دراسات
طارق حجيالرواية العربية وسرد النبوة
2017.11.01
مصدر الصورة : ويكيبديا
الرواية العربية وسرد النبوة
ربما لا توجد لحظة طوال تاريخ هذه الأمة انقطع فيها سرد سيرة النبي. ففي التقليد الإسلامي الطويل توزع هذا السرد لسيرة النبي بين كتب وحقول شتى، ما بين كتب مخصصة للسيرة وأخرى للتاريخ وأخرى للحديث وأخرى للشمائل والدلائل. ولم يكن دخول العرب «الأزمنة الحديثة» ليقلل من هذه الأهمية والمركزية المعطاة لسرد سيرة النبي، بل وكما يرى البعض
فإن ما كتبه المحدثون في سيرة النبي قد يتجاوز ما كتب الأقدمون طوال قرون. فقد كتب المحدثون سيرة النبي وفقًا لسياقات ومنطلقات وأهداف مختلفة تجعل بالإمكان الحديث عن مدونة حديثة شديدة التنوع للسيرة النبوية.
إلا أن ما يلفت النظر بشدة في هذا السياق هو عدم استخدام «العرب المحدثين» لـ»الرواية» -التي أريد لها بشكل ما أن تكون ديوانًا جديدًا للعرب- في سرد النبوة، هذا رغم الاتفاق المبدئي بين كتّاب الرواية على البعد القصصي لنص السيرة التراثي، وكذا رغم الاتفاق المبدئي على موقع خاص للرواية في سياق التنوير العربي، يجعلها لا مفعوله بل -بالقدر الكبير- فاعله، حيث الرواية «فعالية تنويرية» غرضها تكريس قيم التنوير عبر طرحصورة للعالم مُحايثة لها وعبر استخدامهافي بنائها للغة ومنظور للواقع يتجاوز طرائق الشعر والملحمة كأنماط سرد عالم قديم.
نقول أنه ورغم هذا فإن كتاب الرواية ونقادها ومنظريها،الذين هم ذاتهم رواد التنوير ومنظريه، أمثال طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن الشرقاوي، حين قرروا كتابة سيرة النبي فإنهم لم يكتبوها هي بالذات كرواية، بل كتبوها كتبًا،فكتب العميد «على هامش السيرة»، 1933، وكتب هيكل «حياة محمد»، 1935، وكتب الشرقاوي «محمد رسول الحرية»، 1962.
إن هذا الغياب لرواية عن النبوة، وخصوصًا عند روائيين كتبوا بالفعل عنها،يثير عددًا كبيرًا من الأسئلة. فبأي قدر كانت هناك محاولة لصيانة «النبوة» من أن تُسرَد هي بالذات عبر الرواية؟ وما علاقة هذا بالرغبة في صيانة «الدين» -أو على الأقل مرتكزاته الرئيسة-عن الدرس العلمي العقلاني، الذي كان يُقدَّم كحل ومخرج أساس من أزمات الأمة، كأحد ترتيبات العلاقة بين التقليد\ الحداثة، الأصالة\ المعاصرة، الدين\ العلم؟ هل كانت هناك ثمة خشية على النبوة من السرد الروائي لا تقل عن الخشية من النقد العقلاني -بصورته التاريخية الوضعانية بالذات-لها؟ وما الذي ينطوي عليه السرد الروائي ويجعله سببًا في إثارة مثل هذه الخشية، حتى يُقصى عن سرد النبوة أو يتساكن داخل بعض «النصوص» السيرية مع أجناس كتابة أخرى تفقده ملامحه وفعاليته الخاصة؟
نحاول في هذا المقال إثارة هذه الأسئلة الُمتشابِكة التي تطرحها واقعة عدم كتابة الروائيين لسيرة النبي تحديدًا كرواية، ونحاول تقديم بعض إجابات ولو أوَّلية حولها، عن طريق النظر لسياقات صعود الرواية العربية «كفعالية تنويرية»، وما عناه هذا التنوير في هذه الحقبة بالذات، وكيف أثَّر هذا التشكيل لـ»التنوير» ولـ»الرواية» على أنماط السرد المتاحة لمقاربة المرتكزات الدينية ومنها «النبوة»، وكيف أدَّى كل هذا لضرورة أن تُسرد النبوة حتى من قِبَل الروائيين كتبًا لا رواية.
ونحن نُحدِّد اشتغالنا هنا بالأساس بفترة ما بين نشأة الرواية العربية في العشرينات وإلي السبعينات تقريبًا. حيث أن هذه الفترة هي التي شهدت صعود الرواية العربية، وتراكُم تراث نقدي له طابع توجيهي للرواية ولدورهابين الأنماط السردية الأخرى ولوظائفها في عملية التنوير والنهوض، كما أن هذه الفترة قد شهدت كذلك تعديلات في صيغ العلاقة بين التنوير \التقليد، الدين \العلم،التراث \الحداثة، وفي ترتيبات العلاقة ما بينهم، وكذا هي التي شهدت صعود الرومانسية العربية وصعود فكرة «البطل التاريخي»كأحد صيغ التوفيق بين هذه الثنائيات والتي تجسدت في محاولة صياغة كثير من قصص الشخصيات في التراث الإسلامي عبر منظور مفاهيم «العبقرية» و»البطولة». إذن فهذه الفترة بتشابكاتها تلك شديدة المناسبة لطرح موضوعنا هذا.
الرواية العربية كفعالية تنويرية
نحن نتحدث هنا عن الرواية العربية ودورها في التنوير العربي من وجهة نظر مُنظِّريها وكتَّابها لا وفقًا للسياقات التي أنشأتها ولا لنمط علاقتها بالرواية الغربية. فصحيح أن ثمة عدد من النظريات حاولت تفسير نشأة الرواية العربية من حيث علاقاتها بالأنماط السردية السابقة عليهامن جهة، ومن حيث علاقاتها بالرواية الغربيةمن جهة أخرى، أو من حيث علاقاتها بنشأة البرجوزاية الصغيرة استمرارا لطرح لوكاتش الشهير عن نشأة الرواية الغربية من جهة ثالثة، ولهذا بالطبع أثره على تصور دور الرواية ووظيفتها وعلاقتها بمتلقيها كذلك، إلا أن ما يهمنا هنا بالأساس هو نظرة مُنظِّري الرواية العربية وكتَّابها لدورها ولعلاقاتها بالأنماط السردية السابقة عليها. فربما لهذا الأثر الأكبر في تشكيل الكثير من سمات الرواية العربية بل في «تأطيرها» في وظائف وأدوار محددة، خصوصا مع كون المُنظِّرين للرواية هم أنفسهم رواد الرواية.
