الحركة النسوية المصرية

هالة كمال

الحركة النسوية المصرية.. امتدادها التاريخي، ومطالبها السياسية

2024.02.12

تصوير آخرون

الحركة النسوية المصرية.. امتدادها التاريخي، ومطالبها السياسية

يشهد هذا العام مرور قرن من الزمان منذ صياغة أول برنامج سياسي نسوي مصري، وهو الذي صدر في برنامج الاتحاد النسائي المصري في عام 1923. هذا، وتمتد الحركة النسوية المصرية كحركة سياسة إلى مطلع القرن العشرين، حيث تقاطعت مطالب النساء المصريات ضد التمييز مع المطالب الوطنية ضد الاستعمار. وقد سبق لي في أعقاب انطلاق ثورة يناير 2011 أن تأملت تاريخ الحركة النسوية المصرية كحركة سياسية، في محاولة لفَهْم الواقع عبر امتداده التاريخي. ويشير التاريخ إلى أن النساء المصريات رفعن مطالب وطنية واجتماعية ونسوية، تبلورت في برنامج الاتحاد النسائي المصري 1923، مستندة إلى مطالب متفرقة طوَّرْنها على مدار السنين، وتحديدًا منذ عام 1910 حين تقدمت ملك حفني ناصف بمطالب النساء المصريات إلى البرلمان. 

وإذ نتأمل الحركة النسوية المصرية في إطار التاريخ الدستوري المصري، نجد أن الحركة استندت بقوة، على مدار تاريخها، إلى حقوق المواطنة، ومن ثم سعت إلى الانخراط في المسارات التشريعية، وإدراج مطالبها ضمن الدساتير المصرية منذ عام 1923. وأرى أنه يمكن تتبع تطور الحَراك النسوي المصري باعتباره يعبِّر عن نفسه في أربع موجات متتابعة، وإن كانت كل منها تحمل خصائصها المميزة، ولكنها تتفق جميعها في كونها تستخدم أدوات العمل السياسي؛ من حيث الجمعُ بين آليات التحالف، والضغط والتفاوض خلال مسارات صياغة المطالب، ومخاطبة المجتمع، ومواجهة السلطة في سبيل العمل على تحقيقها.

ومن هنا يمكن تحديد أهم سمات الحركة النسوية المصرية في موجاتها الأربع كما يلي:

جاءت الموجة الأولى في مطلع القرن العشرين متزامنة مع تصاعد الحركة الوطنية المصرية ومطالبها بالاستقلال السياسي، وإنهاء الاحتلال البريطاني، وهو ما واكبته حركة اجتماعية وفكرية تسعى إلى بناء الدولة الحديثة بمؤسساتها الوطنية، وبمشاركة كافة فئات الشعب المصري في مشروع الدولة المستقلة. ولعل أبرز المطالب التي رفعتها النسويات المصريات في تلك الفترة؛ هي: مطالب تتطرق إلى ثلاثة جوانب من حياة النساء المصريات، وتخص إلغاء أشكال التمييز الواقع عليهنَّ في مجال التعليم، والأحوال الشخصية، والتمثيل النيابي، وترى من أدوات التغيير أن تنال النساء حقوقهن السياسية، وضمان تمثيلهن في صياغة دستور الدولة الحديثة (دستور 1923)، وما يترتب عليه من قوانين. 

وقد أدت جهود الحركة النسوية إلى الإقرار، ولأول مرة في الدستور المصري، بأن يكون التعليم إلزاميًّا للبنات والبنين في المدارس الحكومية بلا تمييز، ولكن الدستور لم ينصَّ على المطلب الأساسي الآخر الممثَّل في المساواة في التمثيل النيابي، ومن ثَمَّ استمر نضال النسويات المصريات على مدار عقود في هذا الاتجاه، مع تقاطعه في أربعينيات القرن العشرين مع مطالب اقتصادية واجتماعية رفعتها بعض النسويات من الأجيال الأولى التي تخرجت في المدارس والجامعة وانخرطت في سوق العمل؛ لتطالب بالمساواة في الأجر، وتحسين ظروف عمل النساء، وفتح المجال أمام انخراطهن في النشاط النقابي. وكان الحزب النسائي المصري الذي أسسته فاطمة نعمت راشد (عام 1942) من أبرز القوى المحركة للعمل النسوي في الأربعينيات، بعد الاتحاد النسائي المصري في العشرينيات، وقد تحقق كثير من تلك المطالب الاقتصادية الاجتماعية والسياسية بعد ثورة يوليو 1952، وتحديدًا في دستور 1956 الذي منح النساء المصريات حق التصويت والتمثيل النيابي، وما أعقب صدوره من تعديلات شاملة في البنية التشريعية المصرية، بما في ذلك النصُّ على حقوق النساء والعمال والفلاحين. 

