غزة تقاوم

وليد الخشاب

الحرب على غزة ونهاية الغرب

2024.02.25

مصدر الصورة : الجزيرة

الحرب على غزة ونهاية الغرب

ربَّما كانت الحرب التي تشنها إسرائيل (وأمريكا) على فلسطين منذ مطلع الأسبوع الثاني في أكتوبر عام 2023 تدشينًا لنهاية الغرب، بمعنى: أن ذلك العالم المثالي حامل قيم الديمقراطية والحرية على مستوى الانتخابات التمثيلية، والسوق، وحرية الرأي والتعبير، والالتزام بحقوق الإنسان كما تم تعريفها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. الغرب بوصفه أبَ الإعلانِ العالمي لحقوق الإنسان، ولقوانين حماية المدنيين وقت الحرب، ومنع التمييز، وتجريم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، والتأكيد على حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في المقاومة بما فيها المقاومة المسلَّحة، هذا الغرب قد انتهى. للأسف، الغرب كقائد للقيم الإنسانية الكونية الشاملة كما صاغتها الشعوب المنتصرة في 1945 في الحرب العالمة الثانية قد تغير، لا بمعنى: أنه لم يعد هناك مواطن غربي يؤمن بتلك القيم، بل بمعنى: أن الإجماع الغربي على الاحتكام لتلك القيم والمواثيق والخطابات في التعامل مع كافة القضايا والشعوب قد انتهى. بعض الخطابات في الغرب لم يزل قابضًا على الجمر ويتمسك بفكرة المساواة في الحقوق وفي احترام الإنسانية دون تمييز بين البشر؛ بعض الخطابات يرفع تلك الشعارات، لكنه يعني ضمنًا أو تصريحًا: أن تلك الشعارات تخص الغرب أو الرجل الأبيض وحده، وبعض الخطابات يجاهر ببذاءةٍ أن للغرب الحقَّ في أن يفعل ما يشاء - بما في ذلك الاضطهاد والإبادة - بمن يعترضون سياسات الغرب التوسعية، أو الاستعمارية، أو المهيمنة، أو الاستعلائية. 

مئة عام إلى الوراء

العدوان الإسرائيلي على غزة تأكيد على عودة عالمنا مئة عام إلى الوراء، إلى زمن القومية المتعصبة، التي جعلت من الاصطفاف خلف الدولة القومية مثلًا أعلى، والتي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الأولى بين 1914 و1918، حيث ساد في الغرب منطق بسيط: الأولوية الأخلاقية للمرء هي أن يدافع عن وطنه (حتى لو كان المقصود الدفاع عن مصالح استعمارية أو مهيمنة للدولة الوطنية). وهكذا - على سبيل المثال - قام مناضل من اليمين القومي المتطرف باغتيال الزعيم الاشتراكي الفرنسي جان جوريس في 31 يوليو 1914، قبل بداية الحرب العالمية الأولى بثلاثة أيام، بسبب اعتراض جوريس على دخول فرنسا الحرب الأولى، ورغم شعور جماهير مؤيدي جوريس وفصائل اليسار كلها بالصدمة والحزن، فإن الهدوء التام في كافة أنحاء فرنسا، وإجماع النواب الاشتراكيين على تأييد منح الحكومة مخصصات مالية للحرب بعد أيام من اغتيال الزعيم الاشتراكي، يؤكدان وجود قَبول مجتمعي للمبدأ القومي الذي حكم على جوريس بالخيانة؛ لرفضه الانصياع وراء الصراعات القومية من أجل تعايش دولي ترسخه الطبقة العاملة في كافة البلاد. 

اليوم في الغرب، من يعترض على العدوان الإسرائيلي على غزة يتعرض لاغتيال معنوي يعادل اغتيال جوريس بالفعل. وربما اشتهرت بعض الأمثلة، مثل: النائب البريطاني المحافظ كريسبن بلانت، الذي كتب إلى رئيس الوزراء البريطاني في حوالي 13 أكتوبر 2023 محذرًا إياه من أن الدعم غير المشروط - المقدم من بريطانيا إلى إسرائيل في جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة - يعرِّض الحكومة البريطانية للمساءلة القانونية، وفقًا لأحكام القانون الدولي. فإذا بالشرطة البريطانية تقبض على بلانت بعد ذلك بأقل من أسبوعين، وتحديدًا يوم 25 أكتوبر، بتهمة الاغتصاب وحيازة مخدرات.

