قضايا

محمد حسني

الإتجار بالألم الاستغلال السياسي للمحرقة النازية

2022.01.01

مصدر الصورة : thetimes

الإتجار بالألم الاستغلال السياسي للمحرقة النازية

 

أيدت القيادة النازية المساعي الصهيونية لتوطين اليهود في فلسطين، وقام ميلدشتين مسؤول الملف اليهودي في الجهاز الأمني النازي بجولة في فلسطين بمصاحبة ممثلة الفيدرالية الصهيونية في ألمانيا، نشر بعدها سلسلة مقالات مؤيدة للمشروع الصهيوني في الصحيفة النازية در-أنجريف، بل إنه درس العبرية وأسس اليهودية، وانتهج في فترة توليه سياسة تشجيع اليهود على الهجرة، كما أعطى رجال الــSS تعليمات بتشجيع النشاط الصهيوني في الطائفة في مواجهة دعاة الاندماج والاشتراكيين.

 وفي 25 أغسطس 1933 وُقِّع اتفاق التحويلات بين السلطات النازية والوكالة اليهودية، وينص على تمكين يهود ألمانيا من بيع أملاكهم ومنقولاتهم قبل مصادرتها، وتحويل حصيلة البيع إلى فلسطين في صورة بضائع، تعود قيمة بيعها للمهاجرين اليهود الألمان، وتساعد في توطينهم. ومثَّل الاتفاق تلاقيًّا لمصالح السلطات النازية الراغبة في إخراج اليهود من ألمانيا، وكذلك كسر المقاطعة المفروضة من الرأسماليين اليهود الأمريكيين والمؤسسات الصهيونية التي رغبت في زيادة عدد اليهود في فلسطين، وفي الأموال والبضائع، ويهود ألمانيا الذين أرادوا في تخليص جزء من ممتلكاتهم بدلاً من مصادرتها، وسلطات الانتداب التي كانت مهتمة باستثمار رؤوس أموال في فلسطين..

علاوة على الميكنة عالية الجودة، وكذلك ارتفاع مستوى المهاجرين تم توقيع الاتفاق بين البنك الألماني الحكومي وبنك يهودي في ألمانيا وبنك أنجلو-فلسطين الذي تحول من بنك صغير إلى بنك دولي بفضل أموال الاتفاقية. تأسست شركات صهيونية في فلسطين وألمانيا للقيام بعمليات البيع والشراء والوساطة والتحويلات. حصلت المؤسسات الصهيونية أيضًا على عمولة من الأموال، وعلى سبيل المثال تم تمويل مشروع المياه في الكيشون من أموال التحويلات. وفي فبراير 1937 التقى ممثلون عن الصهيونية بأدولف أيخمان واقترح عليه أن يحصل النازيون على جزء من أموال التحويلات، وفي المقابل يدفع الألمان 50 ألفًا من اليهود للهجرة، بحوزة كل منهم 1000 جنيه سترليني للوفاء بشروط حكومة الانتداب، كما حدد قائمة بأسماء يهودية مرغوب في هجرتها. وبالتدريج تم توسيع نطاق الاتفاق ليشمل دولاً أخرى: تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا. وتوقف نشاط شركات التحويلات في 1939 بعد شهور من اندلاع الحرب بسبب الحصار الاقتصادي على ألمانيا وحسب. وأسفر الاتفاق عن تهجير 50 ألف يهودي، وتحويل 14مليون جنيه سترليني، وهو مبلغ ضخم في هذه الفترة، وكانت أساس إنعاش اقتصاد الاستيطان بعد أزمته الممتدة من نهاية العشرينيات. وبعض اليهود الذين حولوا أموالهم لم تكتب لهم النجاة، ولم تكلف شركات التحويل نفسها عبء البحث عن ورثتهم، كما لا توجد معلومات عن الأموال التي حولتها شركة "هانوطيع" خلال الأربعينيات، وظلت معلقة حتى الثمانينيات. 