ولكن فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بقدر ما حققته من مطالب النساء المصريات، إلا أنها شهدت تأميم العمل الأهلي والسياسي بشكل عام، حيث تمَّ حل الاتحاد النسائي المصري، والحزب النسائي المصري، وتأميم العمل النسوي؛ لتدخل الحركة النسوية المصرية مرحلة ما يطلق عليه في العلوم السياسية "نسوية الدولة"؛ بمعنى: استئثار الدولة بالتعامل مع كافة القضايا والمسارات المرتبطة بالمطالب النسوية. وهو الوضع الذي يشير إلى موجة ثانية مختلفة عن العقود الأولى من القرن العشرين، مع ظهور اهتمام بالصحة الإنجابية، وختان الإناث، وزواج القاصرات، جنبًا إلى جنب مع قضايا الأحوال الشخصية والتمثيل السياسي. 

وهي الموجة التي استمرت لعدة عقود شهدت ظاهرة حَرَم الرئيس راعية حقوق النساء خاصة ممثلة في جيهان السادات، ثم سوزان مبارك، مع وجود دائرة من الوجوه النسائية الممثِّلة للدولة، والتي تدَّعي الحديث بلسان النساء المصريات على الساحة المحلية والدولية. وقد ظل الوضع هكذا حتى منتصف الثمانينيات، حين سعى نظام مبارك إلى كسب الدعم الشعبي من خلال فتح المجال العام أمام العمل الأهلي، وتأسيس المنظمات النسوية والحقوقية في مصر، مما أعاد قضية النساء إلى المجتمع، وصارت قضية التنظيم من أهم القضايا التي أُضيفت إلى قضايا الأحوال الشخصية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وقد اتسمت تلك الموجة تحديدًا بتمركز العمل النسوي في إطار المجتمع المدني، مع ربط قضايا النساء بحقوق الإنسان، والالتفات إلى الجوانب الثقافية المتعلقة بأوضاع النساء في المجتمع، كالإعلام والتعليم والمعرفة والوعي، بما يشكل موجة جديدة هي الثالثة في تاريخ الحركة النسوية المصرية، والتي استمرت حتى انطلاق ثورة يناير 2011، حين انتقلت الحركة إلى مرحلة جديدة لها سماتها المميزة. 

فمع انطلاق ثورة يناير شكلت المنظمات النسوية كيانًا مشتركًا؛ هو تحالف المنظمات النسوية؛ للتعبير عن موقفها الداعم والمشارك في الثورة، كما ساهمت في الشهور التالية في بلورة مطالب النساء، والضغط في سبيل تمثيل النساء في لجنة كتابة الدستور الجديد. وعلى الأرض، شهدت شوارع المدن الكبرى والمراكز والقرى مشاركة النساء في مسيرات الثورة تطلُّعًا إلى مستقبل جديد، وفي القلب من هؤلاء النساء شابات مصريات كانت الثورة باكورة انخراطهن في العمل السياسي. وكانت السنوات القليلة السابقة قد شهدت بداية نشأة بعض المبادرات النسوية الشابة في مختلف أنحاء الجمهورية؛ منها ما هو قريب من الحركات الثورية، ومنها ما هو أقرب إلى المؤسسات النسوية. 

وفي خِضمِّ الأحداث شهدت الشابات والنساء المصريات استهدافًا منظَّمًا لوجودهن في الشارع ممثَّلًا في التحرش الجنسي، والاعتداء المنهجي، والاغتصاب الجماعي، والذي كانت أولى بوادره قد ظهرت في مظاهرة يوم الأربعاء الأسود 25 مايو 2005 أمام نقابة الصحفيين بالقاهرة. وقد كان لتجربة الثورة في يناير 2011 فصاعدًا دورها في تطوير الحَراك النسوي وتجذيره؛ بحيث صارت قضية أجساد النساء في المجال العام والخاص قضية ذات أولوية، واستمرت لتصير محورًا أساسيًّا في العمل النسوي، وقد منحته الشابات النسويات دَفعةً قوية إلى الأمام فيما أراه موجةً رابعة في تاريخ الحركة النسوية المصرية. 