وثمة ثلاثة أسماء نظن أنهم الأهم في الكشف عن هذه الرؤية للرواية ولوظيفتها ولدورها التنويري، هميحيى حقي وطه حسين ومحمد حسين هيكل، والاثنان الأخيران لهما أهمية خاصة في حديثنا، حيث للاثنين كتابات حول السيرة النبوية بالفعل كما أسلفنا.
يحيى حقي هو الكاتب المصري الذي يُعتبر قد قدَّم للكتابة أسلوبًا جديدًا تماما يجمع بين الجمال الأدبي من جانب والسلاسة والوضوح الشديدمن جانب آخر.فهو يتجاوز نمط الكتابة السجعية الذي ساد في سياق الاحتدام السياسي بين الأحزاب بعدثورة 1919، كما يتجاوز الأسلوب الصحفي التلغرافي لدى أحمد لطفي السيد،وهو وإلي الآن يُمثِّل عند الكثيرين ربما أبرز وأفضل من كتب القصة القصيرة، و»جواهرجي الكلمة» كما يحب محبوه أن يلقبونه، وهو لقب له دلالته في سياق حديثنا كما سيتضح.وإن كان أكبر مجهود حقي كان في كتابة المقالات التي تظل مطبوعة بطابعه الخاص، إلا أن يحيى حقي الذي يصر على اعتبار نفسه «عضوا منتسبًا للفن» هو روائي وقصصي له أهمية خاصة في تاريخ الرواية وفي التنظير لعلاقتها بالنهضة الشاملة. حيث قدَّم حقي رواية هامة للغاية في هذا السياق هي «قنديل أم هاشم» وقصة أهم ربما هي «البوسطجي»، والأهم من هذا وذاك أنه ناقد أفرد كثيرًا من مقالاته للنقد وللتنظير للرواية وللقصة العربيةولعلاقتهم بالإصلاح الفكري،ولنقاش مسألة نقد الأساليب الموروثة من عصور الانحطاط ومحاولة البحث عن أساليب كتابة جديدة، مثل ما كتب في «أنشودة للبساطة» و»عشق الكلمة» و»خطوات في النقد» و»فجر القصة المصرية» و»هذا الشعر»، ونستطيع من خلال كتابات حقي النقدية وأعماله الروائية والقصصية أن نضع يدنا على ما يمكن اعتباره نظرية في دور الرواية في إنجاز التنوير وتحقيق النهوض عبر «إصلاح أنماط التعبير عن الوجدان».
فمبدئيًا نجد أن حقي يرفض بشدة الأساليب السردية الموروثة من عصور الانحطاط المُغرِقة وفقًا له في البديع والسجع اللفظي، أو ما يتسلل إلي الكتاب المعاصرين من «سجع فكري»، ويعتبر أن هذه الأساليب غير قادرة على التعبير عن وجدان الفنان ولا عما تعاينه شخصياته من وجدانات، هذا لأنها تستخدم اللغة استخدامًا يجعلها بدلًا من أن تبرع في تصوير ما هو خارجها –الواقع والوجدان-فإنها تلتف على ذاتها للتعبير عن لا شيء سوى جماليتها هي الذاتية، أي أن الكلمات ورنينها وسجعها تتحول لأقانيم جمالية تحجب الجمال الحقيقي المراد التعبير عنه عبر اللغة\ الأسلوب.لذا يحاول حقي بلورة تصور آخر لجمالية اللغة يتناسب ومطلب «وضوح الفكر»،حيث يجعل جماليتها الأولى في قدرتها على التعبير الدقيق بالأساس. فجمال اللغة ليس في رغمذلكتها وبيدأناتها ولا في التعابير الكبيرة التي لا تصدق على شيء ولا في البهلوانيات الساذجة ودس الحكم والمواعظ، بل وفقًا لصاحب «أنشودة البساطة» فإن جمال اللغة يكمن في «ايجازها النبيل» للدلالة ببساطة ومباشرة على ما تصف سواء أكان الواقع أو الوجدان.
وطموح حقي هذا من أجل إنشاء «لغة علمية \ أدبية» لكتابة الرواية، تتسم بالبساطة والوضوح والشفافية وتبتعد عن الإطناب والتكرار،وتنتهج «الإيجاز النبيل» وتبتعد عن تلك الدائرة المفرغة و»ميوعة الأسلوب التي تُؤدِّي لميوعة الفكر وميوعة الفكر التي تُؤدِّي لميوعة الأسلوب»، فتُحدِّد المعاني وبالتالي الألفاظ بصورة يكون اللفظ حتميًا بحيث لا يكون المكان صالحًا إلا له»،، يكشف عن هذا التلاقي، بل دعنا نقول هذا التمازج، في عملية الإصلاح المنشودة بين»إصلاح العقل»و»إصلاح أنماط التعبير عن الوجدان». فإذا كان لابد للعقل العربي -الذي يُمثَّله إسماعيل بطل روايته «قنديل أم هاشم»- الانتقال في التفاعل مع الواقع من التعامل الغيبي والسحري المُلتَف حول نور القنديل الحاجب للواقع إلي تعامل علمي مُلتَفِت لوقائع التجريب، فإن هذا غير ممكن إلا عبر تحرير وجدانه وإصلاح أنماط تعبيره عنه من القوالب المُسبقة والجاهزة التي تجب حيوية شعوره،وكذا عبر تخليص اللغة التي يُعبِّر بهامن الالتفاف حول نور قنديلها الخاص لتستمد جماليتهامن وظيفتها البيانية التوصيلية،حيث تصير قنديلًا يضيء بدقة وجدان الفنان.
