رؤى

أنور فتح الباب

الثقافة والإعلام في قبضة الدولة الشمولية

2024.06.29

مصدر الصورة : AFP

قصة وزارة الإرشاد القومي 1952 - 1970

 

(1)

في 10 نوفمبر 1952، نشرت جريدة "الوقائع المصرية" المرسوم بقانون رقم 270، الذي استحدث إنشاء وزارة الإرشاد القومي. كان هذا المسمى جديدًا على الأذن والوعي المصري. فلم تكن لمصر معرفة بهذا المسمى من قبل، ولا خطر في بال الفئات المتعلمة في مصر.

وقد نص هذا المرسوم في مادته الثالثة على أن نواة هذه الوزارة تتكون من مجموعة من الإدارات والمصالح التي استُقطعت من وزارات وهيئات مختلفة، لكن يجمع بينها جميعًا أمور مرتبطة بالثقافة بوجه خاص، والإعلام الذي لم يكن مفهومه قد اتَّسع بما يتجاوز الإذاعة وإدارات التوعية والدعاية والتوجيه بالوزارات المختلفة.

هكذا تم ضم الإذاعة المصرية إلى الوزارة الجديدة، وكانت تابعة لرئاسة مجلس الوزراء؛ وإدارة السياحة، وكانت تابعة لوزارة التجارة والصناعة؛ وإدارات الدعاية والإرشاد الاجتماعي ومراقبة الأفلام والسينما، وكلهن كن يتبعن وزارة الشؤون الاجتماعية؛ وإدارة المطبوعات، وكانت تتبع وزارة الداخلية. كما تم ضم موظفو المكاتب الصحفية والملحقون الصحفيون بهيئات التمثيل المصري بالخارج، وكانوا يتبعون وزارة الخارجية. وتم استقطاع مجموعة هيئات من وزارة المعارف العمومية هي: معرض وادي النيل، مؤسسة الثقافة الشعبية (أقسام الدراسات النظرية الثقافية العامة)، قسم الدعاية الصحية، دار الأوبرا الملكية، متحف الحضارة المصرية، متحف بيت الأمة. كذلك اقتطع المتحف الحربي من وزارة الحربية والبحرية عدا المكتبة. كما تم ضم أقسام الإنتاج السينمائي والفني من وزارات المعارف والصحة والزراعة والشئون الاجتماعية إلى الوزارة الجديدة. ومن مختلف الوزارات جميع أقسام الإنتاج السينمائي والفني في وزارات المعارف العمومية، والصحة العمومية، والزراعة، والشؤون الاجتماعية[1].

ولعله من اللافت أن هذه الوزارة قد استُحدثت بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط من قيام ثورة 23 يوليه 1952 تعبيرًا عن رغبة النظام الوليد في السيطرة على الأنشطة الخاصة بالثقافة والإعلام المتنوعة، وتحديد جهة إشراف واحدة لإدارة أنشطتها ومتابعتها وتوجيهها وفقًا للاتجاهات الجديدة للنظام، في مرحلة لم يكن قد أسس فيها رؤية خاصة خارج الشعارات العامة التي طرحها في المبادئ الستة لثورة يوليو، والشعارات العامة عن التخلص من الفساد والرشوة والمحسوبية والتطهير.

ومما يلفت النظر أن من اقترح إنشاء وزارة الإرشاد القومي، هو سياسي ممن انتَمَوْا للمعارضة السياسية للنظام الملكي؛ هو المحامي والسياسي فتحي رضوان. فيذكر أنه صاحب فكرة إنشاء "وزارة الإرشاد القومي"، وذلك أثناء توليه لوظيفة وزير دولة في حكومة جمال عبد الناصر الأولى، ويقول في حديث لباحث مصري: "إنني أعتبر أن أهم عنصر في حياة البشر جميعًا، وأهم عنصر من أجل العمل والتغيير هو عنصر الدعاية.. إن كل الأفكار تسكن في الكتب. غير أنها لا تصبح ذات أهمية إلا حين تتصل بالجماهير؛ فذلك الذي يُغير حياة الإنسانية قاطبة.. ولأننا كنا نُصور أنفسنا بعد ثورة يوليو دعاة تغيير، كان لا بد من دعاية لذلك، فرأيت أن تكون هناك وزارة دعاية.[2]