فلسطين من كندا

أقيم وأعمل في كندا منذ ما يزيد عن ربع قرن، وكندا ليست في مركز العالم، بل - على حد قول إحدى شخصيات فيلم "انهيار الإمبراطورية الأمريكية" للمخرج الكندي دنيس أركان - نحن (في كندا) نعيش على حدود الإمبراطورية (الأمريكية)؛ ولهذا يمكن رصد تحولات "نهاية الغرب" في كندا بصورة أكثر هدوءًا. لم نر في كندا نوابًا في البرلمان قد قبض عليهم البوليس عقابًا لهم على اعتراضهم على دعم كندا غير المشروط لإسرائيل في بداية عدوانها على غزة، لكن حدث ما هو أسوأ في رأيي، وهو طرد النائبة في برلمان مقاطعة أونتاريو، السيدة سارة جامع، من حزب اليسار، الحزب الديمقراطي الجديد، حيث لم تزل عضوة في برلمان المقاطعة، ولكن كعضو مستقل. فور بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، أصدرت سارة جامع بيانًا يدين العنف والاستعمار الإسرائيلي في فلسطين، فانتقدتها رئيسة الحزب الديمقراطي بأونتاريو، ونظم رئيس وزراء حزب المحافظين الحاكم في المقاطعة إجراءً رسميًّا لتوجيه اللوم والتوبيخ لها في البرلمان، وفور تصويت الأغلبية المحافظة وموافقة البرلمان على توجيه اللوم للنائبة، قامت رئيسة حزب اليسار بطرد النائبة جامع، وهي امرأة مسلمة، صومالية، معوَّقة. 

المفترض في حزب اليسار هو تبني خطاب المساواة بين البشر والوعي بالظلم التاريخي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني. والحزب الديمقراطي الجديد على المستوى القومي الكندي كان تاريخيًّا مناصرًا للحق الفلسطيني، ولا يتورع قادته عن انتقاد الصهيونية (واستخدام لفظ "الصهيونية" بوضوح)، وربط مخططات دولة الاحتلال بالمخططات الاستعمارية والإمبريالية، والدفاع بصراحة ووضوح عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين، بما فيه الحق في دولتهم المستقلة. كان هذا الخطاب معتادًا على لسان أليكسا ماكدونو زعيمة الحزب في نهاية التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، وعلى لسان سفند لارسون أحد أبرز قادة الحزب، لكننا اليوم نرى ترسخ أداء حزب اليسار الكندي بوصفه حزبًا للمواطنين البيض من يسار الوسط، ورغم أن الحزب قد دعم سارة جامع لدخول البرلمان، فإنه لحظة أول اختبار حقيقي، ظهر الحزب بوصفه حزبًا لا يسمع إلا صوت الرجل الأبيض الجريح، المذعور من تخلخل مكانته المستعلية. رد الفعل السائد في الغرب إزاء العملية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية ضد دولة الاحتلال البيضاء، هو صدمة حيال الضربة التي تلقتها هيمنة الرجل الأبيض؛ فالهزيمة المروعة التي لاقتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على يد مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينية التي نفَّذت عملة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 تمثل تأكيدًا مجددًا أن الرجل الأسمر، الفلسطيني العربي، قادر على أن يؤلم الرجل الإسرائيلي الأبيض وأن يردَّ عنفًا بعنف، وهو ما يُفقِد الرجل الأبيض توازنه؛ ولهذا لا تتوزع المواقف السياسية من الصراع بين قوة الاحتلال وقوة المقاومة بين اليمين واليسار، بل بين المتمسكين بالهيمنة البيضاء العرقية والرأسمالية الطبقية معًا، وبين من لا يعتبرون تلك الهيمنة معيارًا عادلًا لتنظيم المجتمع.

وهكذا يتأكد أن حزب اليسار الكندي يسعده أن يرضي خطاب الاستعلاء الأخلاقي الليبرالي، فينتخب نائبةً تحقق تمثيلًا لأقليات عديدة: المعوقين والأفارقة السمر والمسلمين والسيدات، لكن بشرط مضمر وهو أن تُبقيَ فَمَها مقفولًا، إلا بوصفها نموذجًا لنجاح الليبرالية في تأكيد تفوقها الأخلاقي الذي يعني: الاعتناء بالأقليات. وعند أول مِحَك حقيقي، مثل: قضية استعمار إسرائيل لفلسطين، لا يتحرج حزب البيض اليساريين من الإطاحة بالنائبة السمراء ابنة الطبقة الشعبية؛ لأنها تخرج عن النص. التحليل نفسه ينطبق على احتفاء الحزب الديمقراطي الأمريكي بالنائبة رشيدة طليب، باعتبارها أول نائبة من أصل فلسطيني تدخل مجلس النواب الأمريكي، وواحدة من أول نائبتين مسلمتين تدخلان الكونجرس، لكن بمجرد أن عبرت عن تأييدها للحق الفلسطيني في التحرر، تعرضت هي أيضًا لتصويت الكونجرس على توجيه اللوم أو التوبيخ لها، وتم توجيه تلك العقوبة الرمزية تجاهها.

