيش الذي عاناه هؤلاء اللاجئون، ولكن إلى الألم النفسي المرتبط بالاقتلاع من الأرض، وافتقاد الأمان، وخسارة الحياة الكريمة بشكل مفاجئ، فضلًا عن خسارة آلاف القتلى من الأقارب والأصدقاء على يد العصابات الصهيونية، وقد حافظت إسرائيل، مع ذلك على مدى السنوات التالية، على حيوية ذاكرة الجريمة الإسرائيلية في أذهان هؤلاء اللاجئين عبر غارات إسرائيلية متكررة على القطاع، انتهت إلى احتلاله عام ١٩٥٦ في إطار العدوان الثلاثي على مصر، وهو احتلال قامت خلاله إسرائيل بعدد من المذابح في خان يونس ورفح فضلًا عن الاعتقال والتعذيب.

شكَّلَت غزة لذلك بيئة حاضنة للعمل المقاوم، ودعم ذلك السياق السياسي الذي أدى إلى خضوع غزة للإدارة المصرية التي شجعت العمل الفدائي في القطاع في أوائل الخمسينيات وأشرفت عليه عبر ضباطها؛ كالضابط مصطفى حافظ الذي قتلته المخابرات الإسرائيلية عام ١٩٥٦، أدى ارتباط غزة بمصر كذلك إلى نشاط الإخوان المسلمين في القطاع، وانتقال أفكارهم إلى كثير من الطلاب في غزة الذين كانوا يدرسون في الجامعات المصرية، وقد شجع الإخوان المسلمون في ذلك الوقت على العمل العسكري ضد إسرائيل باعتباره جهادًا واجبًا، وجعل ذلك من غزة أرض الميلاد للكفاح المسلح الفلسطيني، ليس فقط في اتجاهاته الإسلامية، ولكن أيضًا في اتجاهه الوطني، فقد بدأ مؤسِّسَا حركة فتح: صلاح خلف، وخليل الوزير نشاطهما الوطني من القطاع؛ إذ كان الأول ممن هُجِّروا من يافا إلى غزة، أما الثاني فقد هُجِّر من الرملة وسكن مخيم البريج في وسط قطاع غزة .

تعود أصول المقاومة المسلحة في غزة اليوم إلى البيئة نفسها، فمنذ السبعينيات أخذ عدد من الشباب الذين تعود جذورهم إلى مخيمات اللاجئين في غزة؛ كأحمد ياسين الذي تعود أصوله إلى المجدل بينما انتقل بعد النكبة إلى مخيم الشاطئ، وعبد الرحمن تمراز الذي تعود أصوله إلى أسدود بينما نشأ في مخيم جباليا، وإبراهيم المقادمة الذي تعود أصوله إلى بيت دارس بينما نشأ في مخيم جباليا كذلك. كان هؤلاء الشباب في ذلك الوقت ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين تمامًا كما كان عدد من كوادر حركة فتح كما سبق أن أشرنا، لكن اللافت هو أن اتجاه هؤلاء كاتجاه سابقيهم إلى العمل المقاوم لم يرتبط بتوجيهات التنظيم، بقدر ما ارتبط بمبادرتهم للعمل المقاوم حتى وإن كان هذا خارج التوجيهات التنظيمية؛ لذلك فإننا لا نتعرض هنا إلى تطور عمل الإخوان المسلمين في الخارج، الذين شكلوا تنظيم حماس في الخارج، نظرًا إلى أن العمل المقاوم في غزة، ورغم مركزية دعم الخارج في تطوره، حظي دومًا بنوع من الاستقلالية في العمل.

 مركزية العمل الأمني والاستخباراتي:

 حاول ياسين وتمراز والمقادمة تشكيل نواة للعمل المقاوم المسلح بين عامي ١٩٨٢ و١٩٨٤، لكن محاولتهم لجمع السلاح تلقت ضربة سريعة من الأجهزة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي انتهت باعتقال الشيخ أحمد ياسين، وهو ما نبه المجموعة إلى مركزية العمل الأمني من أجل عمل عسكري مستدام، وقد أدى ذلك إلى تأسيس «منظمة الجهاد والدعوة» (مجد) لتولي مهمة حماية العمل المقاوم من الناحية الأمنية، وتولى تلك المهمة شابان في مطلع العشرينيات من عمرهما؛ وهما: يحيى السنوار، وروحي مشتهى. ارتبط صعود هذين الشابين بنشأة أول جامعة في قطاع غزة، وهي الجامعة الإسلامية التي تأسست سنة ١٩٧٨، مما أدى إلى تشكل حركة طلابية خرج منها هذان الشابان، فقد كان السنوار قبل تخرجه رئيسًا لمجلس طلاب الجامعة، وكان هو أيضًا ابن تجربة اللجوء وبيئة المخيم، فقد نشأ في مخيم خان يونس بينما تعود أصوله إلى المجدل، وسيكون لعودة السنوار ومشتهى إلى قيادة العمل المقاوم في غزة آثار مهمة كما سيرد لاحقًا .