ومن اللافت للنظر أن تاريخ فتحي رضوان يثير الشكوك في دعوته لإنشاء وزارة تحمل اسم: "الإرشاد القومي". فهو قد جمع في ماضيه السياسي بين الانتماء لـ"مصر الفتاة" حزب أحمد حسين المعروف بميوله لدول المحور والآراء الفاشية، وبين الفكرة القومية المصرية الضيقة، والعداء للنظام الليبرالي ودستور 1923 فكان شعار مصر الفتاة: "الله، الوطن، الملك".

وقد حدث خلاف بين أحمد حسين وفتحي رضوان، انتهى بخروج فتحي رضوان من الحزب وتأسيس الحزب الوطني الجديد على مبادئ مصطفى كامل. وكان فتحي رضوان -كما يصفه صلاح عيسي- واحدًا من ثلاثة من الرجال -والاثنان الآخران هما: عبد الرزاق السنهوري، وسليمان حافظ- ممن فقدوا الثقة في أن الحكم الدستوري الديمقراطي القائم على تعدد الأحزاب، قادر على أن يحقق أحلام الوطن، وحرضوا ثورة يوليو على الانقلاب على الدستور، وعلي الانصراف عن الطريق الديمقراطي[3]. وكان على دراية بأساليب الدعاية في ألمانيا وإيطاليا، وله كتاب عن موسوليني وأساليب الدعاية في إيطاليا والسيطرة على الرأي العام.

وقد عُين فتحي رضوان وزيرًا للإرشاد القومي، بعد إنشاء الوزارة مباشرة؛ التي كانت أول وزارة تستحدثها الثورة إلى جانب الوزارات القائمة بالفعل[4].

(2)

يحمل مفهوم "الإرشاد القومي" ملامح فيها وصاية "أبوية" مُلمة بالحقائق والمعارف، ولا تكتفي بذلك، بل تجعله هدفًا قوميًّا. وهي سمة النُّظُم ذات التوجه الشمولي، التي ترغب في إخضاع الرأي العام لتوجهاتها وميولها. رغم أن العالم كان قد تخلص للتو (بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) من أكبر نظامين شموليين في ألمانيا وإيطاليا، لكن الحقيقة الموضوعية تقول: إن هناك نُظُمًا في الشرق والغرب اتبعت هذه السياسة والتوجه؛ سواء كانت في العالم الرأسمالي أو الاشتراكي[5]. ولا ننسي قواعد "زدانوف" في الأدب والثقافة في الاتحاد السوفييتي، ولا كارثة "المكارثية" في الولايات المتحدة.

وبقراءة تحليلية متأنية لنص مرسوم تشكيل الوزارة، نلمح سيطرة فكرة الرغبة في الهيمنة عبر فكرة الوصاية واحتكار الوعي والمعرفة بالمصلحة الحقيقية "للجماهير"، رغم أن بعض الفقرات تعرض الأفكار بشكل غامض، وتشوبها روح التبسيط والسذاجة، وتلك سمة أي فكرة شمولية تحاول الوصول للأفراد بهدف الإقناع والترويض، وإعطاء الفكرة طابع الحرص على المصلحة العامة والوطنية.

