رؤى

أنور فتح الباب

السويس - سيرة مدينة المقاومة

2024.04.19

مصدر الصورة : ويكيبيديا

السويس - سيرة مدينة المقاومة

1

حارة صغيرة شهدت جزءًا من العالم القديم
عندما جاء أجدادنا وحطوا في هذا المكان
اتخذوا لأنفسهم بيوتًا صغيرة متلاصقة ومتلاحمة
حتى لا ينفذ منها الهواء ولا يقتحمها الغريب
(محمد الراوي – تل القلزم)

مثلت السويس واحدة من أهم مدن المقاومة في مصر؛ فهي مدينة صنعت المقاومة وصنعتها المقاومة، مدينة ساحلية ذات ظهير صحراوي واسع، تعيش صعوبة الحياة في بيئة صحراوية فقيرة وبحر هادئ، لكنه لا يعطي الرزق إلا بعد عنت وعناء.

لعبت المدينة هذا الدور منذ تاريخها المبكر حين كانت إحدى قلاع التصدي لهجمات بدو الصحاري على طرق القوافل التجارية المتجهة للشام أو بلاد (بونت)؛ فالمدينة صنعتها الطبيعة والجغرافيا، ولكنها ليست صنيعة "الحتمية الجغرافية" فقط، ولكن صناعة البشر الذين صنعوا الحياة بالحيلة والصبر والعمل الدؤوب، وقاوموا عوامل الجغرافيا والطبيعة قبل ظهور المفاهيم الحديثة عن الوطنية والمواطنة، ولكن عبر الانتماء الفطري الإنساني الساعي للحياة.

نحن نواجه مدينة مثقلة الحركة رغم صعوبات الحياة؛ فوضعها الجغرافي جعلها في موضع صعب وشاق في التاريخ الحديث، ومع نمو مفهوم الوطنية المصرية برز اسم (السويس) منذ الثورة العرابية.

على أن ما نريد أن نلفت الأنظار إليه هو أنه لا يجوز التحدث عن شخصية "سويسية" ذات سمات خاصة تنفصل عن عموم الشخصية الوطنية المصرية، أو الشخصية الإنسانية، لكنَّ هناك إنسانًا عاش في ظروف معينة وتأثر بالمحيط البيئي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ربما يكون لقسوة الحياة وصعوبة طلب الرزق أثرهما في أن يسعى أهل السويس للعمل الجماعي؛ لمواجهة هذا الواقع سواء في الصيد، أو استصلاح الأراضي، أو ترويض الطبيعة ومقاومة الصحراء.

لعل "مصر الدولـة" أدركت هذه الحقيقة منذ العصور المبكرة؛ لأن القلعة العسكرية لكي تقوى وتستقر لا بد أن تتحول إلى مركز "حضري وحضاري".

اتصلت "سيكوت"، وهو المسمى الأول للمدينة، بقناة تصلها بالنيل هي قناة "سيزوستريس"، والتي قيل في شَقها نظريات متعددة؛ منها: ربط البحرين المتوسط والأحمر، أو تنشيط التجارة مع بلاد بونت والجزيرة العربية وآسيا والهند، أو القول بأن هدفها هو تزويد المدينة بالمياه وخلق حياة جديدة.

ظلت القناة مثار اهتمام معظم القوى التي حكمت مصر منذ العصور القديمة حتى الاحتلال الفارسي في ظل حكم الإمبراطور "دارا"، ثم في عصر البطالمة، ثم في ظل حكم الرومان، لا سيما عصر الإمبراطور "تراجان"، ثم أثناء عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. تُرى كم بذل المصريون، وكيف شكلت شخصية من عملوا في ظروف صعبة؛ سواء كان من قسوة الصحراء، أو ظروف العمل؛ لتستمر المأساة حتى شَق القناة بشكلها الحالي في فترة زمنية استغرقت 10 سنوات؛ من عصر سعيد 1859 حتى عصر إسماعيل وافتتاحها في نوفمبر 1869.

