البحث العلمي

محمد أبو الغار

لماذا تدهور البحث العلمي في مصر؟

2023.12.14

مصدر الصورة :  المركز الإعلامي بجامعة الأزهر

معضلات البحث العلمي في مصر

لماذا تدهور البحث العلمي في مصر؟

قال لطفي السيد أول رئيس لجامعة فؤاد الأول (القاهرة): إن التعليم الجامعي أساسه حرية التفكير والنقد واستقلال الرأي، وليس الحفظ والنقل لما يقال، والتربية الاستقلالية هي شرطنا منذ أول عام أنشئت فيه. وفي حفل الافتتاح علق سعد زغلول على كلمة أحمد زكي بك، عندما شعر بأنه بالغ فيها عن مجد الإسلام، وقال: إن هذه الجامعة لا دين لها إلا العلم. وقال علي مشرفة: الجامعة ليست مدرسة لتخريج الفنيين والمهنيين، وإنما هي مكان لإحياء الروح العلمية والبحث العلمي. وقال طه حسين: لا ينبغي أن ننتظر تعليمًا صحيحًا منتجًا من جامعة لا يتمتع رجالها بالاستقلال والحرية التي تمكنهم من القيام بالعلم دون خوف. وبعد حكم الضباط الأحرار في عام 1952 وتعيين كمال الدين حسين وزيرًا للتعليم عام 1954، تقرر إقالة رؤساء الجامعات وإعفاء جميع العمداء وفصل 70 عضو هيئة تدريس كلهم من الأساتذة المتميزين، وأصبح سكرتير الجامعة ضابطًا، ومن سلطة الوزير إقالة العمداء ورؤساء الجامعة ونقل الأساتذة، وإنشاء مكاتب أمن في الجامعات، وبالتدريج تمت السيطرة الأمنية على جميع الهيئات الأكاديمية، وأصبح تعيين رئيس الجامعة والعميد ورئيس القسم بعد مقابلة شخصية مع الجهات الأمنية التي ترفض تعيين أي شخصية قوية أو لها رأي مهما كانت عبقرية. وقد أدى ذلك إلى اختيار قيادات مرتبطة بالأمن وتقدم تقارير أمنية، ومع الظروف الاقتصادية المتعثرة سافر العلماء متوسطو المستوى إلى دول الخليج، وسافر المتفوقون والنابغون إلى الدول الغربية وخاصة أمريكا، وتدهور بالتالي مستوى التعليم والبحث العلمي (1).

 ما هي أنواع البحث العلمي؟

1. البحث العلمي الأساسي: وهو اختراع واكتشاف بحثي في الطبيعة أو الكيمياء أو الطب أو غيرها لم يكن يعرفه أحد من قبل، وهذا النوع من البحث يحتاج لتكاليف ضخمة، ومعامل متقدمة، وعقول جبارة، ونتيجة هذه الاكتشافات هي التي تؤدي إلى احتمال الحصول على جوائز نوبل.

2. البحث العلمي التطبيقي: هو استخدام نتائج البحث العلمي الأساسي في الاستفادة البشرية، ومنها الصناعة والزراعة والطب والصيدلة وكافة العلوم الأخرى، وهذه الأبحاث التطبيقية يستمر استخدامها لتطوير المنتج أو الجهاز، أو طريقة التصنيع، أو العلاج، أو غيرها، وهي عملية مستمرة.

الباحثون النشطاء والأذكياء والمثابرون في دول العالم الثالث هم الذين يساهمون في الأبحاث العلمية التطبيقية، ويستطيعون نشر التطوير أو التحسين أو التغيير في طريقة التصنيع أو العلاج أو أي تقدم في المنتج النهائي؛ سواء كان من المواد الجامدة أو المواد البيولوجية، أو الأجهزة أو أجزاء من جسم الإنسان. الدول التي تقدم أبحاثًا أولية أساسية متقدمة بالترتيب هي: أمريكا، الصين، ألمانيا، إنجلترا، اليابان، فرنسا، كندا، سويسرا، كوريا الجنوبية. وأكثر بلاد العالم إنتاجًا لاختراعات جديدة مبتكرة بالنسبة لعدد سكانها هي بالترتيب: سويسرا، أمريكا، السويد، إنجلترا، هولندا (2).

لماذا تدهور البحث العلمي في مصر؟

البحث العلمي في مصر يعاني من مشكلة عويصة ممتدة منذ فترة طويلة، وخلال ثلاثة عقود من حكم مبارك حدث تدهور شديد في نظم التعليم والبحث العلمي، واستمر هذا التدهور حتى الآن؛ هناك أرقام دقيقة إلى حد كبير عن حجم المشكلة حتى عام 2012، ولكن في السنوات العشر الأخيرة فإن الدراسات المصرية والدولية عن حالة البحث العلمي في مصر لم تعد بالغزارة والدقة مثل السنوات السابقة.

 ما هو وضع البحث العلمي في مصر الآن؟

يقاس وضع البحث العلمي بالإنتاج الكيفي والكمي للبحوث العلمية والتي تتم في العالم في الجامعات، ومراكز البحوث الحكومية، ومراكز بحوث الشركات الخاصة. في مصر القطاع الخاص لا يقدم أكثر من 5% من ميزانية البحث العلمي المصري؛ بخلاف دولة مثل الولايات المتحدة التي تقوم الشركات الخاصة الكبرى بها بالصرف على 75% من ميزانية البحث العلمي في أمريكا، وبهذا فالبحث العلمي في مصر يتم في الجامعات الحكومية ومراكز البحث الحكومية بميزانية من الدولة، ومن المعروف أن الجامعات الخاصة في مصر - باستثناء جامعة زويل، وجامعة النيل، والجامعة الأمريكية - ليس لها علاقة بالبحث العلمي من قريب أو بعيد، وحيث إن وظيفة الجامعة الأساسية هي أمران؛ هما: التعليم، والبحث العلمي؛ فإن كل الجامعات الخاصة تُعتبَر معاهد عليا للتعليم وليست جامعات؛ لأنها تفتقد إحدى الوظائف الأساسية للجامعة.

قدم أحمد زويل الحاصل على نوبل مشروعًا بإنشاء جامعة للبحث العلمي أساسًا، وبعد عقبات بيروقراطية أيام مبارك اتفق زويل مع المشير طنطاوي القائم بأعمال رئيس الجمهورية على تفاصيل المشروع وصدر به قانون من مجلس النواب، ولكن الدولة قررت في عام 2019 تغيير القانون في مجلس النواب الحالي، وجعلت الجامعة تحت رئاسة وزير التعليم العالي، وفقدت جامعة زويل استقلالها ووظيفتها الأساسية بتخريج باحثين متميزين بعد قبول الطلبة العباقرة مجانًا، وأصبحت جامعة خاصة بمصاريف ضخمة، وتدريجيًّا اختفت أهمية البحث العلمي وهي الوظيفة الأساسية للجامعة (3).

ولنتعرف على حجم الإنفاق على البحث العلمي في مصر، نبدأ بأن الدستور المصري ينص بوضوح على تخصيص 1% من الميزانية للبحث العلمي، وكان تقدير واضعي هذا الدستور أن مصر تحتاج لطفرة اقتصادية لن يحدثها إلا طفرة في البحث العلمي.

عام 1996 / 1997 ميزانية البحث العلمي: 840 مليون جنيه = 131 مليون دولار (بالسعر الحقيقي للدولار في ذلك الوقت).

عام 2022 / 2023 ميزانية البحث العلمي: 5 مليارات جنيه = 112 مليون دولار (بالسعر الحقيقي للدولار الآن).

80% من الميزانية تُصرَف على المرتبات وأشياء مماثلة.

20% يصرف على البحث العلمي؛ أي: 22.1 مليون دولار (4).

في عام 1999 كان تقرير مؤسسة المشكا أن إسرائيل تنفق 30 مرة ضعف مصر في البحث، و50 مرة في استخدام الإنترنت لأغراض علمية، 70 مرة في النشر العلمي، وألف مرة في الاختراعات. الآن إسرائيل تنفق 18 مليار دولار مقابل 113 مليون دولار لمصر معظمها مرتبات. هذا يفسر الطفرة الكبرى في التكنولوجيا الإسرائيلية وبيعها منتجات وأسلحة ومعدات تكنولوجية متقدمة للغاية، من ضمنها أجهزة التجسس على التليفونات المتقدمة للغاية التي اشترتها الكثير من دول العالم الثالث (5).

وإذا قارنا البحث العلمي بالدول الأخرى، فهذا الجدول (6) يبين ما تصرفه أكبر الدول:

أمريكا             679 مليار دولار

الصين             551 مليار دولار

اليابان              182 مليار دولار

ألمانيا              143 مليار دولار

روسيا             52 مليار دولار

تقرير اليونسكو عن البحث العلمي (7):

 إحدى الطرق التي يقوم بها اليونسكو بقياس البحث العلمي؛ هي نسبة العلماء والباحثين بالنسبة لعدد السكان؛ مصر في عام 2004 كان بها 150 ألف أكاديمي معظمهم حاصل على الدكتوراه، ولكن قلة بسيطة منهم تعمل بالبحث العلمي، وفي عام 1995 كان هناك 2200 باحث بالمركز القومي للبحوث، منهم 1200 حاصلون على الدكتوراه، بالإضافة إلى 2500 إداري، هذا العدد الكبير من الباحثين يمثل عشرة أضعاف عدد الباحثين في معهد وايزمان الإسرائيلي الذي ينشر أبحاثًا مبتكرة مهمة وبراءات اختراع كثيرة.

نسبة الصرف على البحث العلمي من الدخل القومي (8)

دول العالم الأول

دول العالم الثالث

السويد

3.49%

إيران

0.79%

بلجيكا

3.46%

الإمارات

1.5%

سويسرا

3.19%

كوبا

0.52%

أمريكا

3.42%

مصر             

0.12%

الصين

2.41%

إسرائيل

5.35%

فرنسا

2.35%

 

 

اليابان

3.2%

 

 

 

إسرائيل هي أكبر دول العالم في الصرف على البحث العلمي بالنسبة للدخل القومي؛ ميزانية البحث العلمي في الجامعات والشركات الأمريكية غاية في الضخامة، فمثلًا: ميزانية جامعة هارفارد تساوي عشرة أضعاف ميزانية جامعة برلين، وشركة أمازون تصرف على البحث العلمي والابتكار متوسط 47.3 مليار دولار في العام، وارتفع إلى 81 مليار في عام 2023، أما شركة أبل فقد صرفت على البحث العلمي والابتكار 29.9 مليار دولار، وشركة مايكروسوفت صرفت 27 مليار دولار، أما شركة بوينج لصناعة الطائرات فتصرف فقط 3 مليارات في العام للبحث العلمي والابتكار.

أدى تدهور التعليم والبحث العلمي إلى تدني مستوى الجامعات الحكومية المصرية التي ما زالت متفوقة بمراحل عن الجامعات الخاصة. بالنسبة لترتيب الجامعات المصرية فإن هناك عددًا كبيرًا من طرق التصنيف، ولكن هناك مقياسان هما أهم وأدق المقاييس؛ وهما: مقياس شنغهاي الصيني، ومقياس QS (9،10)، وترتيب الجامعات التي في المراكز الأولى هي:

شنغهاي

QS

1

هارفارد

أمريكا

1

MIT

أمريكا

2

ستانفورد

أمريكا

2

كمبردج

بريطانيا

3

MIT

أمريكا

3

أكسفورد

بريطانيا

4

كمبردج

بريطانيا

4

هارفارد

أمريكا

5

بيركلي

أمريكا

5

ستانفورد

أمريكا

6

يرينستون

أمريكا

6

الكلية الإمبريالية

بريطانيا

7

أكسفورد

بريطانيا

7

معهد زيوريخ للتكنولوجيا

سويسرا

8

كولومبيا

أمريكا

8

سينجابور

 

9

كالتك (جامعة أحمد زويل)

أمريكا

9

جامعة لندن

بريطانيا

10

شيكاجو

أمريكا

10

بيركلي

أمريكا

 

الجامعات المصرية

 

الجامعة

الترتيب

العالمي

 

الجامعة

الترتيب

العالمي

1

جامعة القاهرة

371

1

جامعة القاهرة

371

2

المنصورة

601

2

الجامعة الأمريكية

415

3

عين شمس

731

3

عين شمس

721

4

الإسكندرية

985

4

الإسكندرية

901

5

أسيوط

1001

 

 

 

  

وصدر تقرير من مجموعة من الهيئات، منها مركز البحث الإسلامي والجمعية البريطانية والمجلس البريطاني ومركز البحوث الكندية، في عامي 2010 -2011 بتمويل قطري (11)، وملخص التقرير:

1. تمويل البحث العلمي في مصر يساوي فقط 10% من المفروض استثماره في البحث العلمي، وكل التمويل يأتي من ميزانية الدولة بدون اشتراك القطاع الخاص.

2. لمدة عقود طويلة عُرفت مصر في العصر الحديث بتقديم أعداد كبيرة من الباحثين المتميزين، منهم عباقرة أنتجوا أبحاثًا مهمة في مختلف الدول الغربية، والآن انخفض هذا العدد بسبب سوء مستوى التعليم لعدة عقود.

3. رجال الأعمال غير مهتمين بالبحث العلمي لخدمة الصناعة أو الزراعة أو إيجاد علاقة مع الجامعات ومراكز الأبحاث.

4. هناك مراكز قليلة جدًّا متميزة وينقصها الدعم.

5. الثقافة: الإعلام والجو العام لا يشجع على البحث العلمي، ويساعد على عدم الاهتمام بإحداث تطور، وهذه الثقافة يجب أن تتغير.

6. هناك مشكلة بسبب نقص المياه وتأثير تغيير البيئة على مستقبل الزراعة في مصر، وهناك مجهود يتم لزيادة الرقعة الزراعية وزيادة إنتاج الفدان، ولكن هذا مجهود محدود القيمة بدون تقدم بحثي يتم على نتائجه تحديد المشروعات، وعدم استمرارية الأبحاث والمشروعات عقبة كبيرة.

7. التعاون الدولي في البحوث: هناك خطوات تمت مع أوروبا وأمريكا ودول أخرى ولكنها تعثرت.

8. عدد الباحثين في عام 2012 في مصر كان 98 ألف باحث، وبالتأكيد زاد العدد، ونظرًا لتطور التعليم إلى أسوأ أصبحت مصر في عام 2012 رقم 113 من 142 في مستوى البحث العلمي.

9. تَقدُّم كوريا الجنوبية الضخم الذي كان مماثلًا لمصر بسبب الإنفاق في أوجه البحث العلمي.

10. المركزية الشديدة للبحث الذي تتحكم فيه وزارة التعليم العالي، وهناك هيئتان أكاديميتان للبحث العلمي؛ هما: أكاديمية البحث العلمي، والمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا.

11. عدد الأبحاث العلمية بالنسبة لعدد السكان سيئ جدًّا.

وقد توقفت اليونسكو ومكتبة الكونجرس عن إعلان أرقام الكتب العلمية البحثية المصرية؛ لندرة هذه الكتب. ومجموع ما تمت ترجمته إلى العربية من عصر المأمون حتى عام 2003 لا يعادل ما تترجمه إسبانيا في عام واحد.

وفي النهاية، البحث العلمي في مصر موجود بصفة هامشية بسبب مجهودات فردية من أشخاص نابغين، وهم قلة متواجدون في بعض الجامعات والمراكز البحثية. حجم الإنفاق على البحث العلمي لمشروعات كبيرة تساعد على تقدم الصناعة والزراعة والتكنولوجيا يحتاج إلى تمويل حكومي كبير، وعلى الأقل يساوي القيمة التي حددها الدستور مع هيئة منظمة تشرف على هذا العمل من العلماء وبعيدًا عن البيروقراطية الحكومية، وبالتأكيد بعيدًا عن تدخل الأمن في الأبحاث العلمية. الأمن موجود في كل العالم من بعيد بدون أن يشعر به أحد؛ ليقوم بتنبيه الدولة إلى أي مخاطر على الوطن، ولكنه لا يمكن بأي حال أن يتدخل في الهيئات العلمية وتعيينات المسؤولين عنها والبحوث العلمية وأنواعها.

 المصادر:

1. إهدار استقلال الجامعات، محمد أبو الغار، دار الأهرام للنشر، 2003.

2. Nature Index: The top 10 countries in Scientific Research. July 2019

3. تعديل بعض أحكام قانون مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، قانون 161 لسنة 2019.

4. تصريح وزير التعليم العالي، اليوم السابع الاثنين 9 مايو 2022: ميزانية التعليم 80.6 مليار جنيه وحوالي 8 مليارات جنيه للبحث العلمي.

5. مؤسسة المشكاة، د. نادر فرجاني، تقرير التنمية البشرية للبحث والتدريب، 2008.

6. ما تصرفه الدولة: list of sovereign states by research and development spending in 14 languages. 2022

7. Development of education in the Arab Republic of Egypt UNISCO report

8. Odeca data in innovation and technology Gross domestic spending on R & D. November 2023

9. 2023 Academic Ranking of world universities (CWCU). Graduate School of Education. Shanghai. 2023

10. QS World University Ranking 2023. The 20th Edition of the QS

11. Science and innovation in Egypt. Michael Bond et al., Page 131