فالمرسوم يفتقر إلى طرح فكرة محددة لطبيعة الوزارة ومهامها، وتغيب عنه رؤية متكاملة. فهو يقع في مأزق طرح فكرة التوعية والإرشاد والتحفيز لخدمة الوطن والمواطن (راجع الفقرة الأولى من المادة الأولى). ثم ينتقل في نفس الفقرة نقلة غريبة وطريفة، وذلك بالانتقال من الحديث عن الوعي والانتماء الوطني، إلى الحديث عن "إرشاد المواطنين لمكافحة الأوبئة والآفات الزراعية والعادات السيئة، وبصفة عامة ما يُعين على جعلهم مواطنين صالحين". وقد يدهش القارئ لهذا الربط بين كل ما سبق من الفقرة، وبين الآفات الزراعية، ثم انتقال النص مُعرِّجًا على مقاومة العادات المؤذية (التي لا يذكر أمثلة منها) ليكون الهدف إخراج المواطن الصالح.

في الفقرة الثانية من المادة الأولى يذهب المرسوم إلى هدف آخر وهو تيسير الثقافة الشعبية لأفراد الشعب، وتنويعها، وتزويدها بما يُعين على توسيع نطاقها، وإفادة أكبر عدد ممكن منها، دون أي طرح لمفهوم ومعنى ومكونات الثقافة الشعبية.

ولعل المواد الثالثة والرابعة والسادسة تُعطي نفس الهدف والمعني؛ ففي الهدف الثالث يذهب للقول بأن الهدف من الوزارة هو: عرض النشاط الأهلي والحكومي على الرأي العام والمحلي، وإظهار ما تم من أعمال، أو ما وُضع من مشاريع، وهو هدف إعلامي دعائي محدد تسعى له كل النُّظُم لتثبت جدارتها بالحكم والإدارة. كذلك في الفقرة الرابعة يوضح القرار أن المستهدف هو بسط وشرح قوانين ولوائح الحكومة الجديدة، والدعوة إلى تنفيذها. في حين يذهب الهدف السادس إلى أن هدف الوزارة تزويد الرأي العام العالمي، ودوائر الثقافة والسياسة بأدق البيانات والإحصاءات، بما لا يخرُج عن نفس الهدف الثالث السابق عرضه.

على أن من صاغ مشروع القرار قد انزلق إلى لغة غلب عليها الطابع الإنشائي، وغابت عنها أي رؤية محددة لهدف الوزارة واتجاهاتها، وخاصة عندما يسقط في منزلق الحديث عن التصدي للإشاعات التي تسيء إلى سمعة البلاد، أو تؤثر على معنويات أبنائها، أو وحدتهم، أو ولائهم للوطن. وبذلك ينصرف المرسوم من الهدف الإعلاني الإعلامي إلى المنزلق الأمني، الذي يَعتبر أي آراء مخالفة مجرد إشاعات مغرِضة، ويحصر مفهوم الحقيقة والولاء الوطني فيما يرضى عنه النظام السياسي. وهو ما صار سياسة ثابتة لمثل هذه الأجهزة في العصور التالية.

(3)

وقد تولى فتحي رضوان الوزارة بصفته أول وزير للإرشاد القومي من 17 نوفمبر 1952 إلى 18 ديسمبر 1952 وكان وزيرًا مدنيًّا، ثم تولاها محمد فؤاد جلال (عسكري) من 19 ديسمبر 1952 حتى 17 يونيه 1953، ثم الصاغ صلاح سالم من 18 يونيه 1953 حتى 2 نوفمبر 1955، ثم عاد فتحي رضوان لتولي الوزارة حتى قيام الوحدة المصرية السورية في فبراير 1958.

وفي أكتوبر 1958 استُحدثت وزارة الثقافة، وتم الدمج بين وزارة الإرشاد القومي والثقافة تحت مسمى: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وتولاها ثروت عكاشة أحد أشهر الضباط الأحرار، وقد كان معروفًا بنشاطه في الترجمة، والاهتمام بالشؤون الثقافية من قبل عام 1952[6].

