دراسات

أحمد زكريا الشلق

الجمعية التشريعية (1913-1914) تجربة ديمقراطية وأدها الاحتلال – الجزء الأول

2024.11.16

مصدر الصورة : ويكيبديا

الجمعية التشريعية (1913-1914) تجربة ديمقراطية وأدها الاحتلال – الجزء الأول

 

تتناول هذه الدراسة الظروف التاريخية التى أدت إلى تشكيل هيئة برلمانية مصرية جديدة تحت اسم "الجمعية التشريعية" ثم دراسة القانون النظامى الذى صدر فى يوليو 1913 الذى تشكلت بموجبه، مع توضيح علاقته بالقانون النظامى الصادر عام 1883 والذى تأسس بموجبه مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية (1883-1913) مع تبيان قانون الانتخاب الذى صدر وجرى بموجبه تشكيل الجمعية التشريعية وعلى أساسه جرت انتخاباتها فى ديسمبر 1913، ثم افتتاح الجمعية وأعمالها وأهم القضايا التى أثيرت داخلها خلال انعقاد دورها الأول والأخير (22 يناير 1914 حتى 17 يونيو 1914) بعد أن عقدت 45 جلسة.

الظروف التاريخية لنشأة الجمعية التشريعية

ينبغي الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن هذه الجمعية على قصر عهدها كانت خطوة مهمة نحو الديمقراطية، كانت مجالًا برزت فيه قدرات وكفاءات عدد مهم ممن قادوا الحركة الوطنية والسياسية خلال العقود الأربعة السابقة على ثورة يوليو 1952، ومن أبرز هذه الشخصيات سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وحمد الباسل وعلى شعراوى وعدلى يكن وعلى الشمسى ومحمد على علوبة وعبد اللطيف المكباتي وعبد اللطيف الصوفاني ومحمد فتح الله بركات وسينوت حنا ومرقس سميكة وغيرهم..

ومن المهم أيضًا أن نشير إلى أن التطور الذى عرفته مصر منذ صدور القانون النظامي لعام 1883 وحتى صدور القانون النظامي الجديد عام 1913 لم يكن مفاجئًا وإنما كان نتاج تطور دستوري تدريجى حققته الحركة الوطنية من خلال ضغوطها المستمرة على الخديوي عباس حلمى الثاني (1892-1914) وعلى سلطات الاحتلال البريطانى فى مصر، ففى عام 1909 أصدر الخديو قانونًا لتعديل الأبواب الخاصة بمجالس المديريات فى القانون النظامي، ما منح تلك المجالس اختصاصات واسعة فى إنشاء وإدارة المدارس في القرى والعزب داخل نطاقاتها الجغرافية، وكذلك فى تخصيص الأموال وتحصيل رسوم لتلك الأغراض.

والثابت أن الحركة الوطنية والحزبية اشتد عودها فى العقد الأول من القرن العشرين وتعالت مطالبها بالاستقلال وإقامة حياة دستورية وديمقراطية سليمة، وبرزت رموز تلك الحركة بالفعل، كما انتشرت الصحف المناوئة للاحتلال البريطاني، وتعددت الجماعات والأحزاب السياسية، وفي مقدمتها الحزب الوطني المصري الذى أسسه مصطفى كامل ومحمد فريد، والتى كانت تطالب بجلاء الإنجليز عن مصر وعدم التدخل فى شئونها السياسية، وإصلاح المؤسسات والأوضاع الدستورية مما يحد من هيمنة السلطة التنفيذية الخاضعة لسلطات الاحتلال على مقدرات البلاد.

وفى عام 1909 دخلت الحكومة المصرية فى مفاوضات مع شركة قناة السويس التى قدمت مشروعًا بطلب مد امتيازها أربعين سنة أخرى تبدأ من عام 1968 (وهى المدة المتفق عليها سابقًا) مقابل أربعة ملايين جنيه ونصيب من الأرباح، عندما تسربت أنباء المشروع إلى الرأى العام الذى هاجمه بشدة لإضراره بمستقبل مصر السياسي والاقتصادي، اضطرت الحكومة إلى الموافقة على عرض المشروع على الجمعية العمومية على أن يكون رأيها نهائيًا، فرفضته الجمعية رفضًا قاطعًا، الأمر الذى أزعج سلطات الاحتلال. ويلاحظ كذلك أنه فى عام 1912 أصدر الخديو قانون رقم (8) الذي تم بمقتضاه تخويل أعضاء مجلس شورى القوانين حق توجيه الأسئلة للنظار[1].

