تواريخ

توماس د.

الذكرى الثلاثون للإبادة الجماعية في رواندا

2024.08.23

تصوير آخرون

 ترجمة: عمرو جمال صدقي

 

الذكرى الثلاثون للإبادة الجماعية في رواندا

 

بين إبريل ويوليو 1994، نظمت الحكومة الرواندية إبادة جماعية لما يقرب من مليون شخص، ينتمون إثنيًّا إلى مجموعة التوتسي العرقية. وقد نُفذت هذه الإبادة الجماعية بتواطؤ مع الحكومة الفرنسية، التي قامت بتمويل وتسليح مرتكبي الإبادة الجماعية. وإلى يومنا هذا، لا تعترف الحكومة الفرنسية والطبقات البرجوازية الفرنسية، بمسؤوليتها عن واحدة من أبشع جرائم الإمبريالية الفرنسية!

الهوتو والتوتسي

إن التمييز بين الهوتو والتوتسي يجد أصوله في علاقات الإنتاج في رواندا ما قبل الاستعمار. ويبدو أن هذه المصطلحات كانت تشير في ذلك الوقت إلى فئات اجتماعية أكثر من مجاميع عرقية. كان الهوتو هم الأغلبية ويعملون كمزارعين أكثر، في حين كان التوتسي في الأساس من مربي الماشية ويشكلون أغلبية الطبقة الحاكمة.

وعندما سيطر المستعمرون الألمان ثم البلجيكيون على المنطقة، اعتمدوا على من يمتلكون السلطة، أي التوتسي. ووفقًا للمبدأ القديم "فرق تسد"، فقد قدموا التوتسي على أنهم "عرق" نشأ في شمال إفريقيا، يتفوق على الهوتو "الأصليين" لرواندا. وقد تم تدريس هذا التسلسل الهرمي العنصري في المدارس التبشيرية الكاثوليكية في البلد، حيث تم تعليم أطفال الهوتو أنهم أدنى مرتبة من التوتسي. في عام 1931، أدخلت الإدارة الاستعمارية نظام كتاب الهوية الذي ينوه بالمجموعة العرقية لمن يحمله. وقد سهّل هذا الكتاب، الذي ظل ساريًا حتى عام 2003، عمل مرتكبي الإبادة الجماعية في عام 1994.

في منتصف الخمسينيات، تطورت حركة الاستقلال في رواندا. وكما هو الحال في معظم البلدان المستعمرة، تجلت حركة التحرر هذه بشكل خاص بين البرجوازية الصغيرة والطبقات "المتعلمة"، المكونة بشكل رئيسي من التوتسي. كرد فعل لذلك، غيرت الإمبريالية البلجيكية إستراتيجيتها وبدأت في تفضيل تطوير نخبة جديدة من الهوتو.

وفي نوفمبر 1959، انتفض سكان الهوتو ضد سلطة التوتسي بدعم من القوة الاستعمارية البلجيكية التي اتهمت التوتسي بقمع الهوتو. هذا أدى إلى انزلاق رواندا إلى حرب أهلية قصيرة انتهت بوصول غريغوار كاييباندا، وهو من الهوتو، إلى السلطة. هربًا من الاضطهاد، هاجر مئات الآلاف من التوتسي، خاصة إلى أوغندا. وبدعم من المستعمر البلجيكي والكنيسة الكاثوليكية، أسس كاييباندا دكتاتورية غاشمة أدت إلى إدامة الانقسام "العرقي" الذي أنشأته السلطات البلجيكية.

بعد استقلالها في عام 1962، سقطت رواندا تدريجيًّا تحت سيطرة الإمبريالية الفرنسية، وهذا لم يغير شيئًا في السياسة العنصرية لمن هم في السلطة. ففي بداية السبعينيات، ولصرف غضب الجماهير ضد نظامه، أطلق كاييباندا موجة جديدة من الاضطهاد ضد التوتسي، الذين فروا من البلاد بالآلاف. وفي يوليو 1973، أدى انقلاب مدعوم من الإمبريالية الفرنسية إلى وصول جوفينال هابياريمانا إلى السلطة الذي واصل استخدام التوتسي ككبش فداء. ومع ذلك، ازدادت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية حجمًا في الثمانينيات، عندما انخفضت أسعار البن والقصدير، ما ضرب الاقتصاد الرواندي بشكل عنيف.

حرب 1990-1993

في عام 1987، أسس التوتسي والهوتو المنفيون الذين يعارضون نظام هابياريمانا "الجبهة الوطنية الرواندية" في أوغندا، والتي طالبت بشكل خاص بوضع حد للتمييز ضد التوتسي. في مواجهة النظام الذي فقد مصداقيته بشكل متزايد، أسست الجبهة جناحًا مسلحًا. وفي الأول من أكتوبر عام 1990، دخلت قواته رواندا من أوغندا وسيطرت على عدة مناطق حدودية، ما أرعب النظام الرواندي الذي طلب على الفور مساعدة الإمبريالية الفرنسية.

