هوامش
محمد حسنيالتصعيد في الشارع الإسرائيلي يكسر تابو "الإجماع الصهيوني"
2025.08.17
مصدر الصورة : AFP
التصعيد في الشارع الإسرائيلي يكسر تابو "الإجماع الصهيوني"
"مظاهرات مستمرة بشكل يومي، تتصاعد نحو الدعوة للإضراب العام، واقتحام نشطاء تصوير برنامج معلنين على الهواء احتجاجهم على الحرب.
دعوة موجهة لرئيس الأركان لحصار الكنيست يطلقها والد أحد المختطفين، بينما يدعو رئيس الكنيست الأسبق لجمع مليون توقيع من أجل مقاضاة الحكومة دوليا".
ليست هذه عناوين صحفية رنانة، أو دعوة إلى الإسراف في التفاؤل، لكن المؤكد أن الأسابيع الثلاثة الماضية تمخضت عما لم تتمخض عنه حرب تقترب من السنتين.
فعلى مدار أكثر من ثلاثة أسابيع قابلة للزيادة، خرجت المظاهرات في عدد من المدن الإسرائيلية بأعداد متباينة، ما بين العشرات في البلدات النائية، والآلاف في تل أبيب، بينما شهد بعضها مصادمات مع الشرطة واعتقالات في صفوف المتظاهرين، الذين لم تفتر عزيمتهم، بل على العكس، فبعد محاولات محدودة للإضراب في محال العمل، أطلقت دعوة إلى الإضراب و التظاهر ، يومي الأحد 17 أغسطس والسبت 23 أغسطس.
الإضراب.. تصعيد نوعي
حملت المظاهرات شعارات واضحة دون مواربة ضد الحرب والإبادة وقرار المجلس الأمني المصغر(الكابينيت) احتلال غزة، وتدعو الجنود والضباط إلى رفض الخدمة. وشارك في بعضها أعداد غير قليلة من العسكريين السابقين برتب مختلفة، وخطب خلالها ضباط برتب كبيرة.
خدشت التظاهرات-ولم تحطم بعد- أوثان "الجيش" و"الدولة" وهو ما تكلل بـ اقتحام مجموعة من النشطاء موقع تصوير برنامج "الأخ الأكبر" وإطلاق صيحات ضد الحرب على غزة.
لن نتطرق هنا لمظاهرات أخرى، مثل مظاهرات الحريديم العنيفة ضد مشروع تجنيدهم، ومظاهرات مصابي الحرب الشاكين من الإهمال، وإن كانت جميعا تزيد احتقان الشارع عموما، وتعكس عزلة حكومة الأقلية، وفقدانها ليس السيطرة وحسب، بل وحتى مساندة مؤيديها.
حاصروا الكنيست
وفي خضم حالة الترقب، توالت الدعوات الغاضبة، خلال اجتماع المجلس الوزاري الأمني(الكابينيت) الذي تمخض فيما بعد عن قرار احتلال غزة، ومن بينها دعوة يهودا كوهين يهودا كوهين، والد أحد الجنود المختطفين، الذي هاجم الحكومة الإسرائيلية واعتبرها "حكومة مذابح"، داعيًا الجيش والشاباك للتحرك ضدها. أما والدة الجندي فرفضت الدعوة إلى انقلاب، لكنها طالبت رئيس الأركان بـ الاستقالة إن رأى قرارات الحكومة خطراً على حياة المختطفين.
ورغم أن هذا التصريح الصادم قد يُواجَه بوصفه "فرديًا" و"عاطفيًا"، ومن مصدر "غير مسؤول"، فإن هناك اعتبارات أعمق:
أولًا، موقف رئيس الأركان الحالي، أيال زامير [1] ، الذي تولى منصبه وسط أجواء هوس بالقوة واستعلاء ، لكنه خرج ليصف احتلال غزة بـ" مصيدة الموت ". فهو يرى أن الخطوة تعني، من ناحية الهدف، فقدان المختطفين إلى الأبد أحياءً أو أمواتًا، ومن ناحية التنفيذ، فهي تتطلب أضعاف القوة البشرية المتاحة، ما يجعلها مجازفة مؤكدة بأرواح الجنود. وإذا كان هذا موقف القائد الأعلى للجيش، فكيف سيكون شعور المجندين وأهاليهم والمقبلين على الخدمة أو الاستدعاء للاحتياط؟
ثانيًا، أن دعوة كهذه نُشرت في صحيفة "يديعوت" البعيدة عن الإثارة والمواقف التقدمية، وجرى تمريرها من الرقابة العسكرية التي اعتادت التعتيم، مما يلمّح إلى أن موقف زامير يعكس رأيًا متقاسمًا بين كبار قيادات الجيش. ورغم الرد المتعالي من حاشية نتنياهو: "على رئيس الأركان أن ينفذ أو يرحل"، فإن السماح بنشر الخبر يكشف عن تصدعات في الطبقة الحاكمة آن أوان كشفها للجمهور.