ويذكر الرافعي أن مجلس شورى القوانين مرَّ بعدة أدوار أولها دور الخضوع والاستسلام (1883-1892)، والثانى دور اليقظة والحياة (1892–1904)، والثالث دور التراجع والجمود حيث أبرم الوفاق الودي. وبعد وفاة مصطفى كامل مرَّ المجلس بدورين آخرين أولهما دور التجديد والنشاط منذ عام 1908 إذ كان للحركة الوطنية صداها في نفوس بعض الأعضاء فنهض المجلس نهضة طيبة ظهر أثرها في مطالبة الحكومة بالدستور، فنقم منه الاحتلال هذه الروح الوطنية وعدها خروجًا عن دائرة المعقول، وذكر جورست (Gorst) المعتمد السياسي البريطاني (1907–1911) في تقريره لعام 1908: "إن خطة المجلس من حيث هو مجلس استشاري كانت خلال العام السابق لا تقوي آمال الذين يتمنون توسيع سلطته تدريجيًا، فقد أتى أعمالًا يستنتج منها أنه يتراجع ولا يحسن القيام بنصيبه من الأعمال الإدارية، فقد أضاع وقتًا طويلًا في مناقشات عقيمة بشأن الحكومة النيابية وأضاع وقتًا وتعبًا كان يمكن صرفهما في وجوه أفضل.."

واستمر المجلس يساير الحركة الوطنية عام 1909 وأوائل عام 1910 بالاحتجاج على سياسة الحكومة المالية، والاعتراض على إنفاق أموال مصر فى السودان دون رقابة أو حساب، فحنق عليه جورست ووصفه فى تقريره لعام 1909 بأنه "قليل الخبرة بالشئون العمومية" وانتقد عليه "السهولة التى يلقاها المتطرفون فى اقتياد معظم أعضائه وتضليلهم"، ثم ذكر جورست فى تقريره لعام 1910 إنه -ومعه الجمعية العمومية- أظهرا ميلًا متزايدًا لأن يكونا آلتين بأيدى الحزب الوطني يستعملهما فى تحريضه وتهييجه على الاحتلال، كما أن طلبهما المتكرر لحكومة دستورية تامة، وحملاتهما على الحكومة، وعداوتهما لمشروع مد إمتياز قناة السويس، تجاوزا لحد الاعتدال، فضلا عن قيام مظاهرات عدائية منه ضد الإنجليز .. وتقويض أركان نفوذهم بدوام الطعن عليهم، والتحريض على الإخلال بالنظام..".

ولذلك أخذت سلطات الاحتلال تهدد أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وتنذرهم بالويل، حتى أذعن معظمهم من رهبة التهديد، وبذلك دخل المجلس في ختام عام 1910 دورًا من التراجع وممالأة الحكومة وظهر أثر ذلك في عدم مناقشته للميزانية وعدم محاسبة الحكومة في تصرفاتها، لذلك امتدحه اللورد كيتشنر (Kitchner) المعتمد البريطاني (1911-1914) الذي خلف جورست، وفى تقريره عن عام 1911 وصف أعضاءه بأنهم يرغبون في إصلاح أحوال الأهالي رغبة حقيقية، ولذلك تضاءلت منزلة المجلس في الحياة العامة، وفقدت البلاد الأمل في أن تفيد من وجوده شيئًا، وكان لهذا التحول أثره في تعلق الأمة بالدستور، وتأييد حجتها في المطالبة بالمجلس النيابي الكامل.

وهكذا أرادت سلطات الاحتلال –كما ذكر الرافعي– أن تعرقل تيار الحركة الوطنية، بوضع نظام شورى جديد يحل مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، دون أن يكون له قواعد الدستور ومبادئه، ذلك لكي يشغل الأمة بنظام جديد تترقب من ورائه الخير، فيصرفها ولو إلى وقت محدود عن حركة المطالبة بالدستور[2].

والحاصل أنه بات من الصعب فى بدايات القرن العشرين أن تستمر الأوضاع شبه النيابية التى فرضتها سلطات الاحتلال، وذلك لتعاظم نشاط الحركة الوطنية المصرية على نحو كبير، فكانت تطالب بالجلاء ووحدة وادي النيل، إلى جانب مطالبتها بالدستور، خاصة بعد ما شهدته الدولة العثمانية من انقلاب دستوري عام 1908، فازدادت مطالب المصريين بالدستور، وامتلأت الصحف بالمقالات بهذا الشأن، وانتشرت حركة العرائض التى يوقعها المصريون للمطالبة بالدستور، وسارت المظاهرات التى تهتف "الدستور يا أفندينا.. الدستور يا أفندينا"، ويشير يونان لبيب إلى أن المطالبة بتغييرات جذرية فى النظام الدستورى قد انبعثت أيضًا من داخل المجالس القائمة ذاتها، حين ارتفعت أصوات عديدة من أعضاء مجلس شورى القوانين، أولهم الشيخ على يوسف، مطالبين بهذه التغييرات، خاصة في جلسات فبراير 1908[3].