هذه الدقة العلمية التي يطلبها حقي هي التي حدت به لمطالبة المتدربين على كتابة القصة القصيرة بتوسيع معجمهم اللغوي. حيث يبدو حقي في ملاحظاته على قصص هؤلاء الكتاب،وحقيقة في كل ما كتب حول اللغة العربية،وكأنه من رافضي وجود الترادف في اللغة. إذ يعتبر أن كل كلمة في العربية لها معنى دقيق، وأن ما يُظن أنها كلمات مترادفة لها مدلول واحد مثل»رنا- بصر- طرف-اشرئب» هي في حقيقة الأمر دوال تشير لمدلولات يوجد بينها فروقات دقيقة لا يتلفت إليها إلا القليل، وأن ما يُظن كأوصاف لنفس اللون هو تعبير عن درجات وأطياف هذا اللون، وأن ما يُظن كأسماء لنفس الحيوان هو أسماء لمراحل عمره، ويعتبر حقي كل هذا ثروة لغوية امتازت بها العربية تساعد تمامًا في عملية الكتابة والسرد والوصف الدقيق وتُؤهِّل الكاتب للتعبير بوضوح ودقة عما يريد تجسيده.
بالإضافة لهذا الدور للرواية والقصة في تجديدهم الأسلوب اللغوي وأنماط التعامل مع اللغة وتحرير الوجدان وإنقاذ الفكر من الميوعة والانطلاق به للوضوح والدقة، فثمة وظيفة تنويرية أخرى للرواية ألح عليها حقي، وهي أن تكونوسيلة للتعبير عن حيوات الجميع، الفقراء والمهمشين والفلاحين،الذين ربما لم ينصفهم كثيرًا الشعر، أو في المجمل الثقافة الرسمية المتفاصحة بتعبيرات عبد الله إبراهيم، بل كانوا دومًا عرضة للسخرية كما في الكتاب ذي الدلالة الهامة «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف» الذي وصف الفلاح بأشنع أوصاف وفقًا لحقي.من هنا نجد حقي مثلًا ينتقد كون كبار الكتاب ذوي الأصول الفلاحية، مثل علي مبارك وطه حسين، حتى حين سردوا سيرهم لم يهتموا بمرحلة وجودهم في الريف ليفصِّلوها بصورة أكبر، بل احتلت مساحة الوجود في القاهرة الجزء الأكبر من سيرهم. كذا نجد حقي ومن نفس المنطلق يعطي أهمية خاصة لروايات مثل «زينب»لمحمد حسين هيكل (1914)، وقبلها»عذراء دنشواي»لمحود طاهر حقي (1906) والتي اتخذت من الفلاح موضوعًا لها، فكانت «أول رواية مصرية تتحدث عن الفلاحين، تصف حياتهم ومشاكلهم، وتنقل لنا لغتهم كما ينطقونها بلهجتهم وأسلوبهم ودعابتهم» وتصف لنا الريف بـ»بسمائه وأشجاره، وحقوله وأجرانه، وأبراج حمامه».
وقد تجلت هذه الوظيفة التنويرية للرواية بصورة كبيرة في عدد من قصص حقي ذاته مثل «أم العواجز» و»صح النوم» و»خليها على الله»، وأهمها على الإطلاق في ظننا «البوسطجي»، وهي الرواية التي لا تسرد فحسب قصة حب مختفية تحت رماد سكون قرية، بل تكشف وعبر نمط سردها نفسه عن تخفي واختباء هذه القصة، بحيث لم يكن ممكنًا للقاريء أن يعلم بهذه القصة عبر فاعليها الرئيسيين بل عبر قراءة «البوسطجي» للجوابات المتبادلة بين الحبيبين.ربما كانت هذا القصة علامة على مجاهدة الرواية العربية في نشأتها على التعبير عن من لم يكن لهم مكانًا في أنماط السرد السابقة والذين ربما لم يستطيعوا بعد الظهور على صفحة الرواية طويلًا إلا عبر جوابات يقرأها بوسطجي.
بالطبع وجد بعض هؤلاء المهشمين مكانهم في روايتين هامتين لعميد الأدب العربي طه حسين، نقصد»دعاء الكروان» و»شجرة البؤس»، كما في سيرته «الأيام»، سواء في مرحلتها الريفية أو القاهرية. وطه حسين يبدو وكأنه ليس فحسب مُنظِّرا للرواية العربية الناشئة،بل ربما ضابطًا لإيقاعها عبر «سلطة رمزية» استطاعت تثبيت كثير من الرؤى في «الحقل الأدبي»وتعطيل أخرى. فمواقفه الشهيرة من العامية أو من الفن العبثي، وهي مواقف مرتبطة بالهم النهضوي والوحدوي الذي يحمله العميد على أكتافه،ربما أعطت ثقلًا كبيرًا لتأجيل ظهور العامية -التي مع هذا وحين انتشرت لم تقض على الفصحى- ولاستمرار أنماط السرد الحداثية في الرواية، وكذا موقفه من ضرورة تعبير الرواية عن الواقع، وهي التوليفة التي وجدها حاضرة في أول عمل يتعرض له نقديًا من أعمال نجيب محفوظ، أي «زقاق المدق» والذي رفعه حد المثال على اجتماع هذه العناصر المطلوبة للرواية من أجل تأدية وظائفها التحديثية.
ونحن نجد عند العميد ربما تعبيرات أكثر وضوحًا عن دور الرواية كفعالية تنويرية وعن علاقة هذا بأنماط السرد السابقة على الرواية، سواء تلك التي تخصص فيها العميد أو تلك التي رنا إليها واهتم لها لنفس الأهداف التنويرية، مثل الإبداع اليوناني في القصة والمسرحية والملحمة. حيث اعتبر العميد أن الانتقال من الشعر وغنائياته وذاتيته إلي الرواية والمسرحية، هو انتقال من الكهانة والنبوة إلي الفلسفة، وانتقال من النظام الأوتوقراطي إلي النظام الجمهوري الديموقراطي».
إذن نحن لسنا أمام عصر انحطاط أصاب الأنماط السردية يُراد التحرر منه عبر أنماط سردية جديدة وعبر تجديد الأسلوب، كما الأمر عند حقي، بل أمام مقابلة بين عصرين فكريين تتوازى فيهما صورة العالم المُؤسِّسة للنظام الاجتماعي مع نمط السرد المستخدم في التعبير عن الوجدان. فمن جهة نجد: عصر غيبي\ تفسيرات غيبية\ سرد شعري وملحمي، في مقابل: عصر علمي\ تفسيرات علمية وفلسفية\ سرد قصصي وروائي ومسرحي.
