غزة تقاوم

أكمل صفوت

غزة والتضامن الإسكندنافي المفقود

2024.01.04

مصدر الصورة : الجزيرة

غزة تقاوم 

غزة والتضامن الإسكندنافي المفقود

بعد عملية طوفان الأقصى بأيام قليلة، سارعت متا فريدريكسن رئيسة وزراء الدنمارك وزعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى وضع باقة من الزهور أمام السفارة الإسرائيلية؛ لإظهار الدعم للشعب الإسرائيلي.

بعدها بأيام، ومع توارد أخبار سقوط ضحايا مدنيين فلسطينيين كنتيجة للقصف الإسرائيلي لغزة، سألها صحفي في القناة الثانية للتليفزيون الدنماركي: "هل تخططون للقيام بشيء مماثل؛ لإظهار التعاطف مع السكان المدنيين الفلسطينيين؟"

وجاء الرد سريعًا من رئيسة الوزراء؛ إذ قالت: "يجب أن أعترف أنني أعتقد أنك تقابل بين شيئين لا يمكن مقارنتهما، إن حماس، وهي منظمة إرهابية هي التي تهاجم دولة ديمقراطية هي إسرائيل، ولإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وهذا يعني: وقوع بعض الضحايا، وحقيقةً كون صحفيٍّ دنماركيٍّ يطرح هذا السؤال؛ فإن ذلك يثير قلقي العميق!"

 لا بد أن أعترف أنني صدمت من تعليق رئيسة الوزراء، ورغم أن كثيرين قد انتقدوا رد فعلها، فإنني لا أظن أن ما تعرضت له من نقد مكافئ لفداحة ما تفوهت به؛ إذ إن "الشيئين" اللذين حاول الصحفي المقابلة بينهما ليسا إلا حياة البشر في طرفي النزاع.

وكلام متا فريدركسن مهما-  حاولت تغيير دفته ناحية إرهاب حماس - لا يمكن فهمه أو تفسيره إلا بأنها لا تؤمن بأن حياة الفلسطينيين تساوي حياة الإسرائيليين. هذا الموقف ليس مجرد رأي شخصي، بل سياسة دولة كشفت عن نفسها بوضوح حين امتنعت الدنمارك عن التصويت على قرار الجمعية للعامة للأمم المتحدة الداعي لوقف إطلاق النار الفوري، وإدخال المساعدات لغزة.

هذا الموقف السياسي / الإنساني / الأخلاقي من الصراع العربي الإسرائيلي جديد على الدنمارك، ويحتاج لكي نفهمه إلى نظرة تحليلية لما حدث في المجتمع الدنماركي والساحة السياسية فيه من تغيرات متسارعة منذ مطلع الألفية الثانية.

 من أول الأشياء التي لاحظتها عندما أتيت إلى الدنمارك من مصر عام 1991  هو أنَّ سبب تماسك المجتمع لا يكمن في تجانس أفراده، أو في عاداتهم الموحدة، أو نمط حياتهم المتوافق، بقدر ما يكمن في قيمة أساسية تربط أفراد المجتمع وجماعاته وطبقاته بعضهم ببعض، وقام عليها النظام السياسي والهياكل المؤسسية، وتخلل الثقافة والقوانين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تلك القيمة السياسية / الأخلاقية كانت "التضامن".

  بدا لي وقتها واضحًا أن التضامن مع الأضعف / الأقل / المظلوم هو حجر الزاوية في بناء دولة الرفاه الدنماركية الحديثة؛ لأن تطبيقه فعليًّا في شكل ضرائب تصاعدية وقوانين اقتصادية داعمة للفقراء والعاطلين، وتأمين صحي مجاني وتعليم مجاني... إلخ، كان الأداة التي تحققت بها قيم أخرى، مثل: العدالة الاجتماعية، والإنصاف والمساواة، وحق المواطن - بغض النظر عن مواصفاته - في حياة كريمة.

 التضامن كمبدأ سياسي مستقر وكفلسفة إنسانية انعكس حتى في سياسة الدنمارك الخارجية على قوانين لجوء إنسانية ومساعدات سخية للدول النامية، وسياسة خارجية مستقلة عن القطبين السوفييتي - الأمريكي في ذلك الوقت. وفي دعم حركات الاستقلال والتحرر، ومن ضمنها كفاح الفلسطينيين.