يضاف إلى ما سبق أن الخديوي عندما افتتح دور انعقاد الجمعية العمومية الأخير عام 1912، أعلن أن الحكومة مشتغلة بدراسة أفضل الوسائل لتحسين النظام النيابي، وخلال جلسات هذا الدور تم التصويت على طلب الدستور ثلاث مرات[4].

لماذا هذه الجمعية الجديدة؟

من الواضح أن اللورد كيتشنر المعتمد السياسي البريطاني الجديد في مصر رأى ضرورة العودة إلى سياسة اللورد كرومر (Cromer) أول معتمد سياسي بريطاني في مصر (1883-1907)، وهي سياسة القمع والشدة مع الحركة الوطنية المصرية، وإلى الرجوع إلى خطة الإشراف الإنجليزي المتسم بالنشاط، وإلى حكم المصريين بنفسه، فأصبحت الحكومة أوتوقراطية أكثر منها في أي وقت مضى منذ الاحتلال، وقد أخذ على عاتقه إصدار قانون بتشكيل "جمعية تشريعية" تحل محل مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية[5].

لذا أرسل إلى وزير خارجية بلاده جراي (Grey) يقترح تعديل النظام القائم وإعداد نظام أكثر ديمقراطية وأكثر تمثيلًا لوجهات نظر الشعب المصري، وعرض عليه تفصيلًا لتصوره للتغيير الجديد الذى يتعلق بالانتخاب والتمثيل الكمي والنوعي الذى يكفل تمثيل صغار الملاك، وذكر أن الهدف من ذلك تسكين المتطرفين[6].

وحتى أواخر عام 1912 كانت قد تشكلت لجنة لبحث قانون الانتخاب وتوالت اجتماعاتها فى سرية تامة، حتى إن كيتشنر طلب إلى جراى أن يحاول إقناع مجلس العموم البريطاني بأن لا يتدخل في المسألة لأن ذلك سيثير جماعة من المتطرفين، وكانت فكرة كيتشنر أن يختار أعضاء الجمعية الجديدة من المصريين المتعلمين، وخصوصًا ممن لهم خبرة بالمسائل الإدارية، وعلى الرغم من أنه لم يكن مقتنعًا بأن التغيير إلى نظام حكومة برلمانية مسئولة يعد مناسبًا لحاجات مصر آنئذ، فإنه ذكر أن من الضروري وضع رغبات الطبقات المختلفة في عين الاعتبار[7].

لقد بدا واضحًا أن المسألة تعنى مزاحمة كبار الملاك ببعض الفئات الجديدة من أبناء الطبقة الوسطى وصغار الملاك "تسكينًا لخواطر المتطرفين"، واحتواءً لزعامات هذه الفئات داخل الجمعية الجديدة، وتمييع المطلب الدستوري الذي ألحت عليه الجمعية العمومية. وإذا كان كيتشنر قد تشدق بأن الجمعية الجديدة سوف تكون سلطاتها أوسع، وأنها ستأخذ في اعتبارها بشكل خاص المسائل الداخلية، مع عدم تجاهل الطبقات الفقيرة بعدم إعطاء أهمية للنصاب المالي الذى يشترط لعضويتها[8]، فهل حقق القانون الأساسى الذى أنشئت الجمعية بموجبه ذلك؟

لقد كان كيتشنر يرى فى تلك الهيئة خطوة مهمة على طريق التقدم الحقيقى لمصر، وعلق نجاحها وتحقيق أهدافها على مدى تعاونها مع الحكومة وإخلاصها لها، الأمر الذى كان يأمله في أعضائها، وقد أورد سعد زغلول فى مذكراته أن كيتشنر قال له: "أرجو أن تساعد فى الجمعية على بلوغ هذا القصد –مصلحة البلاد وتقدمها– إني مهتم بها أشد الاهتمام لأنها مولودتي، وقد أكثر قومى اللوم علىَّ فى إنشائها، واللورد كرومر وجورست لم يكونا يودان أن يحصل هذا التغيير ويستعظمون ما فعلت..".