تجلت المدينة بأسماء متعددة: "سيكوت" "أرسينوي" "هيرونوبوليس" "كليوباتريس" "كاليزما" "القُلزُم"، ولعل تعدد تجليات أسماء المدينة ووجهاتها هو ما أعطاها هذا الزخم الحضاري التراكمي حسب نظرية د. ميلاد حنا في كتابه "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية"[1]، من كون الحضارة المصرية تتكون من رقائق متراكمة من الحضارات، نفس السمات التي تَسِم تاريخ السويس الحضاري عبر تنوع تراكمي للحضارات المصرية القديمة، والبطلمية/ الرومانية والقبطية، ثم الإسلامية، فالأفريقية، وحضارة البحر المتوسط. فالسويس تحمل نفس المكونات، لكن بعمق حضاري أوسع وأكثر انفتاحًا على عالم الشام وآسيا، ضاربة في عمق التاريخ المصري عبر كفاح الإنسان وجهده الحضاري؛ لذلك لن تعجب كثيرًا أمام نجاح الناس في التغلب على مشكلة المياه بهذه القنوات المتعددة، والحصول عليها عبر السفن بنقلها من الطور وبئر "عجرود" وجنوب سيناء للسويس.                              

قد تكون فكرة الجماعية هي إحدى معاني المقاومة؛ حيث لا يُنسب النضال لفرد بعينه. ترى ذلك في سيرة أوليائها الصالحين كسيدي "عبد الله الأربعين" الذي يُفسَّر اسمه بكونه اسمًا لأربعين عاملًا استشهدوا في حفر القناة، ويتحول الاسم إلى أسطورة تحتمل الإثبات والنفي، بل إن أكبر أوليائها "أبا يوسف بن محمد بن يعقوب" المعروف باسم سيدي عبد الله الغريب، والذي تذكر بعض المصادر غير الموثقة أنه قاد معركة "برزخ السويس" في العصر الفاطمي ضد "القرامطة"، رغم أننا نفتقد أي ذكر له في المصادر الأساسية للعصر الفاطمي.

2

 أحلى ما يعمل إنسان في حياته يا ولدي

يزرع ضل

أحلى ما تحس

لما الضل اللي زرعته

تشوفه مرمي على وشوش الناس
(وجوه على الشط)

عبد الرحمن الأبنودي

 تجد الأمر كذلك في ثورة 1919، لا يظهر دور كبير للسويس بسبب العزلة النسبية للمدينة بعد الاحتلال البريطاني 1882 وقطع خط السكة الحديدية، الذي أنشئ في عهد (سعيد).

بينما برز دور السويس بعد توقيع معاهدة 1936، التي نصت على إنهاء الوجود البريطاني في المدن المصرية وتركزها في منطقة القناة، وتعهدت فيها مصر بإنشاء المطارات، والسكك الحديدية، والطرق البرية، التي عُرفت بطرق المعاهدة لخدمة القوات البريطانية؛ لدعمها حال قيام الحرب، وعادت السويس لترتبط عبر السكك الحديدية بالوطن الأم، ومد طريق القاهرة/ السويس البري الصحراوي.

كذلك أدى تركز معسكرات قوات الاحتلال (الأورنس) في منطقة القناة إلى فتح فرص عمل للمصريين في مهن، مثل: النجارة، والميكانيكا، والعمل في أعمال الخدمة اليومية. كما فتح المجال أمام تجار الجملة للعمل كموردين للمواد الغذائية.