بالطبع قد يحاول المنصف أو المتفذلك أن يتناول هذين المَثَلين بدقة، ويشرح أن النائبة الكندية قد طُردت من حزبها لأنها أدانت الاستعمار الإسرائيلي وعدوانه، دون أن تنتقد عملية المقاومة الفلسطينية وأن تصفها بالإرهابية، أو أن النائبة الأمريكية قد استخدمت عبارة "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، والتي يؤولها الصهاينة ومن يواليهم من اليمينيين أو الليبراليين الحريصين على مشاعر كل الناس (إلا مشاعر المسحوقين من السمر) على أنها شعار يعني: إزالة دولة إسرائيل. لكن المؤكد أن التحامل ضد المدافعين عن الحق الفلسطيني قد صار أمرًا يجرؤ عليه جميع السياسيون في كندا كما في أمريكا دون رادع ولا وازع من ضمير. على سبيل المثال: استدعت شرطة فانكوفر، كبرى مدن الغرب الكندي، منظم إحدى مظاهرات التضامن مع الحق الفلسطيني بتهمة ترديد شعار "من النهر إلى البحر، فلسطين حرة"، باعتباره شعارًا معاديًا للسامية؛ أي: أن الهيئات الرسمية تعتمد الدعاية الإسرائيلية بوصفها الأرضية الأخلاقية والقانونية لتعاملها مع الأحداث، ولا تلتفت لمبدأ حرية الرأي وحرية التعبير، ولا لمبدأ التوازن بين التحالفات الغربية مع إسرائيل وحقوق الفلسطينيين المشروعة والمستقرة في وثائق القانون الدولي. 

تحولات كندية من التحرر إلى التجبر

وصلتُ إلى مونتريال، درة مقاطعة كيبيك في كندا عام 1997؛ لأدرس الدكتوراه في جامعة مونتريال، آنذاك كان معتادًا أن ترى كبار الوجوه العامة التي تتبنى تيار استقلال مقاطعة كيبيك عن بقية كندا وهم يتظاهرون تضامنًا مع فلسطين. أذكر مظاهرات شاركت فيها بنفسي في شوارع مونتريال في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، تقريبًا في الفترة بين عامي 1999 و2003، في لحظات اشتد فيها العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وأذكر أن أحد الهتافات الأساسية وقتها كان ضد نتنياهو، الذي هو إلى اليوم صاحب الرقم القياسي في عدد سنوات تولي رئاسة وزراء إسرائيل؛ إذ تولى الحكم بين 1996 و1999 ثم تولى الحكم بلا توقف منذ 2009 إلى لحظة كتابة هذه السطور في نهاية 2023. في تلك الفترة، رأيت النقابي الكيبيكي الكندي الكبير ميشيل شارتران يحضر اجتماعات التضامن مع فلسطين مرتديًا الكوفية الفلسطينية، ويشارك في المظاهرات والوقفات التضامنية، ورأيت المخرج الكيبيكي الشهير بيير فالاردو يشارك في التظاهرات نفسها، بالإضافة إلى حضوره القوي في الإذاعة والتلفزيون، حيث كان يهاجم الصهيونية والإمبريالية الأمريكية، ويصفهما بالقوى الاستعمارية العنصرية دون أن ترتفع أصوات معترضة لا في كيبيك ولا في كندا على وجه العموم.

لكن كانت تلك نهاية عصر: كانت الأيام الأخيرة لجيل كيبيكي تكوَّن في الستينيات، في لحظة كان كثير من الكيبيكيين يتوحدون فيها مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، بحكم تصورهم أنهم هم أيضًا واقعون تحت احتلال إنجليزي مثلما وقعت دول أفريقية وآسيوية وعربية تحت الاحتلال الإنجليزي. الاستقلاليون الكيبيكيون لا يعتبرون أن توحيد أراضي كندا بقوة السلاح البريطاني في القرن التاسع عشر عملية تاريخية، بل عملية احتلال لأراضي كندا التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي. من هذا المنطلق، نفهم كيف أن أحد منظري حركة الاستقلال الكيبيكية بيير فاليير، قد أصدر عام 1968 كتابًا عن النضال التحرري الكيبيكي بعنوان: "زنوج أمريكا البيض"، قاصدًا أن حال الكيبيكيين البيض تحت الهيمنة الإنجليزية البيضاء في كندا يشبه حال الأفارقة الأمريكيين تحت الهيمنة الإنجليزية البيضاء في أمريكا. وأشهر فصيل انفصالي كيبيكي في الستينيات والسبعينيات قد اختار اسم: "جبهة تحرير كيبيك" على وزن "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية.