 غير أن تصاعد اليمين السياسي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، واختيار دول أوروبا الشرقية النموذج الليبرالي الرأسمالي على النموذج الأمريكي، قد أفقد اليسار الدنماركي توازنه، وأحدث تغييرًا تدريجيًّا، ولكنه شديد الوضوح في السياسة والمجتمع.

 من الناحية السياسية، تضاءلت درجة استقلالية القرار السياسي الدنماركي، وازداد ارتباطه بالنظام الأمريكي وبالسوق الرأسمالية، وعلى المستوى الداخلي حل التنافس والفردية محل "التضامن" كقيمة في الخطاب السياسي والثقافي العام، بل وانمحت أهمية التضامن في بناء دولة الرفاه الحديثة من الذاكرة الجمعية للدنماركيين.

 وهكذا تحولت ثمار دولة الرفاه الحديثة، التي يرفل في نعيمها الدنماركيون من كونها نتاج خيار أخلاقي تضامني وجماعي، إلى امتياز "موروث"، إلى "جائزة" مخصصة لنادٍ حصري لا يحق لأي "آخر" أن يدعي أنه جزء منه؛ نادي السوق الرأسمالية "البيضاء"، هذا النادي الذي تنتمي له إسرائيل مع باقي دول الشمال الأوروبي والأمريكي.

 تحوُّل المزاج العام لقطاع واسع من الدنماركيين نحو اليمين، صاحَبَه تغير واضح في السياسات الداخلية والخارجية.

 على المستوى الداخلي بدأ تفكيك قواعد دولة الرفاه، وتقليص دور الدولة وزيادة الخصخصة، وتخفيض الضرائب، وصاحَبَ ذلك كلَّه شعور بالكراهية تجاه الأجانب والمهاجرين والفئات الأخرى من "الآخرين" الأدنى، جعلت الدنماركيين يقبلون أن يُستهدف هؤلاء الآخرون بقوانين وأنظمة خاصة، تؤدي في الواقع إلى ممارسات تمييزية على كافة المستويات.

على المستوى الخارجي، تقلص الدعم للدول النامية، وفقدت السياسة الخارجية الدنماركية استقلاليتها وتبعت أمريكا في كل مغامراتها العسكرية؛ سواء في أفغانستان أو العراق.

حصاد مرير لنظام سياسي نسي تاريخه، وفقَدَ روحه، وبوصلته الأخلاقية، ورؤيته السياسية.

ما ذكرته من تغيرات سياسية واجتماعية حدث مثله في السويد، ولكن متأخرًا بعض الشيء، ومؤخرًا طلبت السويد أن تنضم لحلف الناتو كخطوة أخيرة في طريق تحولها اليميني، وقبولها أن تدور في الفلك الأمريكي. 

أما النرويج فما تزال تقاوم التحول اليميني العالمي، وأظن أن ما يساعدها على ذلك هو عائدات النفط المهولة التي تحصل عليها من آبار بحر الشمال، والتي تضعها جميعًا كمدخرات للأجيال القادمة، وهو ما أعطاها استقلالية وجعلها أقل رغبة في الاندماج في السوق الرأسمالية، وأقل تأثرًا بتقلباتها؛ لهذا كانت النرويج هي الدولة الإسكندنافية الوحيدة التي أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في غزة. 

وهناك مقالة في جريدة نرويجية كتبتها عضوة برلمان بكلمات شديدة اللهجة، تنتقد فيها حكومات ووسائل الإعلام في الدول الإسكندنافية المجاورة: الدنمارك، والسويد، وفنلندا، وأيسلندا التي امتنعت عن التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة، تقول في افتتاحيتها: "أليس لديهم إنترنت في الدنمارك؟ أو فنلندا؟ أو السويد؟ أو أيسلندا؟ ألا يرون نفس الصور التي نراها؟ ألا يحصون نفس أجساد الأطفال التي نحصيها؟".

للأسباب التي ذكرتها لا يمكن للتأييد الحكومي الدنماركي لإسرائيل أن يثير أي دهشة في توجهه، وإنما ما يمكن أن يثير الدهشة هو حجم الدعم، ودرجة الانحياز، وقدر التورط في الخطاب الحكومي، وهو في تقديري بسبب الحماس الشخصي لرئيسة الحكومة الحالية، وإعجابها بالنموذج الإسرائيلي؛ وهو ما ظهر عليه أكثر من دليل في مواقف سابقة. 