وازداد توسع السويس بعد إنشاء معامل تكرير البترول وصناعة (الزارير) والأسمدة، وأصبحت مركز جذب للقادمين من (الشرقية) ومحافظات الصعيد؛ لتوفر فرص العمل والحياة، وزاد توسع العمران، فزاد عدد سكان المدينة؛ إذ وصل عام 1937 إلى 49,686 نسمة، وفي 1947 وصل إلى 107,244 نسمة[2]. ولعل هذه الزيادة السكانية كان لها أثر في زيادة النشاط الاقتصادي بالمدينة شاملًا الصناعة والصيد، الذي جذب فئات من البشر من مستويات اجتماعية تنتمي لشرائح طبقية ومناطق جغرافية مختلفة: فلاحين، وعمال يومية، وأفندية، وموظفين من مستويات علمية وثقافية متباينة، فضلًا عن حضور الجاليات الأجنبية؛ لتصير السويس مدينة حضرية منفتحة على الحياة العصرية، فغدا لاتساع مصالح الشرائح الاجتماعية المتعددة أثره في خلق روح حاضرة "مدينية" وطنية، تصادمت مصالحها مع الوجود الإنجليزي الكثيف والمرهق في المدينة، والذي كان يتحدى الوجود الوطني، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية 1939/ 1945، زارعًا الشعور بالتململ من التواجد الأجنبي والتشبث الإنجليزي بالبقاء في منطقة القناة، وطرَحَ أفكارًا لبقائه واستمرار تمركزه عبر قاعدة دائمة لإنجلترا في المنطقة، أو من خلال فكرة (حلف) دفاعي مشترك بين تركيا ومصر والدول الغربية؛ للدفاع عن الشرق الأوسط أمام "المد الشيوعي"، ومع محاولات متعددة للتفاهم السياسي عبر المفاوضات، أو عن طريق عرض القضية المصرية على مجلس الأمن عام 1947، الذي ترك القضية معلقة دون رد حاسم. ولكن مع نشوب حرب فلسطين والهزيمة العربية، زاد المد الوطني والرغبة في التخلص من هذا الوجود الثقيل.

 مع نجاح حزب الوفد في انتخابات 1950، وعودته للحكم باعتباره الحزب صاحب الجماهيرية الواسعة، وإبان دخوله في مفاوضات لإنهاء الوجود البريطاني من مارس 1950 إلى أكتوبر 1951، وفشله في التوصل لاتفاق مُرضٍ لمصر، قام رئيس الوزراء آنذاك مصطفى النحاس بإلغاء معاهدة 1936، وبإلغائها في أكتوبر 1951 رفع الغطاء عن الوجود الشرعي لبريطانيا، وفتح أبواب الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني. ومع تشكل كتائب الفدائيين ضد المحتل البريطاني في منطقة القناة، وخاصة الإسماعيلية، كان للسويس وضعها الخاص؛ حيث اتسع فيها التحرك الشعبي، وتصاعد المد الجماهيري الذي طالب بانسحاب العمال المصريين من العمل بالمعسكرات البريطانية وعددهم زهاء 80 ألف عامل،[3] فقوبلت الدعوة باستجابة واسعة من العمال، كذلك ارتفعت نداءات الكفاح المسلح، وتكوين كتائب التحرير، وأُنشئت معسكرات لتدريب المتطوعين على استعمال السلاح، وحرب العصابات، وافتتحت مكاتب التطوع لهذا الغرض.[4]

ولعل المدهش في الأمر هو حركة الاكتتاب الواسعة من أجل التبرع للفدائيين؛ إذ لم تقتصر على الأهالي من المصريين، بل شملت بعض أفراد الجاليات الأجنبية المقيمين بالسويس، فقام أعضاء الجاليتين الإيطالية واليونانية بالسويس من موظفي البنوك وشركة قناة السويس بجمع 800ج للمساهمة في تدعيم حركة الفدائيين.[5]

ومن الممكن تفسير مساهمة الجاليات الأجنبية (اليونانية والإيطالية خاصة) بأنه يعود لعاملين، أولهما: طول وجود هاتين الجاليتين بالسويس، والاختلاط مع الوطنيين من الأهالي، وثانيهما: أن البلدين كانا قد شهدا حركة مقاومة واسعة أثناء الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية، فنشأت بهما حركات "الأنصار" التي شكلت نمطًا من أشكال المقاومة الشعبية ذاع صيتها عبر العالم.

تشكلت إذن كتائب للفدائيين من العناصر الوطنية لأهل المدينة وضباط الجيش، عُرفت بلجان (الميثاق الوطني) وحددت اللجان أهدافها في:

1-  مقاومة الخونة من الموردين للجيش البريطاني.