والرواية، مكتوبة ومترجمة ومشروحة -وهي أمور قام بها كلها العميد- لم تكن مفعول هذا الانتقال، بل كانت وسيلة هذا الانتقال بين العصرين، عبر الاتجاهين الذين رصدناهما عند حقي؛ عبر تطور أسلوبها وتحرره من سمات السرد القديم الموروث المتسربة للرواية من جهة، وعبر توسعة رقعة الأشخاص والأماكن المعبر عنهم فيها من جهة أخرى.
إذا انتقلنا إلي الاسم الثالث الذي نظن أن له أهمية كبيرة في بلورة وظائف الرواية العربية، أي محمد حسين هيكل صاحب أول رواية عربية»وفقا لأغلب الترسيمات لتاريخ الرواية»، فسنجده يقيم تقريبًا نفس الروابط بين رؤية ما للعالم وبين نمط السرد ونمط التعامل مع اللغة، كما نجد عنده نفس التشديد على ضرورة التخلص من التفاف الأديب حول اللغة كسمة عريقة في شعر عصر الانحطاط، كما أننا نجد العلاقة نفسها بين إصلاح العقل وإصلاح الوجدان، حتى يتجلى فيما يمكن اعتباره إلحاحًا من هيكل على وظيفة الرواية- القصة في «تربية الوجدان».
ففي كتابه «ثورة الأدب» يشير هيكل إلي كون الأدب القديم في كل الأمم سواء العربية أو الغربية كان يهتم للغة، التي هي كساء الفن فيما يرى هيكل، اهتمامًا يجعلها أحيانًا في المقام الأول بين كل عناصر العمل الفني، حيث يبالغ الفن في تزيين هذا الكساء، تمامًا كما كان يبالغ في زينة ملابس الشخصيات في المسرحيات القديمة، أو كما يبالغ الشعراء في اعتماد البديع والسجع. لكن الأدب الحديث وفقًا لهيكل قد اختار من الكساء ما يكون أكثر شفافية في التعبير عن المعاني والصور التي يُعبِّر عنها، معوانًا على زيادة ما في هذه الصور والمعاني من حياة وموسيقى. لذا فعلى الأدباءألا يركنوا في كتاباتهم لسلطة اللغة القديمة وما التف بها من صنعة زائفة، وإنما عليهم صقلها وتحريرها من زينتها التي تُخفي الحياة حتى تتحول للغة مضيئة سيالة لا تحجب عنك جمالًا مما أراد الأديب إظهاره.
كذلك يركز هيكل بصورة كبيرة على كون الرواية قادرة على تربية الوجدان الذي هو أحد أساسات إصلاح العقل والفن، فيرى أن التعليمين سواء المدني أو الديني يهملون بصورة كبيرة تربية الوجدان والعاطفة، والذي لا سبيل لتربيتها إلا عبر الاتصال الحر بالحياة، وهو وإن كان وسيلة لنصاعة الفن إلا أنه أيضا منتوج الفن الناصع «الذي يصور الحياة تصوير صادقا تمليه العاطفة ويحلله العلم» .
كذلك يربط هيكل بين أنماط السرد وأسلوب التعاطي مع اللغة من جهة وبين الرؤى الفكرية المراد تَمثُّلها من جهة أخرى. فالدعوة المعاصرة لأسلوب جديد، حدثت وفقًا له بعدما هزت الشرق ثورات سياسية واجتماعية متأثرة بالثورة الفرنسية وبما أصاب أوروبا من هزات عنيفة، واحتاج دعاتها لأسلوب جديد قادر على تَمثُّل مباديء الإخاء والمساوة والديموقراطية وعلى تحريك الجماهير لقبولها، بصورة لا يقدر عليها أسلوب ابن المقفع ولا لغة ابن قتيبة ولا صناعة المبرد.
إذن فنحن نجد عند هؤلاء الثلاثة من رواد الرواية وكاتبيها تشديدًا واضحًا على عدد من العلاقات بين رؤى العالم ونمط السرد:إصلاح العقل وإصلاح الوجدان، الالتفاف حول اللغة والقوالب الجاهزة والجمود من جهة، في مقابل شفافية اللغة ووضوحها و»علميتها» وتَمثُّل مباديء العقلانية الحديثةمن جهة أخرى، كما نجد لديهم تأكيدًا على دور الرواية في إحداث هذا الانتقال من عصر إلي عصر عبر جملة من الوصايا والتحديدات لأفضل أشكال الرواية وأفضل الأساليب ولطبيعة اللغة المستخدمة ورقعة المجتمع المُعبَّر عنه يجعل الرواية بحق «فعالية تنويرية».
إذا انتقلنا الآن لعبد الرزاق العيد،الذي نستعير منه هنا وطوال هذا المقال تعبيره عن « الرواية العربية كفعالية تنويرية»، فسنجد أنه، وبكل براعة في ظننا، يضيف بعدًا آخر لتلك العلاقة بين الرواية والتنوير، وتعديل رؤية العالم عبر تغيير أنماط السرد، وتنازع السرد الروائي نفسه بين نظرة تُؤسِّس نفسها في التراث الفقهي (أحد تراثات الجمود المُتسرِبة للرواية لو استعرنا منظور حقي)وأخرى تحاول التمرد عليها وعلى «إله الفقهاء الفضولي»، وهذا عبر المقابلة بين «البلاغة الشعرية» من جهة و»البناء الروائي» من جهة أخرى، من حيث قدرة كل منهماعلى التعبير عن موضوعية الواقع وسببيته الخاصة وعن كسر أحادية الصوت وامتلاك الحقيقة. حيث يُمثِّل البناء الروائي -بالأساس عند باختين الذي يستثمر العيد رؤيته للرواية- محفل سردي لتعدد الأصوات وتساويها، في مقابل مونوفينة الشعر، وفي مقابل إملائية ووعظية للنزعة البلاغية، وما تبطنه من «خضوع الملموس للماورائي، ونزع للمفعالية والمفعولية من سياقها السببي، وإمتلاك الحقيقة الواحدة.»
يُوظِّف العيد هذا التقابل بين «البلاغة الشعرية» و» البناء الروائي»في سبيل تبين مواجهة الرواية العربية أثناء مسيرتها لحقيقتها الروائية «من خلال علاقات الحضور والتلاشي لأنا كاتبها». حيث يرى أن الرواية العربية لم تستطع كثيرًا أن نتنقل هذا الانتقال من الواحدية إلي التعددية إلا في حالات قليلة ربما يكون أفضلها حالة الرواية المحفوظية التي يعتبرها العيد مُحدِّدًا في تاريخ الرواية. فالرواية العربية وفقًا له لازالت تسجل حضور الأنا، أنا الكاتب كحضور أعظم، فتشتبه الرواية بالسيرة، حيث «علاقات الحضور الروائية كمشبه تضمحل لصالح المشبه به... وحيث حضور أنا المؤلف يُهمِّش بل ويلغي حضور العناصر الركنية للبناء الروائي، ويأتي في مقدمة المهمشين الشخصية الروائية، ويكون مُؤدَّى ذلك انبعاث النص اللغوي مُلفَّعًا ببطانة وجدانية»، وهو ما يعيد الرواية إلي ما انتقده حقي وهيكل والعميد أي التفاف العمل الأدبي حول اللغة\ الكساء، «إذ يستند إلي المخزون الجمالي اللغوي العربي الذي كرست قيمه الجمالية سلطة اللغة التي تأبدت قدسيتها بعد أن غدت لغة الدين والشريعة، ولغة السلطة المركزية الموحدة للأمة»
فأنماط حضور الأنا في الرواية العربية وفقًا للعيد تحوِّل الرواية لمنبر لخطب الكاتب «المُمسرَحَة ذهنيًا وأيدولوجيًا وإرادويًا لتحتل كل الحيزات الروائية والتواصيلة كإله الفقهاء الفضولي الذي يُمسِك الناس من تلابيبهم في بيت الخلاء».
وكما قلنا فإن مثال خلق عالم روائي موضوعي عند العيد هو نجيب محفوظ، حيث تطورت الرواية معه
من الرواي العليم إلي الرواية متعددة الأصواتالتي يصبح فيها صوت المؤلف هو أحد الأصوات فحسب داخل الرواية مما يجعلها التعبير الأمثل عن هذا الانتقال من مونوفيونية الشعر لتعددية الرواية، من الإله الفضولي للإله المُحدَّد في مواجهة القوانين الداخلية لمتن النص\ العالم\ الإنسان.
إذا كانت هذه هي نظرة كاتبي الرواية ونقادها ومنظريها للرواية ولوظيفتها ودورها في إحداث التنوير والإصلاح العقلي والوجداني، وتكريس عالم جديد عقليًا ووجدانيًا بل ومؤسساتيًا، فلماذا إذن لم يتم سرد النبوة روائيًا؟ لماذا تم استثناء النبوة من عملية «العقلنة» التي نيطت الرواية بالذات بإحداثها؟
صعود التوفيقية الرومانسية
حين ننظر لأسماء أصحاب الكتابات الشهيرة عن النبي، مثل العقاد وطه حسين وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد حسين هيكل، فإننا وكما نجد أنفسنا أمام أسماء رواد الرواية العربية وأبرز أعلامها، فنحن كذلك نجد أنفسنا أمام رواد»التوفيقية الرومانسية» وفقا لاصطلاحات محمد جابر الأنصاري، وهي مرحلة من مراحل محاولة «تجاوز الأضداد» في الفكر العربي، وتأجيل الحسم في صراع الإسلام والغرب، عبر التوفيق بين الإسلام والحداثة.
وقد تجلتهذه التوفيقيةفي إحدى صورها في محاولة استعادة «الشخصيات الإسلامية الكبرى»، ومنهم النبي، في رسم صورة البطل القومي أو التاريخي، وهي الصورةالتي تصاعدت مع بروز وصعود «الرومانسية» التي كانت أحد النظريات في مركب القومية العربيةفي التجربة الناصرية.
فوفقًا للأنصاري فإن «أبواب الإسلاميات التي استجدت في فن الكتابة العربية منذ الثلاثينيات، واتخذت شكل مختلف الأجناس الأدبية، من مقالة وقصة وسيرة وسرد تاريخي، كانت التعبير الثقافي الأوسع عن تلك الحركة الرومانسية، وإذا كان الشعر قد مثل التعبير المباشر والأشد وضوحًا عنها، فإنه لم يكن التعبير الوحيد أو الأكثر أهمية ودلالة بالضرورة».
ويُمثِّل لهذا بانتقال هيكل من أجواء رواية زينب إلي سيرة النبي محمد حيث تسري رومانسيته الخالصة، وانتقال العقاد من الرومانسية النقدية لمدرسة الديوان، إلي تاريخ العبقريات الإسلامية التي تقارب بالروح الرومانسية- المثالية ذاتها.
هذا التوفيق الذي يرصده الأنصاري تجلى كذلك في انعطافة هامة في خطاب العميد-ذي الأهمية الخاصة بالطبع- حيثحاول التوفيق بين منتجات الحضارة الغربية المنهجية من جهة وبين التراث الإسلامي من جهة أخرى، أو بتعبير آخر بين العلم الذي يُشِّكل أساس ومدار المعاصرة، والدين الذي يُشكِّل أساس الشخصية العربية والمصرية. بهذا نجد أن طه حسين الذي كان أول من شكَّك في تاريخية المدونات التقليدية، بل حتى في المصداقية التاريخية للنص المُؤسِّس ذاته»القرآن» في مرحلة كان ينتهج فيها مناهج التاريخ الوضعاني في كتابه «الشعر الجاهلي»، أي في مرحلة كان نمط العلاقة بين الإسلام والحداثة المُستَقِر في خطابه هو استخدام الحداثة كأداة منهجية مُشغَّلة لدرس الإسلام وفقًا لتعبيرات نصر أبو زيد، يبدو وكأنه قد قرر صيانة الدين،وتحديدًا النبوة،من مساحة الدرس العلمي والنقد التاريخي، كما يبدو من مقدمة كتابه «على هامش السيرة»، ليتجاور العلم بهذا مع الدين في صيفة توفيقية سكونية ذات صبغة عقلانية.
هذه المرحلة الهامة من تاريخ الفكر العربي المعاصر،والتي شهدت هذا الترتيب للعلاقة بين الدين والعقل بحيث يُصان الدين عن أن يُدرَس أو أن تُشغَّل عليه المنهجيات العلمية والعقلية الحديثة، ليجاوِر العلم، أو ليُقارَب بغلالة رومانسية، شكَّلت في ظننا ما يمكن تسميته استعارة من «بيار زيما» بـ»الوضعية الألسنية الاجتماعية»كمقولة تربط السلسة الاجتماعية بالسلسة الأدبية، من حيث هي سياق اجتماعي جديد يطرح تعديلًا في أنماط السرد داخل «لهج اجتماعي ما»، والذي هو ذخر معجمي ودلالي يتيح لفريق اجتماعي ما تجسيد رؤاه في خطاب، وحيث هذه الوضعية هي التي تُحدِّد ما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي.