اليوم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، في كيبيك كما في بقية كندا لم يعد المواطنون يتوحدون مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، بل صاروا يتوحدون مع سياسات الهيمنة البيضاء في الغرب، سواء مالوا يمينًا في اتجاه تصور استعلائي عن مميزات الرجل الأبيض، أو مالوا يسارًا في اتجاه الليبرالية الطيبة السَّمْحة التي تضمر على كل حال تفوق الرجل الأبيض مانح الفرصة لغير البيض. أما في بقية كندا الناطقة بالإنجليزية، فقد توارى الموقف الستيني السبعيني، الذي جعل من كندا نصيرًا لحركة مناهضة الحرب في فيتنام، حتى إن الآلاف من الشباب الأمريكي المعترض على دخول الولايات المتحدة الحرب ضد فيتنام قد لجؤوا إلى كندا لجوءًا سياسيًّا آنذاك.

لكن لا يمنع هذا أن كندا مثلها مثل الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة، تشهد منذ العدوان الإسرائيلي على غزة مظاهراتٍ كبيرةَ الحجم للتضامن مع فلسطين. "كبيرة" بحساب نسبة المتظاهرين إلى عدد السكان، بالإضافة إلى الضعف المعتاد لعدد المشاركين في المظاهرات بكندا. اللافت للنظر أن المظاهرات الكندية بلغت حدًّا غير مسبوق منذ المظاهرات التي اندلعت عام 2003 ضد العدوان الأمريكي على العراق، واللافت أيضًا أنها تشمل كافة المدن الكبرى من الشرق إلى الغرب الكندي، ومع ذلك، فلا يوجد إلا القليل النادر من السياسيين الذين يؤيدون وقف إطلاق النار والعدوان الإسرائيلي على غزة. بل إن المثال الكيبيكي بالغ الدلالة. فالمقاطعة يحكمها فرانسوا لوجو؛ وهو رئيس وزراء يميني كان يمثل يمين الحزب الكيبيكي الاستقلالي، لكن موقفه المخجل يتمثل في إعادة ترديد الشعارات الإسرائيلية، في حين أن الحركة الاستقلالية الكندية التي كان ينتمي إليها كانت تتبنى لعقود - وبلا تردد أو مواربة - خطاب الدفاع عن الحق الفلسطيني وانتقاد الاستعمار الإسرائيلي.

إعادة تعريف للعنف وللحقوق

ربما لم يكن العدوان الإسرائيلي على غزة مستغربًا لمن يراقب سياسات الهيمنة الصهيونية في الشرق الأوسط، وربما استغربنا جرعة التواطؤ الغربي مع إسرائيل، وخصوصًا العنف الذي سمحت به حكومات أوروبية كثيرة ضد المتظاهرين المناهضين للعدوان؛ لأنه نقلة حاسمة في التناقض بين خطاب الليبرالية الغربية، وممارسات حكومات الغرب المتزايدة القمعية. كل الدول الغربية تواطأت مع العدوان الإسرائيلي على غزة، باستثناء أيرلندا، وقد عدلت بعض الدول الأوروبية في خطابها وبدأت تستعطف إسرائيل بألا تسرف في إبادة المدنيين الفلسطينيين بعد شهر من بدء العدوان، بعد أن رأت مئات الآلاف من مواطنيها في المظاهرات المنددة بالوحشية الإسرائيلية، مثلما حدث في فرنسا وإسبانيا. بهذا يؤكد الموقف الدولي أننا على أعتاب مرحلة جديدة، تغيرت فيها تعريفات حاكمة للعلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، وتغيرت فيها مضامين الخطابات الدولية السياسية والقانونية والأخلاقية.