فور تكشف تفاصيل طوفان الأقصى بدا الإعلام الدنماركي متعاطفًا للغاية مع إسرائيل، وهو ما يمكن تفهمه تمامًا؛ نظرًا للمفاجأة وارتفاع عدد القتلى، تجلى ذلك التعاطف تارة عن طريق الاهتمام بتعريف الضحايا الإسرائيليين، ورواية قصتهم، وذكر أسمائهم، أو بالإصرار على تكرار جملة وهي: "على قائمة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة" في كل مرة يُذكَر فيها اسم حماس.

وكان التوجه أقرب لربط الحدث بالإرهاب الإسلامي، لا بقضية الاحتلال أو الاستيطان. الفاعليات الأولى كانت رسمية وداعمة للضحايا المدنيين من الإسرائيليين، فقد حضرت ملكة الدنمارك مع رئيسة الوزراء حفل تأبين في المعبد اليهودي في كوبنهاجن، وتبارى السياسيون في إصدار تصريحات الإدانة لحماس، والدعم لإسرائيل. 

لوهلةٍ - وحتى بعد توالي سقوط الضحايا المدنيين تحت القصف الإسرائيلي في غزة - بدا وكأنه لن يكون هناك سردية مضادة، أو خطاب يوضح وجهة النظر الفلسطينية. ثم بدأت المظاهرات الداعمة لفلسطين والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار. 

من المهم هنا الإشارة إلى أنه من اللافت للنظر أنه باستثناء وضع باقات الورود أمام السفارة الإسرائيلية أو المعبد اليهودي، فلم تكن هناك مظاهرات جماهيرية تدعم إسرائيل. طبعًا مع الأخذ في الاعتبار أن عدد اليهود الدنماركيين لا يزيد عن  7آلاف. وللتحايل على قلة العدد قامت بعض المنظمات الداعمة لإسرائيل بعمل فاعلية في أكبر ميادين كوبنهاجن، فوضعوا منضدة عشاء كبيرة مفروشة بالكامل بها ۲۲۲ مقعدًا، وعلى كل مقعد صورة أسير / أسيرة من أسرى حماس وصورته / صورتها والاسم، وبعد انتهاء الفاعلية قام مناصرو فلسطين بفاعلية مشابهة مستخدمين نعوشًا لضحايا قصف غزة. 

في إطار تلك الحرب الإعلامية لكسب تعاطف الشارع الدنماركي، من المهم أيضًا الإشارة إلى استطلاع للرأي أجرته وكالة ريتزاو للأخبار في الدنمارك، قال فيه ٢٠%  من المشتركين: إن الفلسطينيين لهم الحق في استخدام العنف؛ كما حدث في السابع من أكتوبر، في حين أجاب ٤١%   بأن الفلسطينيين ليس لهم هذا الحق.

وأنا أرى أن في ضوء ضخامة عدد القتلى الإسرائيليين، وما ذكرته وسائل الإعلام عن فظائع في حقهم، فنسبة ۲۰%  تُعتبَر مرتفعة نسبيًّا. وفي المقابل يرى ٣٥%  من الدنماركيين أن من حق إسرائيل أن ترد على الاعتداء بقسوة، ولو على حساب المدنيين الفلسطينيين! 

المظاهرات الداعمة لفلسطين بدأت بأعداد قليلة معظمها من العرب، وهو ما علقت عليه محطات الإذاعة والتلفزيون في تلميح لكون القضية لا تحظى بدعم الدنماركيين، غير أن الأعداد أخذت تزداد مع كل أسبوع، ويظهر فيها التنوع العرقي، كما شارك فيها ناشطون وسياسيون من أحزاب اليسار الدنماركي، واحدٌ منها حزب القائمة الموحدة ممثَّلًا في البرلمان، وحصل في الانتخابات الأخيرة على ٦% من أصوات الناخبين، كما شاركت في المظاهرات منظمات دنماركية تعمل ضد التمييز العنصري والاضطهاد، المنظمون للمظاهرات التي اشتركت فيها حرصوا على التنبيه على أن الهتافات ستكون باللغة الدنماركية فقط، وبدا واضحًا إصرارهم على عدم استخدام أي شعارات أو رموز أو أعلام لها صبغة إسلامية. في المقابل يبدو أن الحكومة الدنماركية هي التي تستدعي الدين في تصريح غريب لرئيسة الوزراء قالت فيه: "إن اليهود الدنماركيين لن يُتركوا ليقفوا وحدهم!!!".