فقد تطلب سرد النبوة في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الفكر العربي أن يكون السرد بعيدًا عن أي استشكال عقلاني للنبوة، وهو الاستشكال الذي يمكن أن تطرحه الرواية بعد أن استوت في تيار صعودها كـ»نمط سردي له فعالية تنويرية»، فأصبح سرد النبوة إما رومانسيًا، أو عقلانيًا مُفسِحا مجالًا للإيمان وأحكامه بحيث لا يتم تناوله عقليًا. هذا هو نمط الكتابة الجديدة التي أراد نُقَّاد الرواية ومُنظِّروها، نتيجة وضعيتهم الجديدة كجزء من تيار توفيقي منغرِس في مهام قومية،أن يؤسِّسوا له.»فالكتَّاب لا يكتبون لأنفسهم وحدهم، أو تحقيقًا لرغبة فيهم فحسب، أو من أجل أن يكشفوا النقاب عن أمر مهم ليس إلا، وإنما يكتب الكتَّاب، كذلك، من أجل أن يُعرِّفوا القراء بكتابة جديدة وسط الحقل الأدبي، أو من أجل أن يرافِعوا لصالح قراءة خاصة يفضلونها على سائر أنماط القراءة.
وبالطبع فإن هذا التقرير لوضعية ألسنية جديدة متمظهرة في سرد جديد يعيد ترتيب أنماط السرد القائمة بالفعل، يتطلب الدخول في حواريات طويلة يكون هدفها إقصاء سرود وخطب معينة، وهو ما قام به بالفعل طه حسين في مقدمة «على هامش السيرة»، حيث يُوجِّه العميد كلامه ويُقدِّم مرافعته في مواجهة بعض من سيضيقون بالكتاب، وهم قوم «محُدَثون مُكبِرون للعقل». فهؤلاء وكما يعلم طه حسين جيدًا سيضيقون بالكتاب حيث «يجدون فيه من الأخبار والأحاديث ما لا يستسيغه العقل، وطائفة من الأخبار التي نصَّبوا أنفسهم لمحاربتها ومحاربة كلف الشعب بها». ويقيم العميد مرافعته على أساس كون هذه الأخبار والأحاديث «وإن لم يطمئن لها العقل ولم يرضها المنطق ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي. فإن لها في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلي السذاجة، واستراحتهم إليها من جهدالحياة وعنائها ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويُرغِّبهم فيها»؛ فهو يُقدِّمها «إلي العاطفة والشعور والقلب لا على أنها حقائق يُقرِّها العلم وتستقيم لها مناهج البحث».
ويبدو أن هذه الوضعية الاجتماعية اللسانية ظلت فاعلة في تشكيل الرواية العربية في علاقتها بالدينلفترة لاحقة، بل ربما زادت فعاليتها. حيث أننا لو استمرينا مع تحليلات الأنصاري، فإن هذا المُركَّب التوفيقي داخل الناصرية بين «قوة الانبعاث التراثي ونزعة التحديث العصري...بين الاتجاه المثالي والاتجاه الواقعي» قد تعرِّض لاختلال في «دولة العلم والإيمان» مع التجربة الساداتية التي همشت التيار التقدمي وحسمت الصراع لصالح القوى الأكثر محافظة ويمينية بصيغة توفيق عمومية تستعيد الصيغة التوفيقية البدائية فيما قبل تحدد ملامح الصراع بين الدين والعلم.
لكن رغم الرقابة التي مثَّلتها هذه «الوضعية اللسانية-الاجتماعية»، إلا أن هذا لم يمنع وجود بعض روايات ظهرت فيها النبوة، مُستلهَمة أو مُمثَّلة، وفي الحالتين ظهرت بشكل مُعقلَن يستعيد نص هيكل الشهير في استراتيجيات تقليص الغيب وتحييد اللحظات الانخطافية واقصاء الخوارق، والذي بدا ملائما للرواية المرتبطة بالعقلانية، في العموم أو في سياق صعودها العربي.
نذكر هنا بالتحديد ثلاث روايات لثروت أباظة «خشوع» و»غفران» و»طارق من السماء»، وكذلك «قرية ظالمة» لمحمد كامل حسين، ورواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وهي الأعمال التي جسدت بوضوح «عقلنة النبوة» في ظننا.
روايات أباظة الثلاثة أقرب لاستلهام القصص النبوي للأنبياء «موسى ومحمد ويوسف» في بناء الخط الدرامي للقصص الثلاثة التي تدور في بيئة معاصرة، وفي تعميق هذه الحكايات رمزيًا عبر كوننتهم باستلهام هذا القصص الديني، وهو استلهام يُصر كما قلنا على تحييد الخوارق واللحظات الاخطافية في النبوة.أما رواية «قرية ظالمة» فإنها تستلهم شخص المسيح وقصة الحكم عليه بالصلب داخل إطار أقرب لكتاب حواري منه لرواية؛ كتاب حواري يدور حول مواجهة الإنسان لضميره ما بين عقله وغرائزه، ويُمثِّل فيها يوم صلب المسيح تكثيفًا لهذا الموقف ولهذا الصراع، لذا فإننا لا نتوقع هنا سردًا لحياة المسيح إلا من منظور المحاورين المختلفين لهذه القضية بالذات، لذا فإننا حتى لو تجاوزنا قضية وضوح صوت المؤلف وغلبته على تعدد الأصوات والذي يحول الرواية لمونوفونية شعرية بلاغية ويفقدها مزية كونها محفل سردي لتعدد الأصوات، واعتبرناها كشفًا بديعًا عن موقف وجودي بتعابير كونديرا، فلن يكون هذا الموقف هو «النبوة» بالطبع.