وهكذا نجدنا اليوم أمام حركة نسوية تضم جيلًا جديدًا يعيد طرح أسئلة مهمة، وعلى رأسها مسألة التنظيم في إطار قانون العمل الأهلي، ومسألة أجساد النساء ممثلة في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية جنبًا إلى جنب مع القانون المدني. ولعل الطَّفْرة الكبرى التي نراها في الموجة الحالية تتمثل في الاتساع الكبير في الوعي والتعبير والتضامن، والذي لا يقتصر على الشكل التنظيمي التقليدي الممثَّل في الجمعيات والمنظمات، وإنما في المبادرات والمجموعات المستقلة التي تنطلق في رؤيتها النسوية من تجاربها الشخصية، وتسعى إلى تنمية وعيها ببناء قاعدة معرفية وتعبر عن ذاتها من خلال أدوات التواصل الاجتماعي. ويكفينا أن نتذكر حملة #MeToo بأصواتها وأصدائها العالمية. وهي موجة لا يمكن توصيفها تمامًا بعدُ، وإن كانت تتمتع بقدر كبير من التنوع والوعي، وتجمع كأية حركة اجتماعية أفرادًا ومجموعاتٍ يربطها الوعي النسوي كما عرَّفَتْه جيردا ليرنر كالآتي:

"إن تعريفي للوعي النسوي يعني: إدراك النساء بأنهن ينتمين إلى فئة ثانوية، وأنهن تعرضن للظلم باعتبارهن نساء، وأن وضعهنَّ الثانويَّ الخاضعَ ليس وضعًا مرتبطًا بالطبيعة، وإنما هو مفروض اجتماعيًّا، وأنَّه يجب عليهن التحالف مع نساء أخريات للتخلص من أشكال الظلم الواقع عليهن، وأخيرًا فإنه يجب عليهن تقديم رؤية بديلة للنظام الاجتماعي، بحيث تتمتع فيه النساء مثلهن، مثل: الرجال بالاستقلالية وحق تقرير مصيرهن".

إن الحركة النسوية المصرية أثبتت على مدار تاريخها كونها حركة سياسية تستند إلى الفكر والعمل، وتستخدم أدوات العمل السياسي ممثلة في التنظيم والتحالف والتضامن، وصياغة البيانات والمطالب، وتنظيم المظاهرات والمسيرات، بل ولجأت بعض النسويات في مراحل سابقة إلى الاعتصام والإضراب عن الطعام لتحقيق المطالب، بينما نجحت النسويات في السنوات الأخيرة في تنظيم حملات واسعة النطاق في سبيل التوعية والتغيير، فضلًا عن التوجه إلى السلطة ممثَّلة في المجالس النيابية المصرية على مدار عقود، وهي حركة سياسية لانطلاقها من موقف أيديولوجي نسوي، يدرك التمييز ضد النساء، ويطرح رؤية بديلة تسعى الحركة إلى تحقيقها، في سياق التقاطعية؛ حيث تتلاقى قضايا الحقوق النسوية مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عند تقاطعها مع عناصر: الطبقة والدين والعرق والهوية الجنسية والجندرية، وغيرها من العناصر المتصلة بالهوية الفردية والجماعية. 

كما تقيم تحالفات جديدة، بترسيخ ما هو قائم بالفعل مع المنظمات النسوية المستقرة، ومجموعات ولجان المرأة في الأحزاب السياسية المعارضة، ومع ما هو ناشئ كالحركة الكويرية على سبيل المثال.

وأخيرًا، فإن تتبع الحركة النسوية المصرية ومطالبها عبر تاريخها يشير إلى كونها جزءًا لا يتجزأ من الحركة الوطنية الشعبية وسماتها الأيديولوجية العامة، حيث اتسمت بالنزعة الليبرالية في مطلع القرن العشرين، ثم بالتوجه الاشتراكي، انتهاء بالميل الحقوقي، بينما نرى حاليًّا قدرًا كبيرًا من التنوع يشمل كافة تلك التيارات الفكرية السابقة، وإن كانت توحي لنا بتجليات جديدة ربما تنحو نحو صيغة جديدة للنسوية المصرية المتحررة من الاستعمار بأشكاله التقليدية المباشرة، التي تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، ثم صيغته النيوليبرالية والإمبريالية في النصف الثاني من القرن العشرين. وما نشهده حاليًّا من إرهاصات في التحول نحو شكل جديد من التحرر من البنى المتعارف عليها، يطرح تساؤلات حول الإطار العالمي لحقوق الإنسان، الذي كشف عن وجهه الضعيف، إن لم يكن القبيح، خلال الحرب الحالية على غزة على سبيل المثال، كما يعيد طرح أسئلة عن النساء في النزاعات المسلحة، وموقع حقوق النساء من حقوق الإنسان، وربما يدعو إلى تجاوز ذلك الإطار إلى مساحة أرحب للتحرر الفعلي من الاستعمار الجديد بأشكاله الصارخة، وأصواته الخافتة، وممارساته الخفية.