دراسات
أحمد زكريا الشلقالجمعية التشريعية (1913-1914) تجربة ديمقراطية وأدها الاحتلال – الجزء الثاني
2024.11.23
مصدر الصورة : ويكيبديا
الجمعية التشريعية (1913-1914) تجربة ديمقراطية وأدها الاحتلال – الجزء الثاني
هل اعتبر النظام الأساسي الذي تشكلت الجمعية التشريعية بموجبه خطوة متقدمة عن النظام السابق الذي صدر عام 1883 فيما يتعلق بتكوينها ونظامها وسلطاتها التشريعية، هل يعد، باختصار، خطوة أكثر تقدمًا في حياة مصر البرلمانية بعد نحو ثلاثة عقود؟
القانون الجديد من الشورى إلى التشريع
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نلقي نظرة فاحصة على القانون النظامي الجديد الذي صدر تحت رقم (29) في أول يوليو 1913 ونشر ملحقًا به قانون الانتخاب الجديد، بالجريدة الرسمية في حينه، وسوف نعرض لأهم مواده بعد ذكر ديباجته لما لها من دلالة خاصة:
"نحن خديو مصر، لمَّا كانت رغبتنا هي منح بلادنا نظام حكومة يكون موافقًا للأفكار النيرة وكافلًا لحسن الإدارة، ولصيانة الحرية الشخصية، وضمانًا لاتساع التقدم والعمران، وملائمًا لهذه البلاد بنوع خاص .. ولا يكون هذا النظام عبارة عن مجرد تقليد ومحاكاة للأساليب الغربية، بل يكون داعيًا إلى تمهيد السبيل لرفاهية الأمة المصرية وإسعادها، ولمَّا كانت بغيتنا تعديل القانون النظامي تعديلًا يكون من ورائه تحسين الأسلوب التشريعي، وذلك باستبدال القوانين النظامية الحالية بقوانين ترمي إلى ضم مجلس شورى القوانين مع الجمعية العمومية في هيئة واحدة، وإلى تقرير طريقة للانتخاب تكون أوسع نطاقًا وأكثر انطباقًا على الحكمة، وإلى ازدياد عدد الممثلين الذين يعهد إليهم بالمشاركة في أعمال السلطة التشريعية وإلى تخويل الهيئة الجديدة الاختصاصات الممنوحة الآن لكل من مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وإلى ترتيب طريقة يجري عليها العمل في الاستشارة وفي اقتراح وضع القوانين.."
ويمكن تلخيص أهم مواد القانون الجديد على النحو التالي:
- مادة 2: تؤلف الجمعية من أعضاء قانونيين وأعضاء منتخبين، وأعضاء معينين والنظار أعضاء قانونيين.
- مادة 4: مدة العضوية ست سنوات للمنتخبين والمعينين، ويتجدد انتخاب ثلث كل من الفريقين كل سنتين.
- مادة 8: يجوز حل الجمعية التشريعية في أي وقت بأمر منا، بناءً على عرض مجلس النظار وتُجرى الانتخابات والتعيينات الجديدة خلال ثلاثة أشهر.
- مادة 11: إذا أقرت الجمعية مشروعًا تبعث به إلى مجلس النظار الذي إذا وافق عليه قدمه للجمعية (لإقراره) كما هو أو ما يعنُ له من تعديلات، وإذا لم يقبله يرسل أسباب ذلك ولا تجوز مناقشته في هذه الأسباب.
- مادة 12: للجمعية أن تقبل أي مشروع قانون يقدم لها من الحكومة كما هو أو أن تعدله أو أن ترفضه.
- مادتا 13، 15: إذا لم توافق الحكومة على رأي الجمعية تعيد إليها المشروع مع إيضاح الأسباب الداعية لذلك وللجمعية البحث في هذه الإيضاحات، فإذا لم ترَ رأيها، ينعقد مؤتمر من مجلس النظار والجمعية، فإن لم يتفقا يؤجل مشروع القانون خمسة عشر يومًا ثم يقدم للجمعية بصورته الأولى أو بما تكون الحكومة قد أدخلته من تعديل عليه.
- وإذا استمر الخلاف جاز للحكومة أن تحل الجمعية أو أن تصدر القانون على صورته الأخيرة أو مع التعديلات التي قبلتها.
- مادة 17: لا يجوز ربط أموال جديدة أو رسوم على منقولات أو عقارات أو عوائد شخصية في القطر إلا بعد مباحثة الجمعية في ذلك وإقرارها عليه.
- مادة 18: تستشار الجمعية في كل سلفة عمومية أو كل مشروع عام يتعلق بجملة مديريات.. وفى فرز أطيان القطر لتقدير درجات أموالها، وعلى الحكومة إذا لم تعول على رأي الجمعية أن تخطرها بالأسباب.