بالنسبة إلى فرنسا، تحظى رواندا بأهمية كبيرة بسبب مواردها الطبيعية، ولكن أيضًا وقبل كل شيء بسبب موقعها الإستراتيجي في منطقة تهيمن عليها الإمبريالية الأمريكية. لذلك، تعتبر الحكومة الفرنسية الجبهة الوطنية الرواندية، التي تدرب قادتها في الولايات المتحدة وأقامت قواعدها الخلفية في أوغندا الناطقة باللغة الإنجليزية، على أنها لعبة في يد واشنطن تهدد المصالح الفرنسية في إفريقيا الوسطى. أيضًا، يرى الإمبرياليون الفرنسيون أن عليهم إظهار استعدادهم للدفاع عن الأنظمة الموالية لهم، لمنعهم من البحث عن حماة آخرين. وأخيرًا، أقامت باريس علاقات وثيقة جدًّا مع القوميين الهوتو الموجودين في السلطة. ويعد فرانسوا ميتران مثلًا، الصديق الشخصي لهابياريمانا وأحد أشد المؤيدين والداعمين للقوميين الهوتو.

هكذا استجابت الحكومة الفرنسية لنداء المساعدة من القادة الروانديين، وأرسلت إليهم الأسلحة والمدربين العسكريين، وأرسلت أيضًا فرقة من عدة مئات من الجنود الفرنسيين إلى العاصمة كيغالي "لحماية المواطنين الغربيين". لكن في الواقع، تم دمجهم في جميع مستويات الجيش الرواندي وشاركوا بشكل مباشر في القتال ضد الجبهة الوطنية الرواندية وشهدوا -وفي بعض الأحيان تواطؤوا- في مذابح ضد المدنيين التوتسي.

ولتوحيد سكان الهوتو وراء الحكومة الرواندية، اتهمت تلك الأخيرة الجبهة الوطنية الرواندية والتوتسي بالرغبة في قتل الهوتو للاستيلاء على أراضيهم. وما ارتكبه مقاتلو الجبهة الوطنية الرواندية من انتهاكات أثناء هجومهم غذى الدعاية الحكومية. ووفقًا لأساليب مكافحة حرب العصابات التي تعلمها من المدربين الفرنسيين، قام الجيش الرواندي بتوزيع أجهزة الراديو في القرى لضمان نشر دعايته. وعن طريقه، نشرت الكراهية ضد التوتسي بشكل بشع، ووُصفوا بـ"الصراصير" و"أعداء الداخل"، كما نظمت الدولة الرواندية ميليشيات تجوب القرى وترتكب جرائم قتل، وبحسب بعض الشهادات، تم تدريبها على يد فرنسا. طوال فترة الحرب، كانت الحكومة الفرنسية على علم بالمذابح التي ارتكبها نظام هابياريمانا.

اتفاقيات أروشا والإبادة الجماعية

في أغسطس 1993، تم التوقيع على ما يسمى باتفاقيات "أروشا" للسلام من قبل الجبهة الوطنية الرواندية والحكومة، بموافقة الإمبريالية الفرنسية التي تريد الحفاظ على سيطرتها على البلاد ووضع حد لحرب مكلفة. وتنص هذه الاتفاقيات على رحيل القوات الفرنسية، وعودة المنفيين التوتسي، وتشكيل حكومة تتألف من الهوتو والتوتسي، فضلًا عن "دمج" القوات الحكومية وقوات الجبهة الوطنية الرواندية في جيش جديد. أثارت هذه التسوية غضب المتطرفين الهوتو، الذين اتهموا هابياريمانا بالاستسلام للجبهة الوطنية الرواندية ويؤكدون صراحة على الحاجة إلى "حل نهائي" "لمشكلة التوتسي".

غادرت أغلبية القوات الفرنسية رواندا في ديسمبر 1993، لكن النقاط الأخرى في الاتفاقيات لم تحترم من قبل الحكومة الرواندية. وفي 6 إبريل 1994، أسقط صاروخ الطائرة التي أعادت هابياريمانا إلى العاصمة كيغالي. لم ينجُ أحد ولن يتم تحديد مصدر الضربة بشكل واضح. اتهم القوميون الهوتو، وكذلك القاضي الفرنسي بروجوير، الجبهة الوطنية الرواندية. ولكن بمرور الوقت، أشارت مزيد ومزيد من الأدلة بما في ذلك وثائق المخابرات الفرنسية التي رفعت عنها السرية، أن المتطرفين الهوتو هم من قتلوا هابياريمانا لنسف اتفاقات أروشا بشكل نهائي.

 بدأت الإبادة الجماعية في نفس هذا المساء الحزين. فبعد دقائق قليلة من اغتيال رئيس الجمهورية، احتل الجيش الرواندي وميليشيات الهوتو شوارع كيجالي، واغتيل أيضًا زعماء الهوتو "المعتدلون"، مثل رئيسة الوزراء أجاثا أويلينجيمانا. تشكلت حكومة جديدة مكونة من متطرفي الهوتو في قلب السفارة الفرنسية، وانطلقت على الراديو دعوات لذبح التوتسي.