2-  الحصول على الأسلحة والذخيرة.

3-   تدمير المعسكرات البريطانية.[6]

بدأت العمليات الفدائية بمهاجمة الجنود الإنجليز في الشوارع والاستيلاء على أسلحتهم بواسطة راكبي الدراجات والموتوسيكلات، وتسبب ذلك في استنفار القوات البريطانية وإصدارها قرارًا بتكثيف الوجود العسكري داخل شوارع السويس.[7]

وبدأت السيارات البريطانية تجوب الشوارع بشكل استفزازي، واحتلت جمرك السويس وبعض المناطق الحيوية، وتواصلت حركة هجر العمال المصريين المعسكراتِ البريطانيةَ، ووصل عددهم في السويس إلى 9 آلاف عامل، وهذا هو أكبر عدد؛ فقد بلغ في بورسعيد 3353 عاملًا، والإسماعيلية 7 آلاف، والزقازيق وفاقوس 6650، والتل الكبير 6600، وأبو حماد 2478، والقرين 500، وفي مجموع القاهرة 8000.[8]

هذا السلوك ربما أظهر تبلور الروح الجماعية النضالية للمصريين، الذين قدموا الوطن والحرية على لقمة العيش!

تركزت هجمات الفدائيين المصريين على محطة المياه (الفلتريشن)، التي تمد الإنجليز بحاجتهم من المياه قرب منطقة "كفر أحمد عبده"؛ إذ تصاعد الكفاح الوطني ابتداء من ديسمبر 1951، وشمل أيام 3، 4، 5، 7، 8، 9 ديسمبر؛ حيث سقط الشهداء المصريون وبلغ عددهم 28 شهيدًا من الأهالي، و22 من رجال البوليس، بينما سقط للإنجليز 22 قتيلًا، وأصيب أربعة منهم بجروح مختلفة.[9]

انتهى الأمر بقيام الإنجليز بإنذار محافظ السويس إبراهيم زكي الخولي بضرورة إخلاء كفر أحمد عبده من السكان، فقوبل الطلب بالرفض، وفي صباح السبت 8 ديسمبر حشد الإنجليز 6000 جندي، و250 دبابة، و500 مصفحة، وقاموا بهدم منازل الأهالي بألغام ودبابات "السنتريون". ولكن هذا العنف لم يمنع الأهالي من المقاومة والصمود، فاصطدموا مع الإنجليز يوم 9 يناير 1952، فقاموا بنسف محطة المياه التابعة للإنجليز الذين ردوا بإطلاق ألف رصاصة على المستشفى الأميري وسيارات الإسعاف وناقلات المرضى.[10]

على أن المقاومة أصيبت بضربة قوية بعد أحداث الإسماعيلية يوم 25 يناير 1952، وحريق القاهرة 26 يناير 1952، وإقالة حكومة الوفد، وتعاقب أحزاب الأقلية على الحكم، وتشديد القبضة الأمنية على حركة الفدائيين، وحل مجموعاتهم، والحد من نشاطهم، وانتهى الأمر بقيام ثورة 23 يوليه 1952.

3

عايشة سويسنا الغنوة الصابحة                             
عايشة الفرحة وناصبة الزينة                               
شفت غناها ربيع في المينا                               
غنت للأطفال وشيوخها وللشغيلة                            
غنت في الأيام الصعبة                                 
ولسه غناها شراع وسفينة                              

كامل عيد - السويس تغني

مع قيام ثورة 23 يوليه 1952 اتسعت السويس حضاريًّا وسكانيًّا؛ حيث بلغت الزيادة السكانية في 1947 /1960 حوالي 24,2، وكان معدل نمو السكان 4,9%، ويرجع ذلك للنهضة الصناعية بعد عام 1952؛ حيث مثلت السويس المدينة الأولى في تصنيع البترول وتكريره، وأصبحت تضم أكبر معملين للتكرير، وفي عام 1956 بلغت طاقتهما الإنتاجية 6,2 مليون طن، فضلًا عن توسيع ميناء السويس واعتباره الميناء الثالث بعد الإسكندرية وبورسعيد.[11]