خلال الحرب

صفقة البضاعة مقابل الدم: صفقة إغاثة يهود المجر مقابل آلاف الشاحنات المحملة بالبضائع، جرت المفاوضات أبريل 1944 بين ممثلي لجنة الإغاثة في بودابست وأدولف أيخمان وكورت بخر ممثلي الـSS وعن طريق موشيه شرتوك (شاريت) نقل الاقتراح للبريطانيين الذين رفضوه واعتقلوا المندوب الصهيوني يوئيل برند للاشتباه في علاقته بالعدو النازي.  ورفضت الدول العظمى الاتفاق باعتباره يقدم العون للنازيين. 

اليهود في الجيش البريطاني

علاوة على اليهود الذين جندوا في بلادهم كمواطنين، تجند 38 ألف مستوطن صهيوني في الجيش البريطاني (9 % من إجمالي المستوطنين) كأفراد، ومجموعات، أهمها الفيلق اليهودي وقد أسهم ذلك في تطوير أدائهم العسكري. حارب الفيلق في شمال إيطاليا ومُنع من دخول ألمانيا. لكن 33 من المظليين تتطوعوا للتخابر لصالح دول الحلفاء وراء خطوط النازيين. كما تكشف فيما بعد انحياز هؤلاء لليهود الصهاينة ضد اليهود الشيوعيين. ويبدو أنهم تعرضوا للانتقاد من مقاومين يهود محليين. وبعد الحرب عملوا على تهجير اليهود من معسكرات اللجوء إلى فلسطين.

تكشف تفاصيل مشاركة المستوطنين في جانب الحلفاء هشاشة الزعم أن مشاركة اليهود جاءت لإنقاذ إخوانهم من النازيين. وتذكر المصادر أنه على الرغم من أخبار اضطهاد اليهود في ألمانيا منذ صعود النازيين لم تصل أخبار عن ملاحقة يهود بولندا الا في 1939 بينما لم تصل أخبار تفصيلية عن طبيعة الممارسات النازية إلا في 1942 جدير بالذكر أنه حتى نهاية 1942 كانت أخبار اضطهاد يهود أوروبا تُرجأ للصفحة 4 من "داڤار" جريدة الحزب الحاكم. 

وقد رد في صحيفة "داڤار" لسان حال حزب "مباي" المسيطر على المؤسسة الاستيطانية "نحن نستحق بالطبع أن نحصل على جائزة عن خبرتنا بالتاريخ، عن التفسير الصحيح الذي فسرناه لتاريخ اليهود". كما صرح موشيه شاريت" ليس في نية الصهاينة استغلال مأساة يهود أوروبا الرهيبة ولكن لا يسعنا الكف عن تأكيد حقيقة أن الأحداث تعطي مصداقية قاطعة للموقف الصهيوني من حلول المشكلة اليهودية".

كان عدد من قيادات الوكالة اليهودية على قناعة أن الدور الاقتصادي للوكالة اليهودية لا يتضمن إغاثة يهود أوروبا. في خطاب بن جوريون في المقر المركزي لمباي، أغسطس 1943 "إذا علمت أنه من الممكن إغاثة كل أطفال ألمانيا (من اليهود) عبر نقلهم إلى إنجلترا، أو إنقاذ نصفهم فحسب عبر نقلهم إلى (أرض إسرائيل) فسأختار الخيار الثاني.." وقد اتهم الكثيرون المؤسسة الصهيونية بالأنانية حتى عندما أرادت تهجير يهود (أوروبا) فضلت "الملائمين" للمشروع الصهيوني، إلى جانب المحاصصة الحزبية. وكتب الشاعر ناتان ألترمان عدة قصائد منها قصيدة "الساكتين" لا ينتقد فيها المجتمع الدولي فحسب، بل والقيادة الصهيونية التي لم تقم بإنقاذ سوى عدد قليل جدًا من "الناجين"، وقد تعذر مؤرخو الصهيونية بأن عدد المهاجرين كان مقيدًا بالكتاب الأبيض لكن الواقع أن هذا العدد من التصاريح لم ينتهي حتى 1944. 