لقد كانت فكرة كيتشنر من ورائها أن يبتعد أعضاء الجمعية عن أى تكتلات سياسية أو حزبية قد تظهر، ولهذا عدَّل قانون الانتخاب القديم بالقانون الجديد، لتضم الجمعية الممثلين الحقيقيين للفلاحين، الذى يعنى بهم كيتشنر طبقة ملاك الأراضي، ولعلنا ندرك مدى اهتمام كيتشنر بأمر هذه الجمعية من أنه أخذ على عاتقه أمر وضع قانونها النظامي الجديد[9]، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما طلب من محمد سعيد باشا رئيس النظار أن يوقع هذه القانون من الخديوي، وإن لم يفعل الخديوي وجب على محمد سعيد أن يوقعه هو بصفته "قائمقام خديوي"، فاعتذر محمد سعيد بأن ذلك خارج عن اختصاصه، فأخبره كيتشنر أنه إذا أصرَّ على الامتناع فإن وزيرًا غيره سوف يوقعه.. ثم كلف حسين رشدى ناظر الحقانية بالسفر إلى جنيف بسويسرا ليحصل على توقيع الخديوي الذي وقعه بالفعل[10].

يعلق الرافعي على هذه التطورات بقوله: "إن مخيلة اللورد كيتشنر قد ابتكرت إنشاء هذه الجمعية ووضع نظامها، كما وضع اللورد دفرن (Duffrin) (المفوض البريطاني لتنظيم أوضاع مصر السياسية والادارية عقب الاحتلال) نظام مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية عام 1883، فهي هيئات من صنع الاستعمار البريطاني للحيلولة بين الأمة والنظام الدستوري الصحيح .. لقد تم إصدار النظام الجديد دون أن ينشر فى الصحف قبل ذلك، لكي تدرسه وتبدي ملاحظاتها عليه، ولم يعرض على الأمة كذلك لكي تبدي رأيها فيه، ولا على مجلس شورى القوانين، ولو لمجرد استشارته، فظهر القانون فجأة بعد توقيع الخديوي عليه، وكان توقيعه أثناء اصطيافه في أوروبا!! إذ حمله إليه وزير الحقانية حسين رشدي باشا، ليوقعه ولذلك خلا القانون، على خلاف المعتاد، من بيان الجهة التى صدر منها، فجاءت هذه الملابسات كلها دليلًا على مبلغ امتهان إرادة الأمة وكرامتها فى قانون أساسي يرتبط بمصيرها وحياتها العامة..". ويضيف الرافعي، "إن ديباجة القانون يبدو فيها أن التغيير الذي أدخله في النظام الدستوري هو تغيير شكلي بحت، وأن الفكرة الأساسية فيه هي المباعدة بين الأمة والدستور، فليس في الديباجة ما ينبئ بوضع نظام جديد يقرر سلطة الأمة أو يزيد من اختصاصات مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية"[11].

تابعوا الجزء الثاني من الدراسة..


1- حول هذه التطورات راجع أحمد زكريا الشلق: تطور مصر الحديثة، فصول من التاريخ السياسي والاجتماعي، سلسلة إصدارات خاصة عدد 90، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2011، ص 207–210، وكذلك كتاب محمد نور فرحات، عمر فرحات: التاريخ الدستوري المصري، قراءة من منظور ثورة يناير 2011، الدار العربية للعلوم، ط(1) ، بيروت والدوحة2011، ص 27-28 ،ص 58-59.

2- عبدالرحمن الرافعي: محمد فريد، رمز الإخلاص والتضحية، ط(3)، مكتبة النهضة العربية 1962، ص372-375.

3- يونان لبيب رزق: قصة البرلمان المصري، كتاب الهلال مارس1991، ص18-20.

4- F.O. 407, No.125, -178, Part Lxxv, 1912, P.79.

5- أحمد زكريا الشلق: تطور مصر الحديثة، ص 210.

6- F.O. 407, No. 146, -176, Part Lxxv, 1912, pp.158-159.

7- أحمد زكريا الشلق: حزب الأمة، دور الأعيان والمثقفين في السياسة المصرية، دار الكتب والوثائق القومية 2015، ص 44 (وبه هوامش مصدرها الوثائق البريطانية).

8- F.O. 407, No. 3, -180, Part LxxvII, 1913, P.3

9- Lloyd. L, Egypt Since Cromer, Vol. 1, London, 1933, pp. 139-140

10- عبدالخالق لاشين: سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية، ط(2) الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010، ص 188- 189 (واقتباساته من مذكرات سعد في هوامش الكتاب).

11- عبدالرحمن الرافعي: محمد فريد، ص 375-377.