- مادة 19: تبدي الجمعية رأيها أو رغباتها، سواء كان ذلك بناء على طلب الحكومة بالنسبة للمسائل والمشروعات المعروضة عليها، أو من تلقاء نفسها.. وذلك من أمور مصر الداخلية كالمواد المتعلقة بالثروة العمومية أو الأمور الإدارية والمالية.
- مادة 20: لا يجوز لها أن تقر قرارًا أو تبحث أو تبدي ملحوظة أو رغبات في مخصصات الخديوي، والآستانة، والدَّين العمومي، وبالجملة في الواجبات والالتزامات الناتجة من التصفية أو الاتفاقات الدولية والمسائل المتعلقة بالدول الأجنبية وعلاقاتها بمصر.
- مادتا 25،26: يجوز لكل مصري أن يقدم عريضة للجمعية لتنظر فيها وتحكم برفضها أو قبولها، وما يقبل يحال إلى ناظر الديوان المختص به لإجراء ما يلزم عنه وإخطار الجمعية بما يتم فيه.. وكل عريضة تختص بحقوق ومنافع شخصية ترفض متى كانت من اختصاص المحاكم.
- مادتا 32-33: تكون جلسات الجمعية علنية بالكيفية التي تتقرر في لائحتها الداخلية، أما المؤتمرات مع مجلس النظار والاجتماعات التي تعقدها الجمعية بهيئة لجنة عامة تصير علنية.
- وتصدر القرارات بالأغلبية، ما عدا الأحوال المنصوص على وجوب توفر ثلاثة أرباع الآراء فيها.
- وإذا تساوت الأصوات رجح الفريق الذي منه الرئيس ويكون إبداء الرأي جهرًا، إلا إذا قررت الجمعية أن يكون بالاقتراع السري مراعاة للمصلحة العامة[1].
وقد رأى محمد نور فرحات أن هذا القانون كشفت ديباجته عن مدى تقهقر الوضع السياسي المصري إلى السلطة المطلقة وانفراد السلطة التنفيذية بها، وأنه جاء في صيغة أمر من الخديوي، اشتملت ديباجته على معاني المنِّ والعطف من الخديوي على الشعب واستئثاره بمعرفة ماهو خير له، وأن الوثيقة تعبير عن "رغبة (الخديوي) في منح البلاد نظام حكومة يكون موافقًا للأفكار النيرة وكافلًا لحسن الإدارة"[2]، بينما كان قانون 1883عامًّا قد صدر في شكل "أمر عالٍ" من الخديوي توفيق.
ويلاحظ أن قانون الجمعية التشريعية في مادته الرابعة قد حدد عضوية الأعضاء المنتخبين والمعينين بست سنوات، على أن يتجدد انتخاب الثلث لكل من الفريقين كل سنتين، بينما كان قانون عام 1883، يقصر تحديد المدة على الأعضاء المنتخبين وحدهم -دون المعينين- ويعد تحديد مدة عضوية هؤلاء أيضًا من قبيل الحد من سلطاتهم وإضفاء نوع من الرقابة على أدائهم، ويلاحظ كذلك أن قانون الجمعية منح الخديوي حق حلها بناء على اقتراح الحكومة، واشترط إعادة انتخابها خلال ثلاثة أشهر.
بينما لم يعطِ الجمعية حق سحب الثقة من الحكومة.. ما يمثل خللًا في موازين القوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ذلك أن حرص الخديوي على منح هذا الحق لنفسه يعد مؤشرًا على ما كان يتوقعه من أن تلعب الجمعية بشكلها الجديد وأعضائها المنتخبين دورًا محوريًّا في الحركة الوطنية وأن تكون انعكاسًا للتيارات السياسية والاجتماعية الداعية للجلاء وللإصلاح السياسي، ما ينعكس على الخديوي وسياسته في الحكم بعد أن صار شديد التقرب من سلطات الاحتلال البريطاني آنذاك. ومن هنا حرص الخديو عباس الثاني أن يتضمن القانون نصًّا يسمح له بحل الجمعية للخروج من أي أزمة بسبب اتجاهاتها[3].
وفيما يتعلق بسلطة الجمعية في التشريع، فقد أورد محمد نور فرحات تحليلًا نقديًّا مهمًّا لها نوجزه فيما يلي:
- بالرغم من التوسع في سلطة التشريع من بين سلطات الجمعية، فإن القانون الجديد احتفظ بالحق الأصيل في التشريع للخديوي ووزرائه، أي إن التمركز والفردية ظلت متأصلة في نصوص هذه القانون.