على مستوى القانون الدولي، تأكد أن الغرب يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية في تعاطيه مع تقنين العنف الدولي. اليوم، بعد عدوان إسرائيل على غزة، لم تعد المستشفيات خطًّا أحمر في الحروب، وتأكد أن القصف الشامل ببساط من القنابل على المدن لم يعد خطًّا أحمر. وعلى مستوى الفكر السياسي، يعود الغرب إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى في تبنيه خطابًا قوميًّا، رغم أنه مغلف بوهم أيديولوجي يستخدم مفردات عفا عليها الزمن، مثل: محاربة معاداة السامية، التي تحولت من جزء من محاربة العنصرية، إلى سلاح دعائي لمحاربة مناهضي سياسات إسرائيل التوسعية والمهيمنة. فكلما ارتفعت أصوات تدين الإبادة العرقية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة تحت وطأة القنابل الإسرائيلية أمريكية الصنع، عَلَتْ أصوات الساسة الغربيين بعبارة: "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها"؛ أي: أن لإسرائيل الحقَّ في أن تفعل ما تشاء بالفلسطينيين ما داموا قد جرؤوا على المقاومة المسلحة، وهو لب الخطاب البريطاني أثناء تدميره للإسكندرية وقت غزو مصر عام 1882، ولب الخطاب البريطاني أثناء المذابح التي أبادت فيها جيوش الإمبراطورية الآلاف من المقاتلين المهديين المدافعين عن السودان ضد الغزو البريطاني في الفترة نفسها. وعلى المستوى الأخلاقي والعرقي، يعود الغرب إلى مرحلة الاستعمار الفج في القرن التاسع عشر، الذي لا يرى غضاضة في التعامل باستهانة مع الإنسان الأسمر المُستَعْمَر - "الآخر الجذري" – أي: الذي ليس أبيض غربيًّا.

ما لون عنف الغرب اليوم؟ هل نحن بالفعل إزاء نزعة استعلائية تتبنى تفوق الرجل الأبيض من حيث هو أبيض البشرة، مثلما كان الحال في تصور الأوروبيين لموقفهم تجاه الشعوب المستعمرة في آسيا وإفريقيا؟ فكيف إذن نفسر أن رئيس وزراء بريطانيا سوناك هو هندي هندوسي أسمر؟ وأن وزيرة داخليته المستقيلة المتطرفة في عدائها للمهاجرين - رغم كونها نفسها ابنة مهاجرين - السيدة بريفرمان هي كذلك هندية سمراء؟ هل يكفي تفسير عدائهما للحق الفلسطيني، وعنصريتهما ضد العرب والمسلمين، بكونهما انعكاسًا أو استبطانًا لعداء المتطرفين اليمينيين معتنقي القومية الهندوسية الفائقة في الهند، والذين يُكِنُّون العداء للهنود المسلمين وللباكستانيين، ويسقطون تلك الكراهية على الفلسطينيين؛ إذ يتصورونهم مسلمين يستخدمون المقاومة المسلحة، مثلما تفعل المقاومة الكشميرية المسلمة التي تدعمها باكستان ضد الاحتلال الهندي لكشمير المسلمة؟

ما هي القومية اليوم؟ لم تعد قومية قطرية، مثل القومية الفرنسية التي حرصت على إذلال القومية الألمانية المهزومة بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، ولا مثل القومية الألمانية التي تضخمت ذاتها وانقلبت إلى نازية انتقامًا لكرامتها عشية الحرب العالمية الثانية. قومية اليوم غربية، تضم إسرائيل وكافة البلاد الغربية، في مواجهة قوميات يَنظر إليها الغرب على أنها مغايرة شرقية، مثل القومية الروسية أو القومية الصينية. لم تعد إذن عبارة: "التفوق الأبيض" التي تعبر عن الاستعلاء الغربي عبارة حرفية، بل مجازية، ينضوي تحتها سُمْر البشرة وبِيضُها، ما داموا يتصورن أنفسهم جزءًا من الغرب المتفوق. لكنها أيضًا قومية طبقية. فالاستعلاء الغربي المقصود هنا لا يَعتبر الأقليات المسلمة المنتمية إلى الطبقات الكادحة والشعبية جزءًا حقيقيًّا من الغرب؛ فالاستعلاء الغربي الأبيض هنا مجازي من حيث العِرق، ومجازي من حيث الطبقة: هو استعلاء أصحاب الياقات البيضاء أيًّا كان لون بشرتهم. لكن الجديد في هذا الوعي العرقي المجازي/ الطبقي في الغرب، هو أنه لا يهتم بالفكرة الرأسمالية التي سادت حتى وقت قريب من وحدة السوق في العالم، وبالتالي تقارب رؤوس الأموال في العالم شرقه وغربه. لكن لم تكشف بعد الأيام عن تجذر ذلك التعصب. ما نراه اليوم على شاشاتنا هو تعنت أصحاب الياقات البيضاء والخيال الأبيض ضد سُمْر البشرة من فقراء فلسطين، بصراحة ووقاحة، ودون اكتراث حقيقي بخطاب المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات.