البحث العلمي
أكمل صفوتالبحث العلمي وتحدي السلطة
2024.03.04
تصوير آخرون
البحث العلمي وتحدي السلطة
في عام 1995 وبعد أن حصلت على درجة الدكتوراه، اشتركت في دورة إعداد المدرس الجامعي بجامعة القاهرة، حيث تعلمنا أساسيات التعليم ونقل المعلومات للطلبة. كان مطلوبًا منا أثناء هذه الدورة أن نتناوب في إلقاء محاضرات قصيرة نطبق فيها ما تعلمناه.
واحد من زملائي في كلية طب الأسنان، اختار أن يلقي محاضرة عن موضوع رسالته للماجستير، وكانت عن "الخواص القاتلة للبكتريا المسببة للتسوس في فروع السواك".
المدخل للرسالة كان الأحاديث الشريفة والمرويات الدينية التي تؤكد على فوائد السواك. سألته إن كان يرى هذه البداية التي تخلط الدين بالعلم بداية موفقة أم لا؟ لأنه إذا أثبتت التجربة أن السواك يساعد على نمو البكتريا المسببة للتسوس مثلًا، فإن هذا سيضعه في حرج ديني شديد.
رده كان أنه إذا أثبتت التجربة خطأ الحديث، فنتائج التجربة بالقطع ستكون خطأ، وأنه سوف يعيدها.
سألته: ما فائدة التجربة إذًا إن كان يعرف الإجابة مسبقًا؟ فابتسم صامتًا، وأظنه لم يفهم ما أعنيه؛ لأن ما كان يقوم به من "بحث علمي" لم يكن وراءه أبدًا أي سؤال. صديقي كان يمتلك الإجابة قبل أن يبدأ.
في القلب من كل بحث علمي، ليس فقط سؤال أو معضلة تحتاج الى حل، ولكن بالأساس شك في حقيقة مستقرة، وتحدٍّ لما هو راسخ، وتمرد على سلطة معرفية قائمة.
رسالة الماجستير تلك كانت نموذجًا صارخًا لما أظنه حجر العثرة الأساسي في طريق البحث العلمي في مصر، ألا وهو غياب الشك والقبول المطلق للسلطة المعرفية السائدة. الاستعانة بوسيط من المقدَّس الديني كطرف في المعادلة واستنطاقه بالإجابات في المقال السابق، ليس إلا أسلوبًا تحايليًّا لكي نبدأ الرحلة باليقين، أما استخدام أدوات العلم فلم يكن إلا وسيلة نفعية لتأكيد ذلك اليقين، وأنا لا أريد لتفصيلة استخدام حديث شريف في مقدمة رسالة علمية، أن توحي للقارئ بأن حديثي هو عن التطرف الديني، أو أنني أختصر مشكلة البحث العلمي في مصر في سيطرة الفكر الديني السلفي على العقل، ليس لانعدام الصلة بينهما تمامًا، ولكن لإيماني بأن للمشكلة جذورًا أعمق وأهم.
يحضرني للتوضيح مثال آخر عايشته في مدرستي الابتدائية في ستينيات القرن الماضي:
كان لي زميل من المتفوقين، فاختاروه في الفريق الذي يمثل المدرسة في مسابقة "أوائل الطلبة"، في التصفيات التي كانت تُعقَد في ساحة المدرسة، وكان السؤال: اذكر اسم دولة أوروبية صديقة. الإجابة الصحيحة بحسب ما كنا نتعلمه في الفصل كانت "فرنسا"، هو بدون تفكير قال: "يوغوسلافيا"، لو تذكرنا الآن سياسة مصر والعالم في الستينيات فلن نشك للحظة أن إجابته كانت بالقطع أصح، لكن المدرسين اعتبروا الإجابة خاطئة، وما زلت أذكر وجهه الباكي ونظرة عينيه غير المصدقة.
ما أريد قوله هو أن النظام التعليمي في مصر منذ أكثر من نصف قرن قد علم أجيالًا من المصريين أن لكل سؤال إجابة واحدة صحيحة، وأنها موجودة بالفعل في كتاب بعينه (كتاب الوزارة) يمثِّل السلطة العليا للمعرفة، وأن هذه الإجابة الصحيحة والحقيقة الواحدة ينطق بها ممثلو تلك السلطة (المدرسون)، وأنه لا يجوز لنا أن نجتهد ونفكر فنفضل يوغوسلافيا على فرنسا مثلًا، أو نقترح سببًا خامسًا إضافيًّا للحملة الفرنسية على مصر، حتى وإن كان ما تقوله صحيحًا. وبالطبع فلم تكن تلك هي صفات التعليم قبل الجامعي فحسب.
إذ إنني بشكل شخصي قد عاينت كيف أن منهج التعليم في الجامعة لم يختلف عن مدرستي الابتدائية، فظل ما نتعلمه من أساتذة الجامعة ككل ما تعلمناه من المدرسين "حقائق" نكررها كما هي بلا إضافة ولا اجتهاد.
المسألة إذًا أن مصر قبل أن تقع تحت سطوة السلفية الوهابية ومنذ كانت بلدًا اشتراكيًّا، نساؤه غير محجبات يتعلمن ويعملن ويركبن الدراجات، كانت تسعى بشكل حثيث إلى تدجين المتعلمين من مواطنيها - من خلال مؤسساتها التعليمية - ليصبحوا أسرى لفكر تسلطي أحادي التوجه، ولإطار عقلي خالٍ من التأمل والحس النقدي. وغنيٌّ عن البيان أن تلك صفات منافية للفكر والبحث العلمي، وربما كانت هي السماد الذي أعد الأرض للفكر الوهابي السلفي وللإسلام السياسي في منطقتنا المنكوبة.
في مقدمة كتابه "مفهوم النص" يشكر المفكر المصري نصر حامد أبو زيد تلامذته الذين استفاد هو من أسئلتهم له، ومراجعاتهم لأطروحاته، ويقول: إن التعليم التلقيني غير النقدي تأثيره مدمر على الطالب، إلا أنه أكثر تدميرًا للأستاذ. ولا يوجد إثبات أوضح لصحة كلام "أبو زيد" من حقيقة أن أول من رفض أفكار "أبو زيد" التجديدية وسعى لحجبها ومنعها وتجريمها كانوا أساتذة في الجامعات المصرية.
إذًا يحتاج تدجين المواطنين خلف فكرة أو زعيم إلى أمثال هؤلاء، ويعطيهم سلطة مطلقة تردع وتعاقب المخالف؛ لتقلل من محاولات أو إمكانية الانشقاق أو الخروج عن النسق.
يكفل النظام الجامعي الحالي هذه الإمكانية بنجاح كبير، فسلطة الأستاذ الجامعي على الطلبة أو باحثي الماجستير والدكتوراه غير محدودة وأي ضوابط أو قواعد للمحاسبة في حالة التجاوز من قبل الأستاذ هي صورية في أحسن الأحوال.
الأمن من العقاب يغري بالمزيد من التجاوزات التي ليس أقلها تعيين الأبناء والأقارب من غير الأكفاء؛ ليتصدر البحثَ العلمي من لا يمتلك أدواته العلمية أو الفكرية.
كذلك يسمح نظام الجامعة الحالي بالتدخل في تعيين وترقية أعضاء هيئة التدريس بناء على توصيات من جهات أمنية؛ أي: أن المسارات الوظيفية التي من المفترض أن تكون نتيجة الإنتاج العلمي، يتم السيطرة عليها والتحكم فيها بمعايير غير علمية، ناهيك عن كونها غير قانونية. كما يمكن لتلك الجهات أن تحد أو تمنع الباحث من الاطلاع على وثائق ومواد أرشيفية مهمة لبحثه بدعوى الأمن القومي، لدينا إذًا في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية المسؤولة عن البحث العلمي في مصر قاعدة من الباحثين لم يتدربوا على الشك في الحقائق العلمية المستقرة، أو مساءلتها، ومنظومة هيكلية وإدارية تقيد من حرية الباحث، وتضع له خطوطًا حمراء كثيرة، وفي نفس الوقت تعطي الأستاذ سلطة مطلقة على تلاميذه؛ بهدف استخدامها للتأديب في حال التمرد على السائد أو المقبول.
يخلق هذا المزيج الهيكلي والفكري مناخًّا عدائيًّا وغير آمن للبحث العلمي. ما عاينته بنفسي في سنين عملي الجامعي؛ أن الغالبية العظمى من إنتاجنا "العلمي" حتى في العلوم "الآمنة" البعيدة عن معارك السياسة والدين كالطب مثلًا، ما هو إلا تكرار لما فعله آخرون، وإعادة لإثبات ما هو معروف بالفعل.
المشكلة إذًا ليست في أن جامعاتنا ومراكز أبحاثنا لا تنشر أوراقًا علمية، بل لأنها تنتج عددًا هائلًا من الأوراق اللا علمية؛ لذلك لا أتصور حلًّا ناجحًا لمشكلة البحث العلمي لا يكون جزءًا من حل أشمل يكون في القلب منه الحق في مساءلة السلطة؛ سواء كانت سلطة المدرس في المدرسة، والأستاذ في الجامعة، أم سلطة الحقائق والنظريات العلمية وما نظنه معلومًا من الدين بالضرورة.