زاد نمو السويس، وظهر اهتمام خاص بها من حكومة الثورة، تمثل في إنشاء الجامعة الشعبية "نواة قصور الثقافة"، ثم إنشاء أول معهد اشتراكي في مصر لتدريس دورات عن الاشتراكية العربية وتدريس الفكر الاشتراكي وميثاق العمل الوطني؛ حيث تخرجت كوادر شبابية مشبعة بثقافة المرحلة الثورية، ذات نزوع وطني انخرطت في العمل الوطني والثقافي والسياسي.[12]

ومع هزيمة 5 يونيه 1967 انعكس ذلك على الخبرة الوطنية للكوادر السياسية التي تخرجت في معهد الفكر الاشتراكي، ومنظمة الشباب الاشتراكي، والعناصر الوطنية المستقلة، فاتجهوا نحو تأسيس تنظيم عمل شعبي لاستقبال الجنود العائدين من سيناء بعد الانسحاب والسير الطويل؛ ليقدموا لهم أشكال الرعاية والعناية الطبية والنفسية، وكذلك تقديم الطعام والدواء، فظهر الشبان الذين شاركوا في قوات الدفاع الشعبي، الذين قاموا بحماية الأهداف الحيوية في المدينة كالمستشفيات، ومحطات الكهرباء، والاتصالات، والمياه، والمصالح الحكومية.[13]

وبرز عندئذٍ الفن كسلاح للمقاومة عبر فرقة "أولاد الأرض" التي شكلها الكابتن غزالي من مجموعة شباب السويس الرياضيين، الذين ارتبطوا بالعمل الشعبي والرياضة؛ إذ انبعثت فكرة تشكيل فرقة تغني على السمسمية (الآلــــــــــــــة الموسيقية الأولى في السويس) التي شدت بأغنيات وأناشيد تعبر عن الحالة وقتها وبشكل متميز، تنبع قيمته من أنه خارج من أرض المعركة.

في نفس الوقت ظهرت تجربة ثقافية جديدة في السويس تدعم ثقافة المقاومة؛ وهي "سينما الخندق"، وهي تجربة تقوم على تقديم العروض السينمائية في المخابئ والملاجئ التي يستخدمها الأفراد للاحتماء وقت الغارات. ويسجل المرحوم الأستاذ (حامد حسب)[14] شهادته باعتباره مدير الثقافة في هذه الفترة بقوله: "قمنا بتجهيز الخندق للعرض، بتعليق ملاءة سرير بيضاء على الحائط؛ لتقوم مقام الشاشة، وأحضرنا ماكينة السينما 16م، ونظرًا لانخفاض السقف قررنا أن يجلس الناس بجانب الحوائط[15]، ومع نجاح التجربة تم عمل "حصر لجميع الخنادق التي بها تجمعات، ووضع جدول عمل ومواعيد لكل منها لا تقتصر على العرض السينمائي، بل يصحبها متحدثون في الدين والثقافة والسياسة من الصحفيين والأدباء الذين كانوا يفدون لزيارة الجبهة، وولدت بذلك فكرة "سيما الخندق".[16]

في نفس الوقت تشكلت منظمة "سيناء العربية"، بإشراف المخابرات المصرية؛ للقيام بعملياتها خلف خطوط العدو، وكانت أولى عملياتها على يد الفدائي الراحل غريب محمد غريب، أول من قام بأسر جندي إسرائيلي عندما حاول الإسرائيليون رفع علمهم على "شمندورة" وسط القناة؛ ليثبتوا ملكيتهم لنصفها، فتصدى لهم الفدائيون (غريب محمد غريب، مصطفى هاشم، محمد عبد ربه)، وهذا الأخير هو بطل السويس في التجديف. 