- منح القانون الجمعية سلطة "إبداء الرأي" في التشريعات دون أن يلزم الخديو وحكومته بالأخذ بهذا الرأي، وكذلك ضيق القانون من سلطة التشريع للجمعية، حين أورد تعريفًا ضيقًا للتشريع بأن قصره على الأمور المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية للمواطنين وشؤون الإدارة العمومية وسلطات الحكومة.
- استحدث حق الجمعية في اقتراح مشروعات قوانين وعرضها على الحكومة التي يحق لها رفضها مع إبداء الأسباب، وإن لم يمنح الجمعية حق مناقشة تلك الأسباب.. كما لا يمكن للجمعية حق مناقشة مشروع قانون في جلسة علنية دون موافقة الحكومة على ذلك.. ما يعني إصرار الخديوي على السيطرة على العملية التشريعية له ولحكومته.
- منح قانون 1913 للجمعية سلطة إقرار الضرائب والرسوم الشخصية والعقارية، وعد إقرار الجمعية لأي من تلك الرسوم والضرائب واجب النفاذ (المادة 17)، واعتبر البعض أن هذا هو الاختصاص الوحيد الجاد الذي تقرر في هذا النظام أو قانون الجمعية، وعللوا ذلك برغبة سلطات الاحتلال البريطاني في إرضاء الأعيان وكبار الملاك، الذين تتشكل غالبية أعضاء الجمعية منهم، وذلك بتقديم بعض التنازلات لهم.
- احتفظ القانون للجمعية بسلطاتها الاستشارية في مجالات حصر وتقييم الأراضي والمرافق العامة التي جاء بها القانون السابق، وأضاف للجمعية سلطة إبداء الرأي في تلك المسائل من تلقاء نفسها، بينما منعها من إبداء الرأي من تلقاء نفسها في مسائل الجزية (التي تُدفع للدولة العثمانية" والدَّين العام ومخصصات الخديوي (المادة 20)، وتخضع الميزانية لذات المبادئ والآليات التي تحكم إصدار التشريعات بسيطرة الخديوي، واقتصار الجمعية على إبداء الرأي الاستشاري غير الملزم (المادة 33).
- أما عن حق الجمعية في مساءلة النظار، فجاء محدودًا للغاية، مقتصرًا على المسائل الإدارية، ومنح القانون كذلك لرئيس الجمعية والوكيلين -المعينين من قبل الخديوي- الحق في رفض السؤال (المادة 27)[4].
لقد علق اللورد لويد "Lloyd" على قانون الجمعية التشريعية بقوله "إن هذا التشريع الذي أعيد تنظيمه، لم يرغب كيتشنر أن يعطيه مسؤولية كبيرة، وإن كان قد وسع من مهامه الاستشارية، ووسع من سلطاته بطريقة تعرقل سير العمل وتحول دون الموافقة على اتخاذ القرارات"[5].
ومع ذلك، يمكن القول إن القانون النظامي الذي أقيمت الجمعية التشريعية بموجبه تضمن بعض التغييرات التي يجوز اعتبارها إيجابية من حيث التوسع في سلطات مجالس المديريات، ومنح الجمعية سلطات إضافية، وبروزها ككيان شبه تشريعي وشبه نيابي، على النقيض من الوضع المشوه الذي نتج عنه القانون النظامي الذي صدر عام 1883، بالرغم من أن قانون عام 1913 جعل الجمعية التشريعية خاضعة للسلطة المطلقة للخديوي وحكومته، فكانت العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية تقوم على أساس عدم المساواة والتكافؤ، كما أن مبدأ المسؤولية الوزارية قد تم تقويضه، ذلك المبدأ الذي يقصد به الاعتراف بمبدأ سيادة الأمة، فضلًا عن تحكم الخديوي في أعمال الجمعية التشريعية من خلال تحديد أدوار اجتماعاتها وتأجيلها متى رأى ذلك[6].
موقف الأحزاب المصرية
أما عن موقف الحزب الوطني من انتخابات الجمعية "فإنه بالرغم من أن نظام الجمعية كان افتئاتًا على حق الأمة في الدستور، فإن الحزب قد استحث الأمة على حسن اختيار أعضائها، لكى تتألف منهم هيئة تدافع عن حقوقها ومصالحها، وتكون أداة للجهاد القومي، ولذلك أصدرت اللجنة الإدارية للحزب منشورًا إلى الشعب في 25 أكتوبر 1913 تدعوه لحسن اختيار المندوبين الخمسينيين، ثم انتخاب أعضاء الجمعية، مهما كان رأيها غير قطعي، فظهر الحزب بمظهر الوطنية الحقة، إذ حث الأمة على انتخاب الأكفاء من أي حزب. ومن بين المرشحين الذين أيدهم الحزب سعد زغلول باشا"[7].
