البحث العلمي

عادل عوض

البحث العلمي وضرورة الإصلاح

2024.02.12

مصدر الصورة : hespress

البحث العلمي وضرورة الإصلاح

في الثمانينيات نقلت الدول الصناعية الكبرى الكثير من خطوط إنتاجها إلى العالم النامي، حيث كانت العمالة الرخيصة وغير الماهرة متوفرة، الآن تضع هذه الدول استثماراتها في صناعات متقدمة، مثل: الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والطابعات ثلاثية الأبعاد وخلافه؛ ذلك لإعادة إحياء التصنيع في بلادها. وتُعرف هذه العملية بالثورة الصناعية الرابعة (أو الصناعة 4.0) وسوف تؤدي إلى تغيرات تقنية وتنظيمية كبيرة ينتج عنها تقليل الطلب على العمالة غير المؤهلة في البلدان المتقدمة والنامية على السواء، كذلك تَعي حكومات العالم أن مصادر الطاقة المستقبلية ستكون معظمها خضراء أو متجددة، والتي ستعتمد صناعاتها على تقنيات حديثة تتطلب نوعًا متقدمًا من العمالة؛ لذلك سيكون أمرًا ضروريًّا أن تزوِّد مؤسساتنا التعليمية والبحثية خريجيها بالمهارات التقنية والمعرفية اللازمة لهذا العالم الصناعي الجديد.

يتطلب هذا التطوير في العمالة تغييرًا معتبرًا في أنظمتنا التعليمية والبحثية، بل تَطورًا معرفيًّا وتكنولوجيًّا حقيقيًّا نَعِد به خريجينا ومُصَنِّعينا للحاق بعالم الصناعة الجديد الذي أصبحنا على مشارفه.

إن التقدم العلمي للدول لا يقاس فقط بقدرتها على إنتاج التكنولوجيا والمخترعات الجديدة، لكن أيضًا بقدرتها على تكوين مجتمع يستطيع استخدام العلم والتكنولوجيا لمواجهة مشكلاته المستقبلية من طعام ومياه، وصحة، ودواء، وخلافه. إن الإنتاج التكنولوجي للدولة هو فقط قمة "جبل الجليد" لصرح ضخم هو "المنظومة العلمية" والذي لا يُرى أغلبه. هذا الجبل يتكون من عدة طبقات أولها قاعدته العريضة وهي العلوم الأساسية؛ أي: الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء، والتي تعمل كمخزون معرفي إستراتيجي دائم، تُجمع فيه كل المعلومات المتاحة عن العالم المادي والحيوي، وكأنها مجموعة من الخِزَانات الضخمة التي تَحوي ثروات عظيمة، وللوصول إليها لا بد لنا من معرفة شفراتها التي لا يعرفها إلا العلماء المتميزون، فكلما زخرت منظومتنا العلمية بعدد أكبر من هؤلاء العلماء استطعنا أن نجني الكثير من هذه الثروات. فوق طبقة العلوم توجد طبقة التطبيقيين أو المهندسين الذين يحولون الأفكار والتجارب العلمية إلى مُخترعات أو أجهزة تحت الاختبار. وآخر الطبقات أو القمة هي طبقة التصنيع، والتي يتم تصنيع الجهاز فيها بأفضل شكل ممكن، ثم تتبنى إنتاجه شركة أو مصنع، ويتم طرحه في الأسواق ليستفيد منه المستخدم. نحن فقط نرى المنتج أو قمة جبل الجليد، كذلك نستطيع أن نرى أو نخمن طبقة المهندسين/المخترعين، لكننا لا نرى قاعدة الجبل العريضة أو العلوم الأساسية التي يرتكز عليها هذا الصرح.

