غزة تقاوم
حسام الحملاويالتظاهر في تل أبيب أسهل من برلين
2023.11.29
مصدر الصورة : "الجزيرة"
غزة تقاوم
التظاهر في تل أبيب أسهل من برلين
يقبع مبنى بلدية "شبانداو" في منتصف الحي مترامي الأطراف على ضواحي برلين الغربية، حيث أقيم في السنوات الأخيرة. يزين مدخل المبنى لافتة نحاسية تعلن بفخر أن للحي اتفاقية تآخٍ مع "مدينة أشدود الإسرائيلية" (أسدود في فلسطين الداخل المحتل). وفي ذكرى مرور شهر على اندلاع حرب 7 أكتوبر الأخيرة، نكست البلدية العلم الألماني؛ لترفع محله علم إسرائيل يتوسط علمي مدينة برلين والاتحاد الأوروبي.
ولكن على بعد خطوات من المبنى تجد ملصقات على أعمدة الإنارة بأعلام فلسطين، وعدة مطاعم سورية، ويعج الشارع بمهاجرين ولاجئين من دول الشرق الأوسط، وتسمع اللهجات العربية المختلفة كلما خطوت في شوارع الحي القديمة الملاصقة لمبنى البلدية وما بعده.
هذا المشهد المتناقض يلخص الوضع الحالي في البلد بخصوص القضية الفلسطينية؛ الدولة ومؤسساتها وسياسيوها في صف إسرائيل بتطرف، ولكن الشارع له رأي آخر مدفوع بعوامل ديموغرافية وسياسية تغير ثوابت الصهيونية التي تشكل أحد أعمدة العقيدة السياسية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.
تأييد مطلق:
منذ اندلاع الحرب يتسابق الساسة والمؤسسات الألمانية الرسمية إلى إعلان تأييدهم للصهاينة، ولتجريم مظاهر التعاطف مع فلسطين، فقد صوتت جميع الأحزاب الألمانية من أقصى اليمين (حزب البديل من أجل ألمانيا) حتى أقصى اليسار (حزب اليسار) مرورًا بالخضر والاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين والمسيحيين الديمقراطيين على حظر منظمة "صامدون" التي تنشط في مجال دعم الأسرى الفلسطينيين. وأعلنت وزيرة الداخلية الألمانية عن إجراءات سريعة بمقتضاها يرحل أي شخص يؤيد عمليات حماس في الأراضي المحتلة، ويرفض طلبات التجنس من المتهمين بـ"معاداة السامية"، ويسقط الجنسية الألمانية عن مزدوجي الجنسية في حالة ثبوت التهمة عليهم.
ونشر وزير الدولة للشؤون الاقتصادية فيديو مدته 10 دقائق، حذر فيه من "تنامي معاداة السامية" بين "الإسلاميين" و"الشباب اليساري"، ودعا فيه مسلمي البلاد إلى إعلان موقف واضح متضامن مع إسرائيل. وذهب الإعلام الألماني إلى أبعد من ذلك، وبالذات الصحف اليمينية، مثل: "بيلد" التي وصفت المهاجرين بـ"البرابرة الذي يعيشون بيننا".
أما أولاف شولتز المستشار الألماني، فأعلن عدة مرات أن أمن إسرائيل من أمن ألمانيا، بل هو سبب وجود الدولة الألمانية! وتضاعفت صادرات السلاح الألماني لإسرائيل 10 مرات مقارنة بالعام الماضي، معظمها صفقات وقعت في غضون أيام بعد 7 أكتوبر، بل سافر قائد سلاح الجو الألماني إلى إسرائيل لإظهار التأييد وتبرع بدمه.
أما المؤسسات التعليمية الألمانية والشركات فسارعت إلى نشر أعلام إسرائيل على صفحاتها الرسمية، مرفقة بعبارات التضامن مع "ضحايا إرهاب حماس".
ما ذكرته أعلاه فقط عينة بسيطة، فلن أستطيع في هذا المقال سرد جميع التصريحات الرسمية المتضامنة مع إسرائيل في ألمانيا؛ فالقائمة طويلة وتبعث على الاشمئزاز. تسري مقولة بين نشطاء اليسار الراديكالي هنا: "قد يكون التظاهر ضد إسرائيل في تل أبيب أسهل من برلين".
الأرض بتتكلم عربي:
يقارب عدد الألمان من أصول عربية حوالي ٢ مليوني نسمة، وبذلك يكون العرب ثاني أكبر تجمع مهاجر في البلاد بعد الأتراك، أما المسلمون فيقدر عددهم بأكثر من ٥ ملايين. هناك بعض الأحياء في برلين، مثل: "نويكولن" على سبيل المثال تستطيع فيها أن تعيش وتنجز معاملاتك اليومية بدون الحاجة للتحدث باللغة الألمانية. هذا التغير الديموغرافي هو أحد العوامل التي بدأت تحدث تغييرًا طفيفًا - قد يتسارع في المستقبل - في إعلاء صوت القضية الفلسطينية في ألمانيا.