لجنة إنقاذ/ تهجير؟ 

باتفاق مع السلطات النازية تم تهجير أكثر من 30ألف من الفتيان قبل وخلال الحرب. كما نظمت حركة الهروب "هابريحاه": 1944- 1946 عملت على تهريب ما يقرب من ثلاثمائة ألف يهودي نحو شرق أوروبا ثم فلسطين. وورد في أحد محاضر اللجنة سجالات حول معايير أولوية عملية الإغاثة وأهمها فائدة الاستيطان وأن الإغاثة دون تمييز قد تؤدي إلى إدخال "عناصر ضارة". حتى في البلاد المحايدة كالبرتغال بدا نشاط پريتس ليختنشطين مبعوث الوكالة اليهودي، منصبًا على تهجير اليهود إلى فلسطين وليس إغاثة اللاجئين من البلاد الأخرى. كما أنه عرقل عمل تنظيمات يهودية في إسبانيا لإغاثة لاجئين يهود من فرنسا لأنهم يشكلون خطرًا على المشروع الاستيطاني حسب زعمه. وفي 1946 تمخضت اللجنة الأنجلو أمريكية على أن حل مشكلة اللاجئين اليهود في تهجيرهم إلى فلسطين وهو ما جاء على هوى القيادة الصهيونية التي عملت على استمرار الهجرة بكل الطرق حتى صدر قرار التقسيم 29نوفمبر1947 (تأييد 33 ومعارضة 13 وامتناع 10).

عقب الحرب وحتى إعلان الدولة في كتاب المليون السابع يقول توم سيجڤ "شكلت المحرقة في النهاية مبررًا أساسيًّا لإقامة دولة إسرائيل ومبرر لحربها من أجل البقاء". وتبلور شعار"أبدًا لن يتكرر" وكان رافعًا للحشد في حرب 1948 ضد العرب. كان ما يقرب من ثلثي المقاتلين ونحو نصف القتلى يهود أوروبيون هاجروا بين 1940- 1947، وقد أدرجوا في السردية الصهيونية كـ"ناجين" من المحرقة، وكانت العلاقة بين إقامة الدولة والمحرقة إشكالية نظرية. 

حددت الصهيونية محورية المحرقة في سياستها، بل وحصنتها بعدد من القوانين:

- قانون محاكمة النازيين وأعوانهم 1950.. وقد حوكم من خلاله اليهود المتعاونين مع النازيين في اليودنرات، والشرطة اليهودية في الجيتوهات، والكابو رؤساء وحدات السخرة في المعسكرات.

- قانون تخليد ذكرى المحرقة والبطولة 1953، والذي يحدد الأهمية القومية لمتحف ياد ڤاشيم، وقانون يوم المحرقة والبطولة 1959.