أما رواية «أولاد حارتنا»، 1971لمحفوظ فقد استعادت قصص الأنبياء «آدم وموسى وعيسى ومحمد»، كما ترويها السير والمصادر المعروفة، ودون تصرف كبير إلا من جهة الموائمة بين هذا القصص والخط العام للرواية ولإشكالتها الرئيسة.ورواية محفوظ تحديدًا تُمثِّل في ظننا استعادة وتطوير لنمط التوفيق التركيبي ما قبل «التوفيقية الرومانسية»، حيث تبدو كتطوير ربماللمرحلة الأولى من خطاب الولى الأولى خطاب العميد في مرحلته الأولى. حيث أن نجيب قام هنا بسرد تمثيلي للسردية الدينية الإسلامية عن الكون، كجزء من مشروع أشمل أتمه في «حكاية بلا بداية ولا نهاية»، هو كشف الأساس التمثيلي\ اللا تاريخي للقصص الديني،في سبيل تمييز المركزي في الرؤية الدينية والثابت فيها عن المتغير، ومن أجل موقعة للعلم في السردية الدينية، ليكون نبيًا جديدًا يتم مسيرة أنبيائها كما وجدنا في حديثه عن فرويد ودارون وماركس في «حكاية بلا بداية ولا نهاية»، 1968. فثمة هنا توفيقية عدَّلت من السردية الدينية لا لتوافق العلم فحسب، بل لتستوعبه في صيغة منه موافقة لها. وربما هذا ما يجعل رواية محفوظ هي قمة «عقلنة النبوة»، والنموذج الأول والأخير لـ»عقلنة النبوة عبر الرواية كنمط سرد له فعالية تنويرية»، بل إن التوفيقية المحفوظية هذه -التي تحتاج لمساحة خاصة ربما لتناولها- برزت حتى على نمط السرد الروائي المحفوظي ذاته، حيث بدأ نجيب في أولاد جارتنا استعارة نموذج الملحمة ليمزجه بالرواية الحديثة بل فلنقل ليجعله يستوعب الرواية، للتعبير عن عقلانية تبغي التوازن والتركيب بين العلم والدين، الحديث والأصيل.
الوظيفة المعرفية للسرد
إن السرد روائيًا كان أو ملحميًا، حداثيًا كان أو تقليديًا، لم يُنظر إليه على اعتبار وظيفته الكشفية، بل فقط على اعتبار وظيفته الأيديولوجية أو قدرته على التعبير عن رؤية ما للعالم يراد تكريسها. فقد استُوعِبت الرواية العربية تمامًا في الوظيفة التنويرية المنوطة بها من قبل روادها ومنظريها، تمامًا كما استُوعِب التنوير في نظام جاهز من المقولات، وهذا أفقد الرواية القدرة على بيان الكثير من وظائفها.لهذا فحين تم سرد النبوة روائيًا في أعمال أباظة ومحفوظ، لم يتم سردها حقيقة، بل تم تعديل النبوة لتناسب الرواية المُؤطَّرة كفعالية تنويرية، دون السؤال عنهل للرواية كنمط سرد وظيفة معرفية استكشافية قد تفيد في استشكاف النبوة. وحين تمت استعادة المرويات التقليدية لتسكن نصًا معاصرًا حول السيرة كبديل عن الرواية، كما عند العميد،لم يتم السؤال كذلك حول القدرة الاستكشافية التي تحملها أنماط السرد في المدونة التقليدية والتي تُبرِّر استحضارها هذا كي تسرد النبوة.
إن هذا الاستعياب للرواية في وظيفة تنويرية كما أفقد الرواية القدرة على بيان الكثير من وظائفها، أفقد نقاد الرواية وكتابها القدرة على التنبه للأبعاد الكشفية للسرديات التقليدية. ونحن في هذا الجزء من المقال سنحاول إلقاء ضوء بسيط على هذه الوظائف، وخصوصا الوظيفة الكشفية للرواية، والتي كان تغييبها أحد الأسباب لعدم قدرة الرواية العربية على سرد النبوة.وكذلك سنحاول الإلماح للجانب الكشفي غير المهتم له في المدونات التقليدية والذي يجعلها قابلة دومًا للاستلهام في بناء نص معاصر حول النبوة.
حين نستعيد الخلاف الذي أثاره تودوروف في مسـألة تعريف الأدب، بين تعريفه بنيويًا وتعريفه وظيفيًا، ثم نطبقه تحديدًا على الرواية، فإننا نجد أن تعريف كونديرا يحتفظ بأفضلية كبيرة في هذا السياق. حيث يُعرِّف الروائي التشيكي الرواية بنيويًا ووظيفيًا في آن؛ يُعرِّفها كبناء خاص مُؤهَّل للقيام بوظيفة مُحدَّدة، هي «تمزيق الستار»، أو اكتشاف العالم خارج راحة النماذج والقوالب، ليس اكتشاف الواقع ما يقصد كونديرا، بل اكتشاف الموجود البشري، فالرواية عند كونديرا هي «فن سبر الكائن البشري»، فعلى خلاف الملحمة والشعر التي وفقا لكونديرا ترسم عالمًا مثاليًا غير واقعي يحجب العالم كستار، فالرواية لغة يومية غذائها هو حياة الإنسان، وظيفتها إنارة أبعاد الموجود البشري، فاكتشاف الجديد حول هذا الموجود وإنارة «تَعقُّد الكائن»وتَعقُّد مواقفه الوجودية هو أخلاقية الرواية وفقًا لكونديرا.
هذا المزج بين وظيفة الرواية الكشفية وبين كونها «رواية» يختلف عن التأطير الذي يتم للرواية في مهام عقلانية محضة، حيث تبدو الرواية هنا وكما يعتبرها كونديرا لا تمثيلًا للعقلانية بل تاريخًا لما تم نسيانه في صعود العقلانية الغربية بالذات، تأريخًا للكائن المنسي ومقاومة لهذا النسيان كما يستعير هو من هيدجر.
هذا التغييب للوظيفة الكشفية للرواية وقدرتها على كشف التعقد هو أحد الأسباب التي منعت الرواية العربية أن تسرد النبوة، حيث بدت غير قادرة على الكشف بعد أن انحصرت وظيفتها في العقلنة عبر التمثيل وكشف التمثيل، وحيث بدت النبوة في غير حاجة لأن تُكتشَف من جديد، أو أن تُضاء، أو أن يُكشَف تَعقُّدها، فلم يبق لها سوى أن تُعقلَن أو تُحيَّد أو تُنفَى لحيز الوجدان والأساس القومي للشخصية. وهذا أيضا ما أهدر إمكانية اكتشاف أبعاد كشفية في السرد القصصي السيريالمستعاد ذاته، وقصر وظيفة حضورهفي المتن المعاصر على إشباع العاطفة أو استلهام تراث قومي.
