فنون

باسم عبد الحليم

السينما المصرية والإساءة لسمعة البلاد

2025.01.12

تصوير آخرون

تعليقات أولية على جذور الاتهام

 

عادةً ما تتفق أغلب التأريخات السائدة للسينما المصرية على فيلم "العزيمة" (1939) للمخرج كمال سليم، كأول فيلم "واقعي" مصري. تدور أحداث الفيلم في حارة شعبية تم بناؤها داخل الإستوديو، غير أن ريادة الفيلم تتجاوز مجرد اختيار "الحارة" موقعًا للدراما، إذ لم يكن السبق في تصويرها إياه تحديدًا. تفسر الكاتبة والناقدة مي التلمساني تلك المكانة التاريخية التي يحظى بها "العزيمة"، بأنه قد مـثَّــل "أول وعي سينمائي بالحي الشعبي بوصفه المكان الأصل الذي تتجلى فيه الشخصية المصرية".[1] عانى "العزيمة" منذ أن كان فكرة عند كمال سليم من أجل الحصول على تمويل، إذ كان غريبًا عمَّا اعتاده الإنتاج السينمائي السائد آنذاك، حتى استطاع سليم إقناع طلعت حرب بأن تتولى شركة ستوديو مصر إنتاج الفيلم. رغم ذلك، استمرت الصعوبات في ملاحقة المشروع.

يروي بديع خيري الشاعر والمؤلف وكاتب حوار الفيلم،[2] أن بعد بدء التصوير بأسابيع قليلة، أصدر طلعت حرب قرارًا بإيقاف التصوير والعدول عن استكماله. ولعلاقته القريبة بحرب، تَدخَّل خيري مستفهمًا عن الأسباب، فأجابه حرب بأن معلومات قد وصلته بأن الفيلم "مستواه بلدي ولا يليق بسمعة مصر، مطلَّعين فيه شخصيات جزار وحانوتي"، ثم أضاف: "إزاي نواجه الأمريكان بفيلم زي ده؟ [..] إنت فاهم يا بديع خطورة الموضوع. ستوديو مصر ستوديو للإنتاج النموذجي الرفيع من يوم ما أنشئ". يكمل خيري بأنه ساق لحرب، ردًّا على تخوفاته، بأن المطلوب من ستوديو مصر أن يخالف الإنتاج الأمريكي، وأن في استطاعتهم التميُّـز باللون الشرقي الصميم الذي يعجز الإنتاج الأجنبي عن تصوير بيئته ويُظهِره بمظهر ظالم وغير مشرف، كما أن ستوديو مصر ينتج في السنة عدة أفلام، ولن تكون مشكلة لو فشل فيلم منها. لحسن الحظ، نجحت جهود بديع خيري عند طلعت حرب، واستطاع كمال سليم إكمال تحفته السينمائية الفارقة.

***

تعكس المخاوف من الواقعية ميلًا ساد لدى نخبة السينما المصرية منذ بدايتها التأسيسية، إلى تجميل الواقع ورفعه بصريًّا إلى مستويات نقيَّة من الجمال الشكلي، ربما تأثرًا بالنموذج الغربي في السينما. يتصادم هذا الميل إلى رَمْنسة الواقع مع ما يمكن تسميته "مشكلة المكان السينمائي": كيف يُقدَّم "المكان" على الشاشة، وبأي وجهة نظر؟! كان هذا السؤال جوهريًّا في تكوين المخيلة السينمائية المصرية، وستشكل المحاولات المتتابعة للإجابة عليه من قِبل صُنَّاع السينما، تحولات تلك السينما وتطوراتها، وصراعاتها الأيديولوجية والفنية، حقبةً بعد حقبة.

في عام 1936، نشر المخرج والرائد السينمائي أحمد بدرخان كتابًا نظريًّا إرشاديًّا أسماه "السينما"، بهدف "إعطاء فكرة صحيحة عن السينما لكل من يهمه أمرها في مصر والشرق العربي".[3] يُهدي بدرخان كتابه، كما هو متوقع، إلى "حضرة صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا، اعترافًا بفضله على السينما في مصر". ولكتاب بدرخان قيمة تاريخية كبيرة، حتى أن الناقد سمير فريد اعتبره -في مقدمة كتبها لطبعة حديثة أصدرها منه- أحد أهم النصوص الأولى المبكرة التي تندرج تحت مُسَمّى "التفكير في السينما"، أو ما يمكن أن يُطلَق عليه "أدبيات السينما في مصر".

تتردد في مقدمة بدرخان لكتابه أصداء مُقارِبة لِما قاله بديع خيري في حديثه مع طلعت حرب. يكتب بدرخان: "الفيلم المصري لن تقوم له قائمةٌ إلا إذا عَـبَّـر عن الروح المصرية الصميمة التي تختلف اختلافًا بينًا عن الروح الأمريكية أو الفرنسية أو الألمانية، أعني الأجنبية بوجه الإطلاق. [..] وقد لوحظ أن الأجانب الذين يُعهَد إليهم بإخراج أفلام مصرية يشوهون هذه الأفلام، فتظهر معدومة من الصبغة المحلية لا لون لها ولا جنسية". لم تكن تخوفات خيري وبدرخان المتقاربة مُتوَهَّمة، أو مجرد بارانويا وطنية بلا جذر في أرض الواقع. فالاستحواذ الأجنبي على دور السينماتوغراف في بدايات انتشارها داخل مصر كان كبيرًا. وقد تواترت منذ حقبة العشرينيات اعتراضات واستهجانات متكررة من جمهور المتفرجين والصحافة وغيرهم، أثارتها عروض أفلام تقدم تصورات كولونيالية مُتخيَّلة عن البيئة المصرية، لا تزال الوثائق القليلة المتاحة تحتفظ لنا ببعض عناوينها، مثل: "قصة حب في القاهرة" و"الجمال قادر" و"مأساة كروسكو" و"شاندو الساحر".

وقد ازدادت المطالبات بسينما مصرية وطنية يصنعها مصريون. وحين بدأت تلك المحاولات، قوبلت بترحيب كبير، تجلى حتى في صياغة دور السينماتوغراف لإعلانات عروضها من الأفلام. لنقرأ على سبيل المثال، دعاية سينما أولمبيا بالإسكندرية للفيلم المصري "تحت ضوء القمر": "أيها السكندري، كم دفعت لمشاهدة أفلام تنطق بلغة غير لغتك ولغة وطنك؟ كم صرفت لترى مناظر غير مناظر القطر المحبوب، اليوم تدفع القليل لأيدٍ مصرية لترى فيلمًا مثَّله مصريون يتكلم لغة الوطن المحبوب. اذهب وشاهد هذا الفيلم الناطق قبل الغد ففيه أحسن تصوير للحياة المصرية".[4] لم تتأخر مصر عن العالم كثيرًا في معرفة اختراع السينما. إذ كان أول عرض لشريط مُصَوَّر بالإسكندرية في 15 نوفمبر 1896، بعد أقل من عام واحد على أول عرض للأخوين لوميير بباريس في 28 ديسمبر 1895. ويمثل فيلم "تحت ضوء القمر" نموذجًا من تلك الحقبة، على المواكبة المحلية السريعة للتطورات التقنية السينمائية في العالم. فقد كان "تحت ضوء القمر" فيلمًا صامتًا تم إنتاجه وعرضه أولًا عام 1930، ثم أُعيِد طرحه مجددًا في دور السينما كفيلم ناطق، بعد إضفاء الصوت إليه، عام 1932.

لا يشرح بدرخان في مقدمته المقصود من تعبير "الروح المصرية الصميمة" بدقة، ولقد كان على الأرجح مفهومًا ما زال في طور التشكُّل آنذاك. المثير أن ما يسوقه بدرخان في المقدمة باعتباره هدفًا من أهداف كتابه، يبدو متناقضًا مع المنهجية التي سيعتمدها في الفصول التالية، لاستخلاص قواعده الإرشادية لصناعة الأفلام.

يتألف كتاب "السينما" من 24 فصلًا قصيـرًا تتناول بالشرح والتعريف أغلب نواحي صناعة الفيلم، بدءًا من ماهية السينما ولغتها، السيناريو وأنواعه وكيفية كتابته واقتباسه من القصص والمسرحيات، التمثيل السينمائي ومتطلباته وطرق التعبير فيه، الإخراج السينمائي والحيل السينمائية، ثم الأطوار التي يمر بها الفيلم بعد إخراجه، والنقد السينمائي، حتى نظام الإستوديوهات والآلات المستخدمة فيها. وبالطبع، فصل خاص عن "ستوديو مصر"، بأبنيته وأقسامه المختلفة. أو بعبارة إجمالية، كل مراحل صناعة الفيلم السينمائي في ترتيبها وتدرُّجها. وفي كل موضع من الكتاب تقريبًا، كان يبدأ بدرخان استخلاص قاعدته الإرشادية، بالتمثيل بما يحدث في سينمات "الأجانب" وأفلامهم، ففي هذا الفيلم "الأمريكي" حدث كذا، ومديرو الإستوديوهات الأجنبية والأمريكية يفعلون كذا، أو يختارون سيناريوهات أفلامهم بناءً على كذا، ثم يخلص من مثاله بالنتيجة أو القاعدة التي يعرضها للقارئ. إن الطموح الذي تُصدِّره المقدمة بخصوص "الروح المصرية الصميمة"، يتداعى في الكتاب نفسه إلى الاقتداء بما يفعله "الأجانب". يتماس هذا التناقض مع سمة محورية من سمات تجربة الحداثة في مصر، أشار إليها عالم الاجتماع الدكتور أحمد زايد، وهي أن بسبب الاستعمار "دخل المجتمع في علاقة بالمجتمع الغربي، فأصبحت الحداثة الغربية هي الجذر الحداثي الذي تُشتَق منه كل التجارب، أو تحاوره كل التجارب".[5]

بالعودة إلى ما سبق، فقد كانت إحدى المسائل الرئيسية التي