امتاز العمل الأمني لتلك المجموعة، رغم بدائيته، بمحاولة السير على منهج علمي في بناء التنظيم واكتساب الخبرات، ويظهر ذلك في العمل السريع على إنتاج أدبيات أمنية بهدف توثيق وتطوير العمل وتحويله إلى عمل منهجي صارم، وكان من بين الكتب التي أصدرتها تلك المجموعة كتاب «صراع الأدمغة» و«المجاهد في التحقيق والتعذيب»، لكن المنظمة سرعان ما تعرضت للملاحقة مع اندلاع الانتفاضة الأولى وبدء العمل العسكري. تولى العمل العسكري في ذلك الوقت صلاح شحادة، وهو أيضًا من أبناء مخيم الشاطئ بينما تعود أصوله إلى يافا، أسس شحادة التنظيم العسكري للمقاومة في غزة التي أطلقت على نفسها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكان اسمه في ذلك الوقت «المجاهدون الفلسطينيون» سنة ١٩٨٨، لكن سرعان ما تعرض التنظيم للتفكيك بعد اعتقال شحادة من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي.

لذلك أُعيدَ تأسيس التنظيم سنة ١٩٩١ باسمه الحالي، وهو «كتائب الشهيد عز الدين القسام» تحت رعاية بشير حماد، وقد جرى تأسيس فرع للتنظيم في الضفة عبر صالح العاروري وزاهر جبارين وعادل عوض الله وإبراهيم حامد، لكن الكتائب لم تمثل في ذلك الوقت أكثر من خلايا تقوم بهجمات فردية سواء في القطاع أو الضفة الغربية، وقد لعب عماد عقل في غزة ويحيى عياش (المهندس) في الضفة الغربية الدور المحوري في خلال فترة التسعينيات في تخطيط وتنفيذ تلك الهجمات حتى مقتل الأول عام ١٩٩٣ والثاني عام ١٩٩٦.

ورغم بعض الإخفاقات التي تعرض لها العمل المقاوم في غزة من الناحية الأمنية نظرًا للانكشاف أمام الإمكانات الإسرائيلية الهائلة، فإن المقاومة حققت انتصارات أمنية واستخباراتية تعد ذات قيمة هائلة نظرًا لتواضع إمكانياتها، فقد ركز العمل الأمني في المرحلة الأولى من تاريخ المقاومة على مكافحة العملاء، ومحاولات الاختراق، وتأمين عناصر المقاومة وتحركاتهم، وهي المهمة الأساسية للأجهزة الأمنية للمقاومة إلى اليوم، لكن في إطار الانتفاضة الثانية تطورت مهمة أخرى وهي الاختراق المضاد الذي تقوم به المقاومة عبر عملاء مزدوجين، أو عبر تسريب معلومات لعملاء مكشوفين، ونجحت بناءً على ذلك في القيام بعمليات اعتمدت على استدراج قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ من أبرزها عملية السهم الثاقب عام ٢٠٠٤؛ إذ استدرجت المقاومة قوة من الأمن الداخلي الإسرائيلي وأوقعت بهم على حدود غزة.

مع استقرار المقاومة في قطاع غزة عقب الانسحاب الأحادي لإسرائيل (خطة فك الارتباط عام ٢٠٠٥)، بدأت المقاومة تطور عمليات الرصد والاستطلاع لديها، وقد عبر عن ذلك قائد كتيبة ٤١٤ للاستخبارات القتالية الإسرائيلية في ٢٠١٣ في مقابلة مع جيروزاليم بوست: «إننا نراهم وهم يراقبوننا، نحن بلا شك أقوى منهم في هذا المجال (الاستخبارات)، لكنهم منافسون». يمكن القول أنه بحلول ٢٠١٤ كان قد تشكل لدى المقاومة جهاز استخباري متكامل يقوم بعمليات المكافحة والأمن، وفي نفس الوقت بعمليات المراقبة والرصد والاستطلاع، وصولًا إلى تجنيد العملاء والاختراق المضاد والاستخبارات السيبرية التي يعود الفضل في تأسيسها لدى المقاومة إلى جمعة الطحلة الذي تعود أصوله إلى أسرة عملت في الجهاز الأمني للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكن الطحلة خرج عن الخط الأيديولوجي لأسرته في إطار الصحوة الإسلامية في الثمانينيات، وقام بجولة حصد فيها خبرات أمنية جديدة تُوِّجت بدراسته الهندسة المدنية عن بُعد في إحدى الجامعات الأمريكية، وعاد الطحلة إلى غزة بعد ثورة يناير ٢٠١١ للإشراف على تأسيس وحدة الاستخبارات السيبرية لكتائب القسام.