حُشد التوتسي في الملاعب والكنائس والمدارس للذبح بشكل منهجي. وقطع الجيش والميليشيات الطرق لاعتراض من يحاولون الفرار. وفي القرى، تم حشد السكان -الذين تعرضوا على مدى سنوات لخطابات الكراهية والدعاية المناهضة للتوتسي- للمشاركة بنشاط في الإبادة الجماعية. وتعرض أفراد من الهوتو، الذين رفضوا المشاركة في مطاردة التوتسي للذبح بدورهم. وعلى الرغم من كل شيء، رفض عديد من الهوتو المشاركة في الإبادة الجماعية وقدموا المساعدة إلى التوتسي.

فرنسا تحمي مرتكبي الإبادة الجماعية

وبينما حدثت الإبادة الجماعية أمام أعين الدبلوماسيين والجنود الفرنسيين الذين ما زالوا موجودين في رواندا، استمر فرانسوا ميتران ورئيس وزرائه اليميني إدوارد بالادور في دعم نظام الهوتو، وخاصة من خلال تزويده بالأسلحة. وفي 15 يونيو 1994، وبينما كانت صور الإبادة الجماعية تنتشر في جميع أنحاء العالم، أعلن ميتران إرسال ما يقرب من 2500 جندي فرنسي، رسميًّا "لحماية السكان المدنيين". في الواقع، كان يهدف هذا التدخل قبل كل شيء إلى احتواء الجبهة الوطنية الرواندية، التي استأنفت هجومها وبدأت تستولي على مناطق عديدة.

لقد شاركت الحكومة الفرنسية وهيئة الأركان في الإبادة، حيث كانوا على علم تام بالأحداث، لكنهم قللوا من حجمها وزعموا أن هذه الإبادة الجماعية هي "عنف متبادل" بين الطائفتين. وعندما طالب بعض الجنود الفرنسيين بالإذن لوقف قتل المدنيين، تم منعهم من ذلك، ولم يجرؤ سوى قِلة من الناس على العصيان.

على الرغم من التدخل المباشر للقوات الفرنسية، استولت الجبهة الوطنية الرواندية على كيجالي في 4 يوليو. وفي الوقت نفسه، فرت فلول الجيش الرواندي وميليشيات الهوتو نحو زائير، تحت حماية القوات الفرنسية.

ومع المعرفة الكاملة بالحقائق، ساعدت الحكومة الإمبريالية الفرنسية منظمي الإبادة الجماعية على الفرار إلى الخارج. وعلى طول الطريق، أجبر الجيش الرواندي عديدًا من المدنيين الهوتو على مرافقته، ما أدى إلى وصول حوالي مليوني شخص إلى مخيمات اللاجئين في زائير. من هناك، نظم زعماء الهوتو ميليشيات جديدة لـ"إعادة السيطرة" على رواندا. ساعدت فرنسا مرة أخرى من ارتكب جرائم إبادة جماعية وزودتهم بالأسلحة. ورغم فشل مشروع إعادة السيطرة على رواندا، فقد لعبت هذه الميليشيات دورًا مهمًّا في الحروب التي مزقت زائير (التي أصبحت الكونغو مرة أخرى في عام 1997)، وذلك ابتداءً من عام 1996.

بعد أن أنكرت لفترة طويلة مسؤوليتها عن الإبادة الجماعية للتوتسي، اعترفت الدولة الفرنسية بها ولكن بشكل جزئي. وعلى عكس ما يقوله السياسيون اليوم، فإن السلوك الإجرامي للدولة الفرنسية خلال الإبادة الجماعية في رواندا لم يكن مجرد حادث أو نتيجة لجهل قِلة من القادة. فمن خلال دعم نظام الإبادة الجماعية، ثم السعي إلى إخفاء آثار جرائمه، كانت الإمبريالية الفرنسية تدافع عن مصالحها الأساسية، لأنها أرادت الحفاظ على سيطرتها على رواندا بأي ثمن.

ومنذ ذلك الحين، لم تتغير أساليب الإمبريالية الفرنسية. ففي جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أشرف الجنود الفرنسيون على الجيوش أو الميليشيات التي ارتكبت مذابح عرقية وقاموا بتدريبها أيضًا. في عام 2018 في مالي، قُتل المئات من أفراد مجموعة الفلان العرقية على يد الميليشيات التي شكلها النظام الموالي لفرنسا بقيادة إبراهيم بوبكر كيتا، وذلك تحت حماية الجنود الفرنسيين في عملية "برخان".

ما يمكن استنتاجه من إبادة الرواندا هو أن استمرار الرأسمالية والإمبريالية سيؤدي إلى بحار من الدماء سيدفع ثمنها العمال والفقراء في البلدان المضطهدة، من أجل أرباح حفنة من المليارديرات.


[1] - النص الأصلي للمقالة منشور على موقع "Révolution"، لينك المقال:

 https://marxiste.org/international/afrique/rwanda/3466-il-y-a-30-ans-le-genocide-rwandais