ظهر التشكيل الكامل لمنظمة (سيناء العربية)؛ لتقوم بعملياتها في (سيناء) حين التحق بها (محمد سرحان، منجي عوض الله، سعيد البشتلي، محمود طه، إبراهيم سليمان، فايز حافظ أمين، أشرف عبد الدايم، أحمد العطيفي، عبد المنعم قناوي).[17]  

4

فات الكتير يا بلدنا ما بقاش
إلا القليل

وعضم إخواتنا نلمه نلمه                           
نسنه .. نسنه                                
ونعمل منه مدافع وندافع                            
ونجيب النصر .. هدية لمصر
ونكتب عليه أسامينا                              
الكابتن غزالي

 تعددت عمليات منظمة (سيناء العربية)، ولكن أعظم هذه الأدوار كان أثناء حرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر 1973 في الدفاع عن السويس بعد اختراق العدو للجبهة المصرية في عملية "الثغرة"، ومحاولة دخول السويس في 24 أكتوبر 1973.

في هذه المعارك يجب تثمين الجهد الجماعي الذي قامت به المقاومة الشعبية مع الجيش الثالث الميداني في الدفاع عن المدينة بالداخل والخارج، والدور الذي لعبه المسجد أثناء المقاومة ممثلة في الراحل الشيخ (حافظ سلامة) وضباط الجيش، ودور ضباط الشرطة والمدنيين. ويظهر إبداع المقاومة في كيفية استغلال الإمكانات المحدودة أو المتاحة من المواد التموينية والوقود والأدوية في تسيير الحياة اليومية طوال المئة يوم من الحصار الذي تعرضت له المدينة، وكيف انتظمت المقاومة الشعبية لدحر العدو ومنعه من دخول المدينة، ويظهر كذلك في المعارك البطولية للمقاومة عند مزلقان (البراجيلي) و(الهاويس) ومزلقان (الشهداء) وميدان الأربعين، والمعركة البطولية في قسم الأربعين وشهدائها الأبطال: أشرف عبد الدايم، وفايز حافظ أمين، وإبراهيم سليمان.

هؤلاء هم مَن خلَّدتهم الذاكرة الوطنية والتدوين، فماذا عن الجنود المجهولين؛ رجال ونساء وأطباء وممرضين وممرضات وعمالَ خدمات ورجال إسعاف ومطافئ ومحطات الكهرباء والمياه، ومن أداروا المخابز في ظل حصار جبان منع الماء والدواء عن الأهالي؟ كل هذا تاريخ يحتاج إلى إعادة قراءة وتدوين، وتكوين سردية لتاريخ شعبي للمقاومة في السويس تمجد أهلها وبطولاتهم.


[1] د.ميلاد حنا: الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، من ص 15 إلى 28، سلسلة الهوية، والهيئة العامة لقصور الثقافة، من ص 15 إلى ص 25، القاهرة 2020.

[2] د. محمد عبد السلام حسين: السويس محافظة وحاضرة، سلسلة عبقرية المكان، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012.

[3] عبد الرحمن الرافعي: مقدمات ثورة 23 يوليه 1952، ص 51 ط3، دار المعارف، القاهرة، 1987.

[4] طارق البشري: الحركة السياسية في مصر من 1945 إلى 1952، ط2، دار الشروق 1987، ص 501.

[5] حسين العشي: معركة كفر أحمد عبده، ط1 1989، دار المعارف، ص 35، 36  

[6] حسين العشي  :  المرجع السابق ص 36.

[7] حسين العشي : المرجع السابق:  ص 41.

[8] حسين العشي  : المرجع السابق  : ص 42، 43.

[9] عبد الرحمن الرافعي: المرجع السابق، ص 67.

[10] عبد الرحمن الرافعي المرجع السابق: ص 87.

[11] د. محمد عبد السلام حسين: المرجع السابق، ص 24.

[12] حمد الشافعي: شموس في سماء الوطن، مكتبة الأسرة 2002، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص243.

[13] محمد الشافعي : المرجع السابق : ص 244.

[14] حامد حسب: السويس تجربة مدينة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى 2010، ص 76.

[15] حامد حسب: السويس تجربة مدينة هيئة قصور الثقافة الطبعة الأولي 2010 ص 76.

[16] حامد حسب المرجع السابق: ص 76.

[17] محمد الشافعي : المرجع السابق : ص 244.