ودون أن نتوسع هنا بحديثنا حتى يتحول لمنافحة عن الوظيفة الكشفية للملحمة أو للشعر خلافًا ربما لرؤية كونديرا بما يخرج بنا عن مقصود مقالنا، فإننا على الأقل نستطيع التشديد على الطابع الكشفي للأداة القصصية في السيرة النبوية التراثية، خصوصًا في كشف تَعقُّد لحظة تلقي الوحي -ككشف لتَعقُّد موقف وجودي- في قصتين رئيستين من قصص السيرة، «قصة الغرانيق» أو ما يُعرَف بالآيات الشيطانية، و»قصة برهان خديجة».
فما تقوله قصة الغرانيق الشهيرة عن الوحي هو ببساطة أن طريق الوحي غير مأمون، فهي برسمها صورة اختراق شيطاني للوحي الإلهي المُتَنَزِّل على النبي، تستعيد هذا الالتباس بين الإله والشيطان، وهو الالتباس الذي كان حاضرًا في الواقع الجاهلي عشية البعثة النبوية نتيجة شيوع الكهانة والسحر المرتبطة بالشيطان إلي جوار التبنؤ المرتبط بالله. هذا الالتباس هو الذي جعل القرشيين يُسمَّون النبي كاهنًا وساحرًا، أي أن ما يسمعه كلامًا شيطانيًا لا وحيًا، وما يُحدِثه سحرًا شيطانيًا لا معجزة إلهية. قام الإسلام بنفي هذا الاختلاط، عبر «أرشفة الشيطان» ورجمه ومنع التسمع وتقليص تصرف الشيطان في الكون والتأكيد على قوة وأمانة جبريل في السور المكية الأولى، وبذا تم رسم صورة الوحي الإسلامي كبيان إلهي محصن ومأمون.
وإذا كان الوحي ومن سوره الأولى أكَّد على غياب هذا الالتباس بالنسبة للنبي محمد، حيث أنه أكد على قوة جبريل وعلى تقليص حدود الجان وعلى نفي التسمع، إلا أن نص السيرة ربما تنبه لكون هذه الطمأنة الإلهية لا تنفي القلق الذي ينتاب النبي تجاه ما يسمع ويعاين، على الأقل في بدايات تلقيه الوحي. نستطيع أن نجد هذا القلق والحيرة في ماهية من يُلقي وحيه «الملاك أم الشيطان» مُمسرَحًا في الرواية الشهيرة الواردة في سيرة ابن هشام والمعروفة بـ»برهان خديجة»، والتي قامت فيها خديجة بحسر رأسها وإلقاء خمارها كي تختبر ماهية المتجلي للنبي هل هو ملاك أم شيطان.
لا يعنينا مدى صحة هاتين القصتين، وهل يصدقان بحذافيرهما أم لا، فحتى لو كانتا بأكملهما تخييلًا، فهو ليس تخييلًا مجانيًا بل تخييلًا يُمسرِح هذا الشعور الذي يعانيه النبي وهذا الالتباس الذي يطال كل تجربة في مواجهة الآخر تمامًا، أي أنه تخييل يكشف «تَعقُّد الكائن»، يكشف «أن الأشياء أكثر تعقيدًا مما نظن» لو استخدمنا تعبيرات كونديرا.
إننا إذن أمام استخدام كشفي للقص، يستخدم السرد لا كمواجهة للتأريخ، بل كوسيلة لكشف تاريخ يحدث في الحدود بين الواقع وما وراءه، تاريخ حدث يُمثِّل أحد الحدود القصوى للإنسان، أي «النبوة»، وربما هذا الاستخدام للقص كوسيلة للكشف هو وحده ما يُبرِّر لنا نحن المحدثين استلهام السير في كتابة معاصرة حول النبوة، لا استلهامها لدغدغة عاطفة تريد الراحة، كذا فربما تلك الإمكانات الكشفية للرواية هي ما تُبرِّر لنا استخدامها كأحد وسائل سرد النبوة، لا تهميشها أو تحويلها لوسيلة للعقلنة غير القادرة على كشف معقولية النبوة الخاصة.
تاريخ الرواية\ تاريخ التنوير
يستطيع تتبع تاريخ الرواية العربية أن يوضح لنا وبشكل كبير مسيرة التنوير العربي، بحيث تكون الرواية نافذة لاستشكاف مركب إشكالات هذا «التنوير» وعلاقاته وحدوده، ليس فقط لكون الرواية قد استوت في صعودهاكـ»فعالية تنويرية»، أو لكون روادها هم أنفسهم رواد الحداثة وصائغي حلول معادلة النهوض، ولا كذلك لكون صراعات التحديث وإشكالاته هي جزء رئيس في عدد كبير من روايات هؤلاء، بل كذلك لكون التعامل مع الرواية في علاقتها بالنبوة كأحد مرتكزات الدين الرئيسة يكشف لنا أحد صور تعامل التحديث العربي مع الدين، وهو التعامل الذي لا يميل في ظننا لفهم الدين أو كشف معقوليته هو الخاصة وإنما فحسب عقلنته، أو نفيه، أو ربما «تأجيل الحسم» تجاهه.
إن كتابة سيرة النبي كتبًا كما كانت نتاجًا لسياق فكري جديد يحاول ترتيب العلاقة بين الدين والعقل على طريقة المجاورة أو المقاربة الرومانسية بديلًا عن المقاربة العقلانية الوضعانية وكأنه لا توجد خيارات أخرى، فإن كتابة روائية استكشافية عن النبوة أو استلهامًا لاستكشافية البعد القصصي لنص السيرة لن تكون إلا في سياق ترتيب جديد تمامًا لهذه العلاقات، يخرج بها من هذه الثنائيات، فيجعل العقل ذاته أكثر اتساعًا من جدالات الوضعانية\ الرومانسية، والدين ذاته ميدانًا لاشتغال العقل عبر مقاربات منهجية أكثر ملائمة لتناول تركيبه وتعقده الذي يحيل إلي تَعقُّد الكائن.
نشر في:
غسان كنفاني:
New Left Review, I/67, May-June 1971
سعد زغلول:
نشر في: The Translator, (Volume 15, Number 1, 2009), 139-56
إسرائيل:
New Left Review I/65, January-February 1971