أما عن حزب الأمة فقد أظهرت دراسة نشاط نوابه في الهيئتين السابقتين على الجمعية التشريعية، أن طلب الدستور والمجلس النيابي ارتبط عندهم بمركز السلطة، سواء كانت السلطة الشرعية أم الفعلية، ولم يرتبط لديهم بالوعي بأهميته أو بالإيمان بالمبادئ الدستورية، وإن كانت صحيفة الحزب "الجريدة" قد عبرت بأقلام كتابها عن مواقف أكثر وعيًا وتطورًا وطالبت بالحكم الدستوري والحياة النيابية[8].
ولأن القانون الجديد خفف قليلًا من الشروط المالية، فقد أتاح للجمعية أن تضم أعضاء معروفين (49 من كبار الملاك من بين 66 منتخبًا) كان 18 عضوًا منهم ينتمون إلى حزب الأمة، أضيف إليهم 4 أعضاء معينين، فصار للحزب 22 عضوًا من كبارالملاك، وإن كان هذا لا يعني أنهم كونوا جماعة حزبية داخل الجمعية، كما أن طبيعة الجمعية نفسها لم تكن تحتمل قيام أكثرية وأقلية بالمعنى البرلماني الصحيح، فضلًا عن أن كيتشنر كان يبغض الأحزاب ويحتقرها، ولم يكن يسمح بظهورها داخل الجمعية، وقد صرح لسعد زغلول بأنها إذا ضمت المشاغبين ورجال الأحزاب وأثبتوا أهواء وميول أحزابهم، فلن تجني البلاد منها إلا شرًّا.
ولقد وصف لطفي السيد الجمعية بأنها هيئة استشارية لا تحقق سلطة الأمة بالمعنى الصحيح، وطالب الأحزاب أن يفتحوا باب الحرية على مصراعيه، وذكرهم بأن النواب هم الذين ساعدوا الحكومة على بعث قانون المطبوعات فأقاموا الحجة على شعبهم من حيث أرادوا أن يخدموا فكرة الاعتدال، ونسوا أن الأضرار التي قد تنجم عن التطرف في الحرية لا توازي شيئًا من الضرر الذي تأتي به طبائع الاستبداد.. ولعل تبرير لطفي للتطرف هنا، راجع إلى غضبه لسقوطه في الانتخابات، وكان قد رشح نفسه عن مركز السنبلاوين ولم ينجح، وفسر ذلك بتدخل الحكومة وعملها على إسقاطه، وكان المرشح ضده "عثمان سليط" قد حرَّف معنى الديمقراطية للناس لتنفيرهم من دعوة لطفي، فيذكر لهم أن الديمقراطية تجر المصائب علي الدين وعلى العادات القومية وأن لطفي السيد يرى وجوب مساواة الرجال بالنساء في الحقوق، مما يعني أن يصبح من حقها أن تتزوج بأربعة رجال، فاستعاذ الناس بالله من لطفي ومن الديمقراطية، ولم ينتخبوه لأنه ديمقراطي!
وكان لطفى يعزي نفسه قائلًا: "خير لي أن أسقط ألف مرة من أن أكون نائبًا لهؤلاء الناس"، ولعل سقوط لطفي يفسر دعوته إلى أن يكون بالجمعية يمين وشمال أو حزب معارضة، وإهابته بكل عضو أن يضحى دائمًا رأيه لرأي حزبه[9].
بقيَّ أن نعرف كيف أديرت الانتخابات وهو موضوع المقالة التالية..
1- راجع نص القانون النظامي رقم 29 الصادر في أول يوليو بكتاب "الدساتير المصرية، نصوص ووثائق" الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة 2012، تقديم أحمد زكريا الشلق ص 73-83.
2- محمد نور فرحات وعمر فرحات: مرجع سابق، ص 109.
3- محمد نور فرحات: مرجع سابق، ص 110-111.
4- المرجع نفسه: المرجع السابق، ص 111-113، ويعلق لاشين، مرجع سابق، ص 19 على مسألة سلطة الجمعية في إقرار الضرائب المادة 17 بأن ذلك كان مخولًا للجمعية العمومية (المادة 17) في القانون القديم لعام 1883.
6- راجع خلاصة رأي نور فرحات: مرجع سابق، ص113-114، والرافعي: مرجع سابق، ص 378-379، ولاشين: مرجع سابق، ص 189-190.
8- أحمد زكريا الشلق: حزب الأمة...، ص 240.
9- الشلق: المرجع نفسه، ص246-247، وحسن الشريف: الرجال أسرار، كتاب اليوم يناير 1952، ص 64 -66.