هل تصوب الدبابات والمدافع إلى الداخل؟
قبل قيام الدولة شهدت العلاقة بين الهجاناة المنظمة المسلحة الأساسية للمنظمة الصهيونية، والتنظيمات "المتطرفة"-حسب وصفها- مناوشات وصلت إلى تسليم بعض عناصرها للسلطات البريطانية، وانتهت خلال حرب 48 بقصف سفينة السلاح ألطالينا، والوقوف على حافة "حرب صهيونية أهلية ". وفيما عدا ذلك لم تعرف إسرائيل مواجهات عسكرية داخلية. كما أن إسرائيل، بغض النظر عن كونها دولة استعمارية عنصرية، تستخدم أدوات ديموقراطية في إداراتها، وتظل الحكومات حريصة، حتى في انقضاضها على الديموقراطية، على استعمال أدواتها، وترك الدبابة والمدفع مصوبين نحو الخارج.
في تلك الديموقراطية الإسبرطية، تقع مقاليد الأمور في يد نخبة عسكرية، بالتأكيد بينها خلافات وتفاوت مصالح- وليس تعارض. هنا تتجلى فكرة "دولة الحرب" بوضوح، فالمصلحة الأساسية للطبقة الحاكمة بتشبيكاتها هي استمرار الحرب، التي تعتبر في عقيدتهم ولو لم يعلنوا، هي ضمان بقاء الدولة، وبالتأكيد ضمان وجودهم في مناصبهم واحتفاظهم أيضا بماكينة الربح الهائلة. يتبع هؤلاء ماكينة إعلامية موجهة، وطوابير من العاملين بالمؤسسات التابعة وشركات السلاح، يحظون بأعلى الرواتب على مستوى الدولة. حتى تصبح حالة الحرب هي موسم الازدهار، والتسويق لبضاعتهم عالميا.
كل ذلك يجعل الاحتفاظ بالوضع القائم، والحذر من انفجارات غير محسوبة، هو الهدف الأهم.
قدموهم للمحاكمة وانقذوا الدولة
تجاوزت الانتقادات للحرب الإسرائيلية حدود الداخل، إذ دعا أفراهام بورج، رئيس الكنيست الأسبق ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية السابق، إلى حملة لجمع مليون توقيع من اليهود حول العالم، لدفع حكومة تل أبيب إلى المثول أمام المحكمة الدولية في لاهاي بتهم ارتكاب جرائم حرب .
وقال بورج في بيانه: "إذا كنت يهوديًا وتشعر بالصدمة مما تفعله إسرائيل… فانضم إلى هذه المبادرة التاريخية". وأضاف: "لن نسمح لليهودية بأن تكون غطاءً لجرائم الدولة".
وختم مؤكّدًا: "مليون يهودي يقولون ببساطة: نحن هنا، ونحن ضد ذلك".
ربما يرى البعض أن أفراهام بورج، شخص يميل إلى العزلة بعد مشواره الحافل، ويتخذ مواقف قد تكون محيرة، من بينها التقدم للمحكمة لمحو تسجيله كـ " يهودي ". لكن في الوقت نفسه، ليس بورج نكرة أو "يساريًا"- باعتبار أن اليسارية تهمة معلبة جاهزة وسريعة التحضير-، وإنما ينتمي بورج لأسرة عريقة الانتماء للصهيونية الدينية، وتولى هو نفسه المناصب المذكورة، لا جدال ولا مزايدة لا على يهوديته ولا على صهيونيته.
يرى بورج أن الحكومة الحالية، تمثل ذروة مسيرة طويلة الأجل عبثت بالمشروع الصهيوني وتودي به إلى الدمار. المجتمع الإسرائيلي في رأيه قد أصبح أربع أقسام: الحريديم الذين يجثمون على صدر المجتمع يأخذون المعونات، ويحسمون الانتخابات ولا يجنَّدون. والصهيونيون الدينيون، الذين يشاركون بنسبة في الحروب.
ليست المشكلة أن هذه الفئات ترى الحرب "شرًا لا بد منه"، بل إن الكارثة أنها تراها خطوة على طريق الحلم المسيحاني [2] وفرصة لتهيئة الأرض لـ"الخلاص". وإلى جانبهم، يقف اليهود العلمانيون الذين حملوا عبء الدولة في السلم والحرب وقد أزيحت أيديهم عن الدفة، فيما يظل العرب داخل الخط الأخضر أسرى بلا قضبان، مهمّشين في مجتمع عنصري يحرمهم من أبسط الحقوق و لا يضمر لهم خيرًا.
ومن قلب هذا المشهد المتصدّع، جاءت تلك التصريحات والمبادرات التي استعرضناها -من صرخات أهالي الجنود، إلى تحذيرات قادة الجيش، وصولًا إلى دعوات شخصيات بارزة في الشتات- كأعراض واضحة لعمق الانقسام. فهي لا تُقرأ كعناوين عابرة أو مادة لإثارة اللحظة، كما لا يجوز ابتلاعها كجرعات تفاؤل مجانية. نحن أمام حالة غير مسبوقة في تاريخ المشروع الصهيوني، حيث تتكشف التشققات في بنية المجتمع، ويتصاعد تعارض المصالح بين أقسام الجمهور، بل وتظهر -ولو بنسبة أقل- تباينات بين أجنحة النخبة الحاكمة ذات النزعة الإسبرطية. هذه اللحظة قد تكون الفرصة الأخيرة لتعويض التخاذل الرسمي أمام شعب يُذبح.