وفي 1962 خلَفَ د. عبد القادر حاتم (عسكري) د. ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة والإرشاد القومي. وفي وزارة علي صبري 1962 أصبح د. حاتم نائبًا لرئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القومي والإعلام. وبذلك أصبح هناك ما يسمى بالإعلام، وفي 1965 عادت الوزارتان فانفصلتا فعُيِّن د. سليمان حزين وزيرًا للثقافة، وتولى الضابط أمين هويدي وزارة الإعلام[7].

وفي 10 سبتمبر 1965 عاد ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة، وأُسنِدت وزارة الإرشاد القومي لمحمد فائق (عسكري)، وفي 26 إبريل 1970 تولى محمد حسنين هيكل وزارة الإرشاد القومي مع استمرار ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة[8].

وبعد وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، تقدم هيكل باستقالته، فأُسنِدت الوزارة مرة أخرى لمحمد فائق، حتى إقصائه في مايو 1971؛ لاتهامه في قضية مراكز القوى، وآلت الوزارة لعبد القادر حاتم بعد ضمها للثقافة[9].

ونلاحظ أنه في الفترة الناصرية من 1953/ 1970، ومنذ إنشاء الوزارة، لم يتولَّها سوى اثنين من المدنيين هما: فتحي رضوان، ومحمد حسنين هيكل، وتولاها خمسة من العسكريين. وهذا مؤشر لأهمية الوزارة، خاصة بعد أن انفصلت عن وزارة الثقافة وأصبح ضمن تبعيتها الإذاعة والتلفزيون، وهيئة الاستعلامات، وشركة صوت القاهرة، وبذلك سيطرت على وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، خاصة وأن الصحف كان جزء منها يخضع لهيئة الاستعلامات[10]. وانتهي الأمر تمامًا بخضوع الصحافة للدولة بعد تأميم المؤسسات الصحفية الخاصة وفقًا للقانون 56 لسنة 1960 لتنظيم الصحافة[11] وأخضعها للتنظيم السياسي الوحيد وقتها "الاتحاد القومي"، واشترط لإصدار الصحف أو العمل بها موافقة الاتحاد القومي. بينما آلت لوزارة الثقافة مؤسسات النشر، وقصور الثقافة، ومعاهد الفنون، ومؤسسة السينما والمسرح والموسيقى.

 

[1] انظر: جريدة الوقائع المصرية، عدد 149 مكرر، بتاريخ 10 نوفمبر 1952، نص المرسوم بقانون رقم 270 لسنة 1952.

[2] د. مصطفى عبد الغني: المثقفون وثورة يوليه، ص 58، مكتبة الأهرام للترجمة والنشر والتوزيع، ط 1، القاهرة 2010

[3] صلاح عيسى: دستور في صندوق القمامة، ص101، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2013.

[4] د. محمد الجوادي: البنيان الوزاري في مصر 1878 / 1996، ص 38، مكتبة الشروق، ط 1، 1996.

[5] راجع: كتاب د. مصطفى الحفناوي: الدعاية السياسية والاستعلام، هيئة قصور الثقافة، القاهرة 2012.

[6] د. محمد الجوادي: المرجع السابق، ص 38

[7] د. محمد الجوادي: المرجع السابق، ص 44

[8] د. محمد الجوادي: الوزراء ورؤساؤهم ونواب رؤسائهم ونوابهم.. تشكيلاتهم وترتيبهم ومسؤولياتهم، 1952 / 1970، دار الشروق، ط2، 1997 م، القاهرة، مراجعة جداول التشكيلات.

[9] د. محمد الجوادي: البنيان الوزاري، ص 44

[10] انظر: جريدة الوقائع المصرية، العدد 16، 18 يناير 1966، قرار رئيس الجمهورية رقم 72 لسنة 1966 بإعادة تنظيم وزارة الإرشاد القومي.

[11] انظر: جريدة الوقائع المصرية، العدد 39، الصادر في 17 فبراير 1966، القانون رقم 449 لسنة 1966 لتنظيم وزارة الثقافة.