إن فهمنا للعلوم الأساسية وظواهرها في القرون الثلاثة الأخيرة كان ولا يزال السبب الرئيسي في كل ما ننعم به من قوة وراحة وأمان في هذا العصر، فمثلًا: قادتنا أبحاث علم الأحياء الخاصة بالبكتيريا إلى اكتشاف البنسيلين كمضاد حيوي، وكذلك قادتنا دراسات الظواهر الحرارية في الفيزياء إلى اختراع آلات البخار والمحركات بأنواعها، وكذلك أجهزة التبريد، أيضًا دراساتنا للظواهر الكهربية والمغناطيسية أدت إلى اكتشاف تطبيقات لا تنتهي للكهرباء والتي صارت فيما بعد أساسًا لحضارتنا الحديثة كما نعرفها اليوم. وتدل إحصائيات الأمم المتحدة للتنمية على وجود علاقة وطيدة بين عدد أبحاث العلوم الأساسية لدولة ما وقوة هذه الدولة اقتصاديًّا. 

نعرف أن أعمدة التقدم العلمي والتقني هي التعليم العالي والبحث العلمي، لكن ما هو مستوى البحث العلمي لدينا؟ وكيف نقيسه؟ 

معرفة مستوى البحث العلمي لدولةٍ ما أمر معقد، ويتطلب قدرًا معتبرًا من المعلومات، منها ما هو إحصائي يتم تلخيصه في أرقام تُسهل علينا المقارنة مع الدول الأخرى، ومنها ما هو تنظيمي وإداري يخبرنا عن المؤسسات الأكاديمية والبحثية بها. وسوف أعطي مثالين على هذه الأرقام الإحصائية المهمة؛ الأول: هو عدد الأبحاث المنشورة لدولةٍ ما سنويًّا في المجلات العالمية، والثاني: ما يسمى بمعامل-إتش أو H-Index وهو مؤشر يقيس أهمية الأبحاث التي أنتجتها الدولة من حيث الرجوع إليها من قبل علماء آخرين. ونعرف من الإحصائيات الدولية أن مصر تقدمت في السنوات الثلاث الأخيرة من المرتبة 33 في عام 2019 إلى المرتبة 24 في عام 2022 في كم الأبحاث المنشورة دوليًّا. بالطبع هذا جيد، ويفصح عن اهتمام الأكاديميين المصريين في السنوات الأخيرة بنشر أبحاث دولية، ويمثل تغيُّرًا واضحًا عن العقود الثلاثة السابقة، لكن من المهم أن نعرف أن هذا لا يعني أننا قد صرنا في المركز 24 في البحوث العلمية على مستوى العالم. السبب في ذلك: أن مصر تَعْداد سكانها كبير (تُعد الرابعة عشرة في تعداد السكان عالميًّا) ومن الطبيعي أن تنتج أبحاثًا أكثر من معظم الدول، بل ومن الطبيعي أن تكون في الموقع الرابع عشر لا الرابع والعشرين، المقياس الأهم هو معامل-إتش الذي يعطينا فكرة أكثر وضوحًا عن أهمية أبحاث الدولة عالميًّا والذي تظهر فيه مصر في المرتبة 48؛ لكي يكون لدينا مرجعية ما، دعنا نقارن ذلك الرقم مع أرقام بعض الدول الأخرى، فمثلًا: إيران هي 41 والسعودية 38 وتركيا 36 وإسرائيل 16، كذلك كوريا الجنوبية التي كانت أفقر وأقل إنتاجًا منا في السبعينيات هي 17! كما نرى أن معامل-إتش يدل على أننا متأخرون بحثيًّا حتى عن بعض دول الجوار، فالمراكز العشرون الأولى في هذا التقييم كانت لأمريكا والصين ودول أوروبية والهند وإسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية. بالطبع هذه الأرقام الإحصائية غير كافية لإعطائنا صورة واضحة عن النشاط الأكاديمي والبحث العلمي في مصر؛ لذلك سوف أناقش الوضع الراهن لمؤسساتنا الأكاديمية ولمنظومة البحث العلمي من خلال بعض القضايا والنقاط المحددة والتي أظنها محورية، كذلك سوف أتحدث عن بعض الحلول المقترحة. 

التعليم الأساسي:

يعتمد التعليم الجامعي على المستوى العلمي لخريج المدارس الثانوية وما يعادلها، لكن نتيجة لضعف هذا المستوى، خاصة في المدارس الحكومية، تتأثر المقررات الدراسية في الجامعات كثيرًا بذلك؛ مما يُضعف مستوى الخريج مقارنة بمستوى خريجي جامعات دول أخرى، مثل: الهند، والبرازيل، وماليزيا. فمثلًا: بعض المناهج التي يدرسها طلابهم في المرحلة الثانوية تدرس عندنا في الجامعة؛ لذلك نجد نسبة كبيرة من خريجي الأقسام العلمية في جامعاتنا، خاصة بعض الجامعات الإقليمية، ليس لديهم المهارات الأساسية في تخصصاتهم؛ لذلك لا يمكننا تطوير التعليم الجامعي بمعزل عن التعليم الأساسي.

رفع كفاءة العملية التعليمية:

لكي نَعُد خريجين مؤهلين للخروج لسوق العمل العالمية، يجب أن تكون مناهجنا الجامعية على نفس مستوى المناهج المتفق عليها عالميًّا، أو ما نسميه المناهج القياسية، وهي مناهج محددة ومعروفة في جميع التخصصات، خاصة في الكليات العملية كالعلوم والهندسة والطب والزراعة، وتتبعها معظم جامعات العالم. بالطبع هذه المناهج ليست متطابقة، لكنها متفقة على المعارف الأساسية في كل فرع من فروع العلوم، كذلك فهي متفقة في كمية ونوعية المعلومات والمهارات التي يجب على الطالب أن يحصلها في كل منهج دراسي. 

مشكلة أخرى نجدها في نظام التعليم الجامعي: هي طريقة تدريس المناهج؛ لأن معظم محاضرينا يدفعون الطلاب للاعتماد على حفظ المعلومة أكثر من فهمها والاستدلال عليها، كذلك من المهم تدريبهم على التفكير النقدي والتحليلي الذي لا يكترث به الكثير من المحاضرين. نجد أيضًا العديد من الأقسام العملية تشوه المناهج إما بحذف بعض المواد أو بإضافة أخرى غير مهمة، خاصة عند وضع مناهج التخصصات المختلفة. هناك أيضًا أعمال الجودة في الجامعات، التي من المفترض أن تهتم بتطوير المناهج ورفع كفاءتها، وكذلك تطوير تدريسها، لكن كثيرين يرون أنها غير مجدية؛ لأنها تعتمد على أسطورة مفادها أن كل قسم يحوي العديد من الأساتذة الجيدين القادرين على التدريس بشكل جيد، والجودة سوف تساعدهم في تنظيم التدريس وجعله أكثر كفاءةً، لكن في الحقيقة لا تتعدى نسبة هؤلاء الأساتذة الـ20% في الأقسام. هذه هي المشكلة الرئيسة في مؤسساتنا والتي يجب علينا أولًا الاعتراف بها ثم العمل على حلها. السبب الرئيس في ذلك: هو نظام تعيين المعيدين في الجامعة، والذي يثقل كاهل الجامعة ويورطها في أشخاص، ربما في أحسن الأحوال، لديهم قدرة على التحصيل الدراسي، لكنَّ كثيرًا منهم ليس لديه شغف أو اهتمام بالبحث العلمي، ولا القدرة على التفكير والإبداع. الأفضل أن يُستبدَل نظام التعيين بمِنَح بحثية للمعيدين لمدة ثلاث أو خمس سنوات حتى إنهاء الماجستير والدكتوراه، أما وظيفة الأستاذ الجامعي فالأفضل هو عمل إعلان رسمي يتقدم له عدد من الحاصلين على الدكتوراه، ثم تختار لجنة مكونة من أساتذة القسم وعميد الكلية بعض المتقدمين لمقابلة شخصية وتقديم محاضرة بحثية يتم بعدها تعيين أفضل المتقدمين. هذا ما يتم في أي جامعة في العالم لتعيين عضو هيئة تدريس جديد، وذلك ما يحدث أيضًا في عدد من الجامعات الأهلية والخاصة في مصر، فلماذا لا تتبنى جامعاتنا الحكومية هذا النظام؟

توفير الموارد:

أحد أهم مشكلات جامعاتنا هي قلة مواردها؛ نظرًا لميزانياتها المحدودة، ولأعبائها المالية الكبيرة. لكن المشكلة تكمن في أننا كحكومة ومجتمع لا ننظر إلى التعليم العالي والبحث العلمي كاستثمار حقيقي لأموالنا، وفي الحقيقة هو أهم استثمار يقوم به المجتمع، بل يجب علينا أن نقوم به اليوم وليس غدًا؛ لأن عجلة التطور تسير بسرعة كبيرة في هذا العالم. كذلك من المهم أن تكون الموارد المالية للأقسام كافية لتطوير منظومتي التدريس والبحث العلمي فيها؛ كي تقوم هذه المؤسسات بدورها في تجهيز خريجيها للمستقبل، وكذلك تقوم بوظيفتها البحثية في المجالات المختلفة. سوف يساعد هذا التغيير أيضًا على الحدِّ من البيروقراطية السائدة في هذه المؤسسات، وتعيين موظفين أكْفاء كما هو الحال في بعض الجامعات الأهلية والخاصة، كذلك سوف يقلل من نزيف العقول الدائم لجامعاتنا والذي نعاني منه منذ ستة عقود، والمرتبط بتدني المرتب الجامعي وضعف الإمكانات البحثية والتدريسية لهذه المؤسسات.

إنشاء مراكز بحثية متميزة:

من الضروري أن تشجع الجامعات والمؤسسات البحثية باحثيها المتميزين دوليًّا على إنشاء مراكز بحثية متخصصة تُموَّل من هذه المؤسسات وتعمل على تدريب صغار الباحثين على مهارات البحث العلمي في كليات تلك الجامعات؛ لزيادة أعداد الباحثين المتميزين، وزيادة الإنتاج المتميز من الأبحاث في المجالات المختلفة. في جامعاتنا عدد قليل من تلك المراكز، ومن الضروري إنشاء العشرات منها في كل كلية؛ لأنها سوف تساعد على إحياء دور الجامعة البحثي والتعليمي.

نظام البعثات:

التوسع في نظام البعثات المصرية هو ضرورة ملِحَّة؛ لأننا في أشد الحاجة لعدد أكبر من الباحثين لنقل الجديد في العلوم والتكنولوجيا، على أن يكون قاصرًا على المتميزين من المعيدين والمدرسين المساعدين وليس بالأقدمية؛ فقد ساعد هذا النظام مصر في الربع الأول من القرن العشرين على إنشاء الجامعة المصرية التي كانت في هذه الحقبة مركز إشعاع فكري وأدبي في منطقة الشرق الأوسط حتى الستينيات، وكذلك ساعد بلادًا عديدة في نهضتها العلمية كاليابان والهند ودول شرق آسيا.

المؤسسات الحكومية المموِّلة للأبحاث:

في عام 2006 تم إنشاء صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية التابع لوزارة البحث العلمي؛ لدعم وتمويل الأبحاث العلمية، وهو أحد أهم الهيئات المصرية التي تقدم دعمًا حقيقيًّا لبحوث العلوم الأساسية والتطبيقية في مصر. لكن من الضروري أن يتوسع هذا الصندوق في تمويل ودعم الأبحاث في أفرع العلوم المختلفة، خاصة العلوم الأساسية التي ليس لها مصدر تمويل آخر غير هذا الصندوق. 

قد يكون من الأفضل إنشاء هيئتين أُخريَينِ لدعم وتمويل الأبحاث الخاصة بقضيتَينِ ملِحَّتَينِ هما: الطاقة والصحة. الأولى: لتمويل ودعم البحث العلمي في مجالات الطاقة بشِقَّيها: التطبيقي والأساسي، خاصَّةً أبحاث الطاقة المتجددة كأبحاث الطاقة الشمسية وطاقة الرياح... إلخ. والثانية: لدعم الأبحاث الطبية والبيولوجية المتعلقة بالصحة. الاقتراح الأول سببه هو الأهمية الشديدة لمجالات الطاقة المتجددة في مصر، وكونها من أفضل مجالات الاستثمار العلمي خاصة الطاقة الشمسية. لكن سبب الاقتراح الثاني: هو الزيادة الكبيرة التي تُظهرها الإحصائيات الدولية في الأبحاث الطبية والبيولوجية في السنوات العشر الأخيرة؛ لذلك يجب علينا تشجيع واستثمار ذلك النشاط النسبي في الأبحاث الطبية.