وتشهد الساحة السياسية أيضًا وجودًا يتزايد ليهود ألمان وأجانب معادين للصهيونية، مثل: "صوت يهودي من أجل السلام" و"بوند" و"يهود ضد الفاشية". يلعب أفراد هذه الجماعات دورًا محوريًّا في تنظيم مظاهرات، وفي مواجهة الخطاب السائد الذي يضع أي فعل أو شعار تضامني مع فلسطين كعمل عنصري معادي للسامية.
تضم ألمانيا أيضًا "جالية إسرائيلية" تقارب الـ30 ألف مهاجر، بعضهم ترك فلسطين المحتلة بحثًا عن العمل أو حياة أفضل، ومنهم أيضًا من قرر المغادرة لأسباب سياسية تتعلق بالتخلي عن المشروع الصهيوني. لا يوجد هناك إحصاء أو تقدير بعددهم، ولكن برز في السنوات الأخيرة عدة أسماء منهم تلعب دورًا حيويًّا في حركة مقاطعة إسرائيل، أو في تنظيم المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين متسببين في ارتباك للساسة والشرطة والإعلام الألماني؛ إذ يصعب اتهامهم بـ"معاداة السامية".
في الأيام الأولى من الحرب، منعت شرطة برلين أي تظاهرات مؤيدة لفلسطين أو مناهضة للحرب، ولكن هذا لم يمنع الشباب العربي واليساري الألماني ومعهم نشطاء يهود من تنظيم مظاهرات عفوية "غير مرخصة" في العاصمة، قوبلت بعنف مفرط من الشرطة واعتقالات، ووصل عدد المتظاهرين في إحدى تلك المظاهرات "غير المرخصة" إلى حوالي ألف في ميدان بوتسدامربلاتز يوم 16 أكتوبر، لنرى مشاهد قمع لا تختلف كثيرًا عما تشهده دكتاتوريات الجنوب العالمي.
وفي "زونين أليه" أو ما يسمى بشارع العرب في حي نويكولن، دفعت السلطات بتعزيزات أمنية من عربات الشرطة التي كادت تعطي انطباعًا بأن الحي تحت احتلال عسكري، وطاردت عناصر من الشرطة المدججة بالسلاح الشباب العربي الذي تجمع في أماكن متفرقة للهتاف دعمًا لفلسطين والمقاومة، وأصبح أي شخص يتلفح بالكوفية الفلسطينية عرضة للتوقيف والتفتيش حتى ولو لم يتظاهر، وقد أوقفت الشرطة أي سيارات تحمل العلم الفلسطيني وصادرت العشرات من الأعلام من المارة.
ورغم التهديد والوعيد بالترحيل، ظهر سيل من الفيديوهات على منصة "تيك توك" من مراهقين وشباب عرب يهتفون للقسام ومحمد الضيف في محطات مترو برلين وداخل عربات قطاراته والشوارع، واستخدم النشطاء العرب واليساريون منصات التواصل الاجتماعي المختلفة لعرض مشاهد المجازر في غزة والدعاية باللغات المختلفة لدعم فلسطين، وتفنيد أكاذيب البروباجندا الصهيونية.
تحت ضغط الرأي العام واستمرار الحرب، سمحت السلطات في برلين أخيرًا بمظاهرات التضامن مع فلسطين بنهاية شهر أكتوبر؛ لتشهد الشوارع أكبر تظاهرات في تاريخ ألمانيا تأييدًا لفلسطين، وقد وصلت إحدى المسيرات فيها إلى ما يزيد عن 20 ألفًا في مطلع نوفمبر الجاري، وهو عدد غير مسبوق.
بجانب التظاهرات والحشود، هناك أيضًا تغييرات تحت السطح قد يصعب رصدها وإن كان لها مدلولات؛ فالتحركات المتضامنة مع فلسطين في ساحات الجامعات الألمانية أصبحت مشهدًا اعتياديًّا، ويقابلها مظاهرات داعمي الصهاينة التي عادة لا تتجاوز حفنة من الأفراد تعد على الأصابع.
حتى الآن لا تغيير يذكر في السياسة الرسمية الألمانية، أو في تناول الإعلام للقضية، ولكن المزاج العام يتغير ببطء وتدريجيًّا يميل لصالح الفلسطينيين، قد يستغرق ترجمة ذلك للتأثير على سياسة الدولة وقتًا ليس بسيطًا، وسيحتاج تضحيات وجهودًا دؤوبة من مجتمع النشطاء العربي واليساري، ولكن تلك العملية بدأت فعليًّا.