على غرار ألمانيا وفرنسا، حاولت بعض الأحزاب اليمينية أن تضغط باتجاه منع المظاهرات المناهضة لإسرائيل، والداعمة لفلسطين في البرلمان/ وفي بلدية كوبنهاجن دون نجاح يذكر كذلك لا يبدو أن الداعمين لفلسطين يتعرضون لتمييز وظيفي، أو داخل الجامعات حتى الآن. 

تزامنًا مع تزايد زخم المظاهرات أو ربما بسببه، بدأت التغطية الإعلامية تميل للاعتدال، وبدأت تظهر تحليلات سياسية تتميز بالعمق والإنصاف، وفى يوم ۲۷ أكتوبر نشرت جريدة "إنفورماشيون" الدنماركية قصيدة طويلة جدًّا شارك في كتابتها ٤٦ شاعرًا وكاتبًا دنماركيًّا تدعم غزة، وتدين المعايير المزدوجة للغرب، وتدعو لتحرير فلسطين. 

المؤكد كذلك أن الأزمة الحالية أَدْخلت إلى قاموس الإعلام والتحليل السياسي مفردات كانت قد اختفت منذ عقود، كالعنصرية والاستعمار والاستعمار الاستيطاني، والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. وبدأ الناس يدركون أن تلك الممارسات لیست ذكرى لماضٍ سحيق، بل قضية آنية تستوجب الحل. 

هذا التحول في الرأي العام والإعلام قابَلَه تجاهل حكومي تام، مع إشارات بأن الحكومة لا تعتزم أو ترى داعيًا لتغيير موقفها الرسمي الحالي. وتقديري أن الحكومة ترى - بحق - أنها آمنة بأغلبيتها البرلمانية، وأن أحزاب المعارضة الستة (۳ منها من الأحزاب اليمينية الأكثر عداءً للعرب والمسلمين) لن تقف حجر عَثْرة في طريق هذا النهج السياسي تحديدًا. 

ما حاولت رسمه في هذا المقال ليس إلا لقطة لحظية لواقع يتغير كل يوم، ولا يمكن أن يُعتبَر هو كل الحقيقة. ما يمكننا قوله بدرجة من الثقة هو أن هناك تحولًا حقيقيًّا في الرأي العام منذ بداية الأزمة الحالية وحتى الآن. وسبب التغير: هو التوحش الإسرائيلي، ونشاط الجالية الفلسطينية والعربية وتعاونها مع أحزاب اليسار الراديكالي الدنماركي، والتي ما زالت تدعم القضية الفلسطينية بقوة. 

وكذلك سَعْي الحراك العربي، ليس فقط لكسب التعاطف، ولكن لإتاحة قدر هائل من المعلومات عن تاريخ القضية الفلسطينية، وهو ما أظنه تحوُّلًا جذريًّا في نوعية خطابنا مع الغرب. 

على عكس كل الأيام السابقة، كان برنامج الراديو في عربتي، وأنا في طريقي للعمل في اليوم السادس من نوفمبر، يتحدث عن عنف المستوطنين اليهود في الضفة الغربية ضد الفلسطينيين من أهل البلاد وإرهابهم.

وذكر التقرير أن هذه المستوطنات غير قانونية بحسب القانون الدولي، وتحدث عن دعم جيش الاحتلال الصهيوني للمستوطنين بخلاف القانون، وعن كذب السلطات الإسرائيلية عندما تدعي غير ذلك.

لا أذكر أنني على طول إقامتي في الدنمارك قد سمعت تقريرًا مشابهًا يصف أحد جوانب معاناة الفلسطينيين بهذا الوضوح وهذه الدقة، وفي هذا الوقت المهم من النعار. ولا أذكر أني سمعت تقريرًا صحفيًّا يدين ممارسات المستوطنين اليهود والجيش الإسرائيلي والدولة معًا بهذه الصرامة.

تلك كانت المرة الأولى، ولا أظنها الأخيرة!