ثقافات
كارولين كاملأجساد النساء.. استغلال باسم الرب
2024.09.27
مصدر الصورة : الجزيرة
أجساد النساء.. استغلال باسم الرب
"مع ماسكارا لوريال رموش لرؤية بانورامية"، هكذا وعلى مدار أشهر، يقاطع الإعلان قائمة الأغاني التي أستمع إليها على المنصات الموسيقية المختلفة، وهو العقاب الذي يتلقاه المستمع المجاني، ويمكن تجنبه بدفع قيمة اشتراك شهري، وهو ما أنوي فعله وأكرره بصوت عالٍ، ولكن لا يدخل القرار حيز التنفيذ، ككثير من القرارات التي لا نعرف أسبابًا واضحة لتأجيلها.
أشتري الماسكارا التي تسمح بها ميزانيتي، ولكن لا تكف الإعلانات المتكررة عن تذكيري بأني في حاجة إلى شراء واحدة أفضل تجعل رؤيتي أوسع. كتبت على الفيسبوك عن ذكرياتي في تلك المرة التي أضفت فيها رموشًا اصطناعية لحضور مناسبة، رضخت لإلحاح الكوافيرة التي شرحت لي أنها ضرورية حتى أرمش بعيني أكثر من المعتاد، فأبدو أكثر رقة وبراءة، وهي المرة التي أثبتت لي عمليًّا أن البراءة المصطنعة أفقدتني السمع، حيث توجهت مجسات التركيز لديَّ إلى تلك الشماسي المعلقة بجفوني، ففقدت القدرة على تفسير الكلمات فصرت أميل برأسي لألتقط الكلمات.
وصلت الولايات المتحدة بالتحديد إلى ولاية "أيوا"، لأبدأ المشاركة في "برنامج الكتابة الدولي" الذي بدأ منذ عام 1967، حيث يجتمع ما يقرب من خمسة وثلاثين كاتبًا من معظم أنحاء العالم، وتعد وزارة الخارجية الأمريكية أحد المصادر الرئيسية لدعم البرنامج، بالإضافة إلى المنح الُمقدمة إلى الكتاب من المنظمات الثقافية في بلادهم.
بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أسابيع على وجودي في مدينة "أيوا"، تتداخل مشاهداتي بين ما أمر به يوميًّا هنا على الأرض في الولايات المتحدة، مع خبراتي بشكل عام، وما أتابعه على السوشيال ميديا وما يحدث في مصر.
بعد يومين من وصولي احتجت إلى القيام بتسوق احتياجات أساسية، دخلت المجمع التجاري، وكان في استقبالي إعلان ضخم يصل إلى السقف عن الـ"ماسكارا البانورامية"، وبخط مُفخم يوضح نسبة الخصم الكبيرة، انتابني الفضول كأي إنسان ضعيف أمام أدنى فرصة خصم، وكانت المفاجأة أن سعرها في الولايات المتحدة أقل بكثير من مصر، استمرارًا لضعف الإنسان اشتريتها بعد أن كنت قد سخرت منها.
بدا لي أن المنتج في هذا البلد أقل سخافة مما بدا لي في مصر، ربما لأن سعره أيضًا أقل بكثير من نظيره في مصر، حتى مع فرق العملة بين الجنيه المصري والدولار الأمريكي، بقيت الأسعار بالعملة الأجنبية أرخص، فالناس في مصر يشترون المنتج نفسه بأسعار أعلى بشكل عام، بالنظر إلى مستوى الدخل بشكل خاص.
الإجهاض والانتخابات
بالطبع، بالرغم من شرائي الماسكارا، لم أدفع فاتورة استخدام المنصات الموسيقية، ولا زلت أستمع إلى الأغاني بمداخلات إعلانية باللغة الإنجليزية، لم ألتفت إليها في البداية، لكن في أحد المرات من الاستماع إلى تلك الإعلانات بعد عدد من المرات تنبهت إلى كلمتين "الإجهاض" "الانتخابات".
تستعد الولايات المتحدة لخوض الانتخابات الرئاسية المقرر لها الثلاثاء، الخامس من نوفمبر 2024، يخوضها كل من عضو الحزب الجمهوري دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الأسبق، وعضوة الحزب الديمقراطي كاميلا هاريس نائبة الرئيس جو بايدن.
أحد المواضيع التي حظيت بوقت طويل في المناظرة الرئاسية بين كل من هاريس وترامب، كانت بسبب قوانين "الإجهاض" التي دفع بها الرئيس دونالد ترامب وحزبه خلال فترة حكمه، والتي تحد من إجراء عمليات الإجهاض، ودخل قانون "حظر الإجهاض في ولاية أيوا بعد الأسبوع السادس من الحمل" حيز التنفيذ في شهر يوليو 2024، وأوضحت الصفحة الرسمية للرعاية الصحية في أيوا ما نص عليه القانون، وختمت بجملة "يمكنكِ مغادرة أيوا وإجراء عملية إجهاض خارج الولاية".
ومن أبرز الجمل التي تم ترديدها في الإعلانات المختلفة عن الانتخابات الرئاسية، هي "ليس من حق السياسيين والرجال تقرير ما تفعله النساء بأجسادهن". جاءت الإعلانات بأشكال مختلفة تتناول حقوق المواطنين الصحية والاجتماعية والسياسية، بينما في مصر تقاطعني إعلانات مستحضرات التجميل الغالية، والمنتجعات السياحية الشرير منها والطيب واللئيم، والوحدات السكنية في مدن لا أتخيل أني أستطيع يومًا أنا وأغلبية الشعب جمع نصف تكلفة المقدم وحده، ناهيك عن سعرها بأكمله، في مصر دعاية مكثفة لحياة مستحيلة ولجمهور مُستفَز من الفقر وانعدام الحريات.
أسعد واحدة!
تنص المادة ٢٦١ والمادة ٢٦٢، الباب الثالث من قانون العقوبات على: "كل من أسقط عمدًا امرأة حبلى بإعطائها أدوية أو باستعمال وسائل مؤدية إلى ذلك أو بدلالتها عليها سواء كان برضائها أم لا، يعاقب بالحبس، إن المرأة التي رضيت بتعاطي الأدوية مع علمها بها أو رضيت باستعمال الوسائل السالف ذكرها أو مكنت غيرها من استعمال تلك الوسائل لها وتسبب الإسقاط عن ذلك حقيقة تعاقب بالعقوبة السابق ذكرها".
الإجهاض في مصر مُجرَّم وبالطبع أدنى حديث عنه يُثير حفيظة المجتمع، ليس خوفًا على حياة المرأة، بل لاعتبارات دينية وقبلية وذكورية، فجسد المرأة ليس لها، وإنما ملكية تنتقل من ذويها إلى زوجها، تحت رقابة المجتمع وحراسة القيم والقوانين، ولكن المجتمع نفسه الذي لا يرتضي الإجهاض لروح بشرية كما يدعون، لا يجد غضاضة في مشهد لسيدة متقززة من ضم رجل إياها بالقوة، وتلامسه معها رغم رفضها الواضح ومحاولتها دفعه بعيدًا، والأكثر حزنًا في هذا المشهد هو أن السيدة في فستان عرس ووجه مزين كما تفعل العرائس في مصر، ويفترض بها أن تكون سعيدة، إلا أنها ليست إلا قربانًا زوجيًّا تم إعداده لفراش لا ترغب هي في مشاركته مع هذا الرجل.
ظهرت عروس كفر الدوار في فيديو لاحق تحت ذراع أحد ذويها من الرجال، مذهولة أقرب إلى الرعب، ويوجه إليها الجميع أسئلة لا تحتاج إلى إجابة، لأنهم يرفقونها فورا بـ"قولي يا بت، إنتِ أسعد واحدة"، وبالفعل كيف لا تكون سعيدة، سيدة في كفر الدوار مسلوبة الإرادة ومغصوبة على معاشرة رجل من دون رغبتها، بل ويجد المجتمع في ذلك مشهدًا طبيعيًّا كون المرأة لا رغبة لها، ولكنها فقط "وعاء للرجل" كما يقول رجال الدين.
بدا مصير هذه الفتاة واضحًا وهو زواج بائس، واحتمالية أن تحصل على حريتها بأقل الخسائر غير مضمونة، حيث لا تضمن لها المنظومة القانونية حقوقًا تؤمِّن لها مستقبلًا، ناهيك عن المجتمع المحيط بها كما ظهر في الفيديو لن يكون داعمًا لها بأي شكل من الأشكال.
كونها ملكية يتم تداولها بين الرجال، مواجهة خاضتها المجتمعات المتحضرة منذ زمن طويل، وبالصدفة كانت إحدى قراءاتي في رحلتي هي مسرحية "بيت الدمية" للكاتب النرويجي هنريك إبسن، نورا الزوجة التي ترتكب الكثير من المخالفات بداية من استدانتها وصولًا إلى تزوير إمضاء والدها، تقرر أن تنهي حياتها الزوجية، الأمر الذي لم يعجب جمهور المسرح حينها، ولكنها اليوم واحدة من أهم المسرحيات إثارة الجدل.
واقتبس منها:
نورا: يقال إن الزوجة التي تهجر بيت زوجها، كما هو الحال معي، تحل زوجها قانونيًّا من جميع التزاماته نحوها، فإنني أحلك من جميع التزاماتك، حتى لا يتقيد أحدنا برباط من أي نوع، وحتى يشعر كلانا بحرية مطلقة.
هيلمر: أهذا وصفك لرباط الزوجية المقدس بيننا؟
نورا: كل ما أعنيه أنني انتقلت من يد أبي إلى يدك.. ووجدتك تنظم الكون من زاويتك الخاصة.. فتبعتك في الطريق المرسوم.. أو تظاهرت بأنني أتبعك.
هيلمر: لا تذهبي.. ماذا تفعلين عندك؟
نورا: أخلع عن نفسي ثوب الدمية.
هيلمر: إنك تفكرين وتتكلمين كطفلة لم يكتمل نموها..
نورا: آلاف من النساء أقدمن على التضحية..
عروس كفر الدوار وغيرها من العرائس اللواتي يضربن في مشاهد زفاف علانية، ويسحلن أمام الكوشة ويبلعن المهانة في دقائق ويكملن الرقص والاحتفال، أصبح مشهدًا عاديًّا وكأن تكرار الجرائم يُسهل اعتيادها.
جرائم تبررها الأمهات
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ليست من ضمن العشر دول الأوائل في قائمة الأطول قامة، فإن المراهقين هنا في مدينة أيوا يبدون موفورين الصحة، حتى قد تخطئ العين أعمارهم، والفتيات بفعل استخدام مستحضرات التجميل وغيرها من المظاهر يبدون أكبر من أعمارهن، إلا أن تلك الوفرة الشكلية ليست في البشر فقط بل إن بعض الخضراوات أكبر من حجمها في بلادنا، مثل الخيار والباذنجان والكوسة والبامية، على الرغم من كل الهرمونات التي تُحقن بها المحصولات في بلادنا فلا تزال أصغر من نظيرتها في الولايات المتحدة.
مدينة أيوا هي مدينة جامعية من الأساس، ويسيطر المراهقون في شوارعها بملابسهم الرياضية الخفيفة، الحقوق المتاحة لهم لا تعطي للذكور منهم حرية أكبر مما تعطيها للآخرين بتفاوت الاختلافات الجندرية. وكان أكثر المشاهد اللافتة بالنسبة إليَّ هو انتشار شباك لعبة الكرة الطائرة في الحدائق، والفرق المتنافسة لا تقتصر على نوع واحد، بل يضم الفريق الواحد ذكورًا وإناثًا يلعبون بقوة وتتلامس أجسادهم بعنف واضح، ولكن لا يبدو على أي من النساء عدم الراحة أو الخوف، فالجميع منهمك في اللعب، مع الإشارة إلى أن الفتيات يلبسن لباسًا أقرب إلى ملابس البحر.
حذرنا القائمون على "برنامج الكتابة الدولي" من التبسُّط في التعامل مع الطلبة الذين نلتقيهم في اللقاءات العملية، حتى لا يتورط أي منهم عاطفيًّا تجاه أي منا، وربما يشجع ذلك أحدنا على مبادلة تلك المشاعر، ما يعد استغلالًا جنسيًّا مجرَّمًا بالقانون الأمريكي، بل وشددوا على أن أي علاقة جنسية قد تجمع أيًّا منا بمواطن/ة أمريكي لا بد أن نحصل على موافقة شفهية منهم بهذه الممارسة وإلا اعتبرت جريمة، وكان الكلام واضحًا وحاسمًا للجميع رجالًا ونساء على حد سواء.
وفي الناحية الأخرى نجد حادثة التحرش بخديجة خالد. تقول الأم:"أخذتها إلى طبيبة صديقة، التي قالت إنها تعاني من اكتئاب لأنها اختارت الحجاب وهي صغيرة، وأوصتها بمضاد اكتئاب واستمرت عليه عدة أشهر. وكانت دائمًا ما تحكي للشيخ عنه وهو يهون عليها"، تقول والدة الفتاة خديجة خالد في منشور لها على فيسبوك، مبررة للشيخ صلاح الدين التيجاني تحرشه الجنسي بل ومحاولته استمالة ابنتها المراهقة بالتحريض على تشجيعها بالزواج بابنه حتى يتمكن هو من ممارسة الجنس معها بدعوة إلهية لا مناص منها.
الأكثر من بجاحة تلك الأم في دفاعها عن الشيخ ضد ابنتها، هو أن الحجاب يبدو في هذه الحكاية شماعة غير مستساغة، بل وإدانة أكبر للأم، فالطفلة التي تحجبت في السابعة وأصابها ذلك باكتئاب، ألم يكن الأولى من تعاطي الحبوب هو أن تخلعه، هل للأطفال وخاصة الفتيات في مجتمعنا حق تقرير المصير في هذه السن تحديدًا حتى تجرؤ خديجة "إن صح كلام والدتها عن كون الحجاب السبب في اكتئابها" أن تخلعه، أم تتعرض أكثر لضغوط كونها جاحدة ورافضة لنواهي الإله، الأمر الذي يضع أعباء مضاعفة على كاهل طفولتها.
فضيحة الشيخ التيجاني تزامنت مع انتشار فيديو يظهر فيه الدكتور ماهر صموئيل الواعظ في الكنيسة الإنجيلية، يتحدث بشكل ساخر عن كلمات أغنية شيرين "كل حاجة فيَّ بتناديك"، متسائلًا لماذا ترغب سيدة في أن يحتل رجل كل تلك المساحة في حياتها، وبشكل غاضب تحدَّث عن كون الرومانسية والعاطفة ذات الطابع الجنسي ضربًا من الوثنية، لأن الله وحده من يستحق أن يحتكر مشاعر الإنسان حتى الرومانسية منها.
لكن الدكتور لم يكتفِ بكلامه غير العقلاني، بل تعمد أن يسخر من حياة المطربة شيرين الشخصية، وربط طلاقها الأخير بالرومانسية التي تنادي بها. تعليقه المتنمر أثار ضجة ضاحكة في الكنيسة، انسجامًا مع نكتته غير اللائقة.
المرأة في مصر لا تملك في جسدها حق أن ترفض الختان في طفولتها، أو أن تجهض طفلًا لا ترغب في وجوده لأسباب مختلفة، ولا يحق لأي شحص التفتيش في نيتها، ومن هذه الأسباب قد يكون الفقر أو أنها تحمل ثمرة حادثة اغتصاب لا تريد الإبقاء عليها، أو لأنها صغيرة السن، أو لأن الجنين من اغتصاب زوجها إياها، وغيرها من الأسباب التي هي حقوق وحريات لا تجد دعمًا كافيًا في مصر.
بدا واضحًا تهافت المصريين بكل طوائفهم، ليس الفقراء الجهلاء فقط كما نظن، على اتباع خطى مرشد ديني، فالشخصيات العامة من المثقفين والأدباء والفنانين وغيرهم وجدوا ضالتهم في شخص الشيخ التيجاني، ففي ظل مجتمع تنعدم فيه الحريات كافة، لن نجد من يتكلم بعقلانية، فالتربة خصبة لرجال الدين حتى يعملوا بسهولة على تحويل المصري إلى مسخ منعدم الحس والمنطق الفطري السليم.