اتفاق التعويضات

كشفت دڤوراة هاكوهين في كتابها "خطة المليون"، الصادر في 1994، عن خطة بن جوريون بعيدة الأمد - في ذروة الحرب العالمية لتهجير مليون يهودي بعد الحرب، لقد فكر بن جوريون في ذروة إبادة يهود أوروبا أن يكون تمويل برنامجه من التعويضات التي ستلزم ألمانيا بدفعها بعد الحرب، وعندما بشره ناحوم جولدمان بأن أدناور أبدى استعدادًا لدفع تعويضات اغتنم الفرصة. وفي عام 1940 أقام الكونجرس الصهيوني العالمي مؤسسة خاصة لهذا الشأن وفي 1942 تأسست منظمة أخرى في تل أبيب للغرض نفسه واستعانت بمحامين من بلدان مختلفة. وبمجرد استسلام النازيين تقدم حاييم ڤايتسمان رئيس المنظمة الصهيوني العالمية- وأول رئيس للدولة فيما بعد- إلى دول الحلفاء بدعوى للتعويضات من ألمانيا. برغم المقاطعة المعلنة (طبعت جوازات السفر الإسرائيلية بعبارة صالح لكل الدول ماعدا ألمانيا). عقب الحرب، كان أساس الموقف الأمريكي الرغبة في بناء ألمانيا الغربية كحليف ضد الكتلة الشرقية. وبدأت إسرائيل في المطالبة بتعويضات بشكل رسمي في مارس 1951، كانت معارضة الاتفاقية من اليمين ومن اليسار ولكن بدوافع مختلفة. واجهت المؤسسة الصهيونية احتجاجات وصلت إلى إلقاء الحجارة على الكنيست، كما دعا مناحم بجين إلى العصيان العام. وارتكب أتباعه عمليات إرهابية صك بن جوريون مصطلح "ألمانيا أخرى" بمعنى أنها ألمانيا مختلفة عن ألمانيا النازية- بالرغم من استمرار مقاطعة دول أخرى مثل إسبانيا باعتبارها مؤيدة للنازية. وتم توقيع الاتفاق في 10سبتمبر 1952 بين إسرائيل وألمانيا الغربية. وفي خلال الفترة 1953- 1965 دفعت ألمانيا الغربية 3 مليار مارك، علاوة على معاشات شهرية للـ"ناجين" تضمن الاتفاق اعتراف ألمانيا بأن إسرائيل هي ممثلة "الشعب اليهودي" وضحايا المحرقة بالتحديد.

في 1956 كانت إسرائيل هي من طلبت من ألمانيا الغربية إقامة علاقات سياسية، إلا أن الأخيرة رفضت بسبب حركة المقاطعة العربية. في 1965 قطعت علاقتها بالدول العربية وأقامت علاقات رسمية مع إسرائيل. عندما شكَّل مناحم بجين حكومته في 1977، وعلى النقيض تمامًا من موقفه خلال مفاوضات التعويضات، لم يقم بأي إجراء سلبي بشأن العلاقات مع ألمانيا. ولم تقدم ألمانيا لإسرائيل مساعدات اقتصادية وعسكرية وحسب بل أضحت حليفها السياسي في الاتحاد الأوروبي.

إنعاش اقتصادي

استخدمت إسرائيل الأموال السائلة لسداد الدين الكبير بالعملة الاجنبية، وهو ما سمح بتدشين مرحلة اقتصادية جديدة. 30 % من قيمة التعويضات للحصول على وقود وتجهيزات ومواد خام. 17 % لشراء 50 سفينة، كما تم تجديد روافع ميناء حيفا، وإقامة محطة قوى لتوليد الكهرباء، وقاطرات ديزل وعربات سكك حديدية وقضبان. تجهيزات شبكة المياه والتنقيب عن النفط، وسيارات وميكنة زراعية وميكنة تشييد. بينما انهارت الليرة الإسرائيلية بسبب انهيار الاقتصاد المحلي زادت قيمة التعويضات التي جاءت بالعملة الأجنبية سواء على مستوى اقتصاد الدولة، أو الأفراد من متلقي المعاشات، وهو ما أدى لزيادة الفوارق الموجودة بالفعل بين اليهود الأشكناز الأوروبيين والسفاراد، المهاجرين من بلدان عربية وإسلامية.

ابتزاز متكرر

ظل الباب مفتوح لتقديم دعاوى التعويضات الشخصية حتى 1969، وفي 1972 زعم ناحوم جولدمان بأنه من الممكن المطالبة بمليار مارك أخرى، بزعم وجود ناجين في موجات الهجرة من أوروبا الشرقية بعد 1953، وإزاء ذلك اشترطت ألمانيا توقيع إسرائيل على تعهد بعدم المطالبة بالمزيد.