 

 

 الخيال وحلم الجيش الصغير:

 كان محمد دياب إبراهيم المصري، الذي يُعرَف حاليًّا بمحمد الضيف، أحد أبناء مخيمات غزة كذلك، فقد نشأ في مخيم خان يونس لأسرة تعود أصولها إلى قرية تقع بالقرب من قطاع غزة هجرها أهلها خلال النكبة، وتحديدًا في إطار عملية يؤاف التي نفذها الجيش الصهيوني لاحتلال النقب وإبعاد الجيش المصري في ذلك الوقت. درس محمد الضيف البيولوجيا في الجامعة الإسلامية، وكان عضوًا في الفرقة المسرحية للجامعة، وجزءًا من المجموعة الأولى للعمل المقاوم في غزة مع صلاح شحادة الذي اعتُقِل معه الضيف، لكنه سرعان ما خرج، بينما امتد اعتقال شحادة وتعذيبه لأكثر من عشر سنوات.

كان الضيف على ما يبدو يمتلك حلمًا للعمل المسلح الفلسطيني في قطاع غزة يتجاوز خلايا الهجمات الفردية، التي اعتمد العمل بها عماد عقل ويحيى عياش وغيرهما من قادة الكتائب في التسعينيات كحسن سلامة ومحمود أبو الهنود، ولا ندري إلى أي مدى كان هذا التصور قائمًا لدى المجموعة الأولى للعمل المقاوم المسلح كصلاح شحادة وإبراهيم مقادمة، فضلًا عن قائد المجموعة أحمد ياسين، لكن الضيف سيتبنى بوضوح تحويل الكتائب في غزة على الأقل إلى قوة قتالية منظمة، وليس خلايا للعمل الفدائي.

في ذلك الوقت حدث تغير مهم؛ هو عودة عدنان الغول من الخارج. الغول هو أحد أبناء مخيم الشاطئ، ترك القطاع في أواخر السبعينيات إلى إسبانيا لدراسة الكيمياء، لكنه سرعان ما غادرها إلى مصر، والتحق هناك بجماعة الجهاد الإسلامي قبل أن يعود إلى قطاع غزة. في مطلع الانتفاضة، هرب الغول مرة أخرى بعد أن أصبح ملاحَقًا إلى مصر، وانتقل من مصر إلى السودان التي كانت في ذلك الوقت ملجأً لعدد كبير من النشطاء الإسلاميين في العمل المسلح، ومن السودان انتقل الغول إلى سوريا وإيران، قبل أن يعود إلى غزة سنة ١٩٩٤. عودة الغول تلك المرة لم تكن عادية، فالكيميائي الذي لم يكمل دراسته الجامعية أكمل خبرة هائلة في مجال التصنيع العسكري، فعاد إلى غزة عارضًا خدماته على أي تنظيم مقاوم يكون مستعدًّا للاستفادة من خبراته وتطبيق أفكاره، وقد كان التقاء الضيف والغول على الأرجح هو تاريخ ميلاد فكرة تحول كتائب القسام من خلايا إلى قوة قتالية في قطاع غزة؛ فقد حلم الغول بأن تصير غزة قادرة على تصنيع كافة ما تحتاجه من أسلحة خفيفة يمكن استخدامها في القتال مع إسرائيل .

العنصر الثالث في حلم الجيش الصغير اكتمل بانضمام أحمد الجعبري إلى تلك المجموعة، ابن حركة فتح جرى تجنيده للعمل ضمن حركة حماس على يد صلاح شحادة، الذي صار رفيقًا للجعبري في زنزانته قبل خروج الجعبري من السجن في مطلع التسعينيات. خلال الانتفاضة الثانية، ومع مقتل عدد كبير من قيادات الحركة السياسيين والعسكريين على رأسهم صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة، فضلًا عن إصابة محمد الضيف بعدد من الإصابات الخطيرة، صار الجعبري هو الساعد الأيمن الضروري للضيف في قيادة الكتائب، منذ هذا الوقت صارت الكتائب تتخذ شكلًا تنظيميًّا مختلفًا في قطاع غزة، حيث جرى بناء قوة شبه نظامية يجري تدريبها وتسليحها وتنظيمها وفق معايير عسكرية ربما كان لعلاقات الجعبري القديمة بحركة فتح دور في تعرفه إليها، أو إمكانية نقلها من خبراء عسكريين سابقين لدى حركة فتح.

وُلِد الحلم إذن في بداية الانتفاضة الثانية مع مدخل الألفية الجديدة، لكن الحلم وحده لا يكفي، فكيف تحقق الحلم؟ كيف تحولت الخلايا الفدائية المطارَدة إلى جيش غزة الصغير؟ سيكون هذا موضوع الجزء الثاني.