أصبحت صناعة الهولوكوست ماكينة ابتزاز، ونصبت نفسها وصيًّا على يهود العالم أحياءً وأمواتًا. إذ ادعت حقها في كل أرصدة اليهود في أوروبا إبان الحرب، وقد وجهت حرابها نحو سويسرا أولاً. وفي 1995 وفي ذكرى مرور 50 عامًا على انتهاء الحرب قدم الرئيس السويسري اعتذارًا رسميًّا على تقييد دخول اللاجئين لأراضيها خلا الحرب (سمحت بدخول 20 ألف يهودي، وهو عدد مساو لمن سمحت لهم الولايات المتحدة برغم فارق المساحة والإمكانات الشاسع). في تلك الآونة أعيد فتح النقاش حول أرصدة اليهود في البنوك السويسرية، والتقى ممثلون للمصارف السويسرية بمندوبين للمؤتمر اليهودي العالمي الذين تفاوضوا كالمعتاد باسم عموم اليهود. أعلن المصرفيون رصد 775 حسابًا راكدًا بقيمة 32 مليون دولار. رفض المندوبون المبلغ وشنوا حملة تشويه ضد المصارف، وسعوها فيما بعد لتطال الشعب السويسري، فاكتملت أسطورة "المؤامرة السويسرية-النازية" ومع إخفاق محاولات اصطناع شهود، ركز المدعون على فرضية أن السويسريون قد أخذوا الذهب الذي ابتزه النازيون بدورهم من اليهود.  وتكبد السويسريون 500 مليون دولا ر فقط لمواجهة حملات التشهير وأجبروا في النهاية على دفع 1.25 مليار دولار.

تعويضات السخرة

ما إن حصل المؤتمر اليهودي على تسوية مع سويسرا في أغسطس1998، فتح في سبتمبر مباشرة ملف الشركات الألمانية التي عمل بها الضحايا بالسخرة، مطالبين بتعويضات 20 مليار دولار. وذلك بالرغم من قيام الشركات المستفيدة بتأسيس صندوق للتعويضات بعد الحرب، ومن شمول الاتفاقيات السابقة على تعويضات السخرة بمتوسط 7500 دولار للفرد.

وبينما تقدر أعداد العاملين بالسخرة إجمالاً 70-90ألف، وأيًّا كانت نسبة اليهود من بين هؤلاء، وكذلك نسبة من بقي منهم حيًّا حتى 1999. فقد طالبت الجهات اليهودية بتعويضات عن 135 ألف عامل على قيد الحياة. وفي النهاية اضطرت ألمانيا في التسعينيات إلى أن تدفع تعويض بقيمة 5000 مارك ل522 ألف شخص علاوة على 500مارك/شهر لـ50ألف آخرين.

ابتزاز أوروبا الشرقية

عقب انهيار الاتحاد السوڤيتي، شرعت المنظمة اليهودي العالمية لاستعادة الأملاك في المطالبة بأملاك اليهود قبل الحرب 134- 135 وفي مارس 2000 أعلن المؤتمر اليهودي العالمي أنه "اكتشف" أن النمسا تحتفظ بأرصدة ليهود قدرتها بـ10 مليار دولار 143.

متحف الهولوكست

كان قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية نابعًا بالأساس من قوة أحداث المحرقة، والإحساس بالمسؤولية من جانب دول العالم. لكن ذلك الإحساس كان قاصرًا على اليهود دون غيرهم من الضحايا. ولا يحاسب أشكال التجاهل المتعمد من جانب الدول المنتصرة في مراحل كثيرة قبل وخلال الحرب وحتى يوم استسلام النازيين، وكذلك بعدها في عدم التمسك بإعادة توطين اليهود في ألمانيا وبولندا بشكل خاص. ويتناول كتاب"المليون السابع" للمؤرخ توم سيجڤ، اللقاء بين"المليون السابع"؛ وهم الإسرائيليون الذين يعيشون على وعي بفكرة أن هناك ستة ملايين من "شعبهم" قد أبيدوا، وبين الناجين من المحرقة، الفكرة الأساسية التي يطرحها الكتاب أن "المحرقة، في نهاية الأمر، قد شكلت مبررًا أساسيًّا لإقامة دولة إسرائيل وتبرير حربها من أجل البقاء.

المحرقة في التعليم

يبدأ تدريس المحرقة من الصف الأول، وتعتمد على رواية قصص أطفال في عمرهم ممن عاصروا المحرقة. كما أنها جزء أساسي من امتحان الثانوية. تركز الغالبية العظمى من المقررات الدراسية الخاصة بالمحرقة على المنظور اليهودي فحسب. أكثر من نصفها يتناول تخليد الحدث. وأبرز تحول في العقود الأخيرة هو التحول نحو خصوصية التجارب. وظهرت مبادرة "لكل شخص اسمه" معبرة عن هذا التوجه.

ومن العناصر الأساسية في برامج دراسة المحرقة:

- إسرائيل هي مركز "الشعب اليهودي" ومحور ولائه وتضامنه وبلورة هويته وحماية وجوده.

-رفض "المنفى"، فإسرائيل نقيض للـ"منفى"، ونقيض للوجود السلبي والخاضع ليهود "المنفى". ومواطن إسرائيل هو شخص حر وفخور واثق من نفسه. لا ينطلق إرثه من المنفى، بل من تاريخ قديم عندما كان حرًا.

-الانخراط في المجتمع الدولي، يتطلب التخلص من "وعي الضحية". كما أن معاداة السامية قرينة المنفى، وناتجة عن الوجود غير الطبيعي لليهود في المنفى، وعندما يصبح لليهود وجود طبيعي في دولة ككل الدول، ستنتهي معاداة السامية.

ومن هنا يفترض أنه لا مجال لأن تكون المحرقة في بؤرة تكوين الهوية الإسرائيلية. كما أن وضعها في مركز الحوار اليومي سيؤدي إلى انتشار مشاعر كراهية الغير والانطواء.

لقد سعت إسرائيل لتكون المحرقة حصرية لها كوريث وحيد لذكرى الملايين. وكتب الأديب إهرون أپلفيلد "منذ سنوات ليست ببعيدة، كانوا يزعجون الناجين من المحرقة (إن لم نقل يضغطون عليهم) بكل المضايقات العبثية: لماذا لم تنتفضوا، ولماذا ساقوكم كالشياه للذبح. كانوا يحضرون للمدرسة ومراكز حركة الشبيبة شهود-ناجين ويمطرونهم بتلك الأسئلة، لقد وقف الناجون في موضع اتهام ومحاولة الدفاع عن أنفسهم، لكن دفاعهم لم يزُد عنهم. لقد ضغط الشباب على جروحهم بالاستشهادات التي جمعوها من الصحف والكتب، وكثيرًا ما كان الناجين يخرجون آثمين.

لقد أدى"الانقلاب" الذي حدث في 1977 إلى تحولات في النخبة المهيمنة، ومعها نمط الذاكرة المهيمن الذي شكلته أحزاب حركة العمل الحاكمة. حدثت هيكلة لنظام التعليم وبالنسبة للمحرقة فقد وضعت ضمن 26 موضوع اختياري، يختار المعلم ثلاثة من بينهم. في 1980 صدر قرار الكنيست بتعديل قانون التعليم الرسمي وأضيف بند خاص بـ الوعي بالمحرقة والبطولة". وركز التوجه الجديد على الفداء والاستشهاد وبطولة اليهود الذين راحوا ضحية المحرقة. أعطت ذكرى المحرقة مشروعية للنزعة "العسكرية" وأحاسيس "العالم كله ضدنا " وافتعل تشابه بين المحرقة والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. درس المحرقة هو عدم الثقة في العالم المحيط والعدوانية تجاه اليهود من ناحية. وضرورة دعم الروابط بين أقسام الشعب اليهودي والصلة بتراثه من ناحية أخرى.

صورة الصهيوني مقابل يهودي الشتات

وفقًا لنظريات عدد من المؤرخين من بينهم أنيتا شپيرا وتوم سيجڤ كانت المحرقة، ولا زالت، العامل المُشَكّل للهوية اليهودية والإسرائيلية، والتي تتجلى في نواح اجتماعية مختلفة. تشير أنيتا شابيرا أنه خلال العقدين التاليين على المحرقة استُخدم الناجين رمزًا لبلورة وتقوية الهوية الصهيونية وبشكل أدق في خلق الثنائية المتضادة بين "اليهودي القديم" و"اليهودي الجديد". ويقول موشيه تسوكرمان "إن الصهيونية طالبت الناجين بمحو هويتهم القديمة، وتم إخضاع الضحايا لسد حاجة تبرير الأيديولوجية الصهيونية". ويضيف يحيعام ڤايتس أن الصهيونية "قامت بنزع المشروعية عن هوية اليهودي القديم وحاولت خلق نموذج جديد، وجعلت الاستيطان والاندماج هو الحل والشفاء للمنكوبين". وتري نوريت جيرتس أن "صورة اليهودي القديم كانت نسوية سلبية ضعيفة رخوة بينما اليهودي الجديد رجولي إيجابي قوي شجاع يفلح الأرض".

كل يبحث عن محرقته

أقحم اليهود العرب في الهولوكوست، كما يقول نوفك إن موسوعة الهولوكوست حمَّلت المفتي أمين الحسيني دورًا رئيسيًّا، كما أصبح له مكانة بارزة في متحف ياد ڤا شيم. وقد نتج عن التحول طويل الأمد في قضية "المحرقة" أن أصبح الضحايا في خانة التكريم (المادي والمعنوي). خرجت دعاوى من يهود البلدان العربية والإسلامية تزعم تعرضهم لهولوكوست، وليس المقصود ما ارتكبه النازيون في شمال أفريقيا. بل إن الاتهام موجه للعرب، ومن ثمّ يطالب هؤلاء بتخليد معاناتهم، وبتعويضات مشابهة لضحايا النازية. ومقارنة بين 1891- 1911 لقي أكثر من 10 ملايين أفريقي في الكونغو حتفهم في العمل بالسخرة في تجميع العاج للأوروبيين. وبعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور اعتقل الأمريكيين بأمر من الرئيس ترومان ما يقرب من 120 مواطن أمريكي من أصل ياباني معظمهم في منطقة ساحل المحيط الهادي.  وأجبروا على بيع ممتلكاتهم، واقتيدت الأُسر إلى معسكرات لا تختلف كثيرًا عن معسكرات النازية، وُسم المعتقلين بشارات تحمل أرقام. وفي 1983 صدر تقرير الكونجرس، معتبرًا أن الاعتقال استند إلى التحيز العرقي وهستيريا الحرب وفشل القيادة السياسية وفي 1988 تقرر تعويض كل معتقل بـ20 ألف دولار.  وفي فيتنام قتل 5 ملايين نسمة، وأحرق 37 مليون فدان من المزارع والغابات خلاف الأيتام والمعاقين وضحايا الاستغلال الجنسي. والحق أن هتلر لم يكن محدثًا، بل استنسخ أساليب الأمريكيين في الغرب الأمريكي، حينما تم تعقيم عشرات الآلاف، كما حرم السود من كل الحقوق المدنية، وتعرضوا للاعتداء والقتل المنهجي من عصابات يمينية من المدنيين يفوق ما تعرض له يهود ألمانيا. 

وفقًا لنظريات عدد من المؤرخين كانت المحرقة، ولا زالت، العامل المُشَكّل للهوية اليهودية والإسرائيلية، والتي تتجلى في نواح اجتماعية مختلفة. وتشير أنيتا شابيرا أنه خلال العقدين التاليين على المحرقة استُخدم الناجين رمزًا لبلورة وتقوية الهوية الصهيونية وبشكل أدق في خلق الثنائية المتضادة بين "اليهودي القديم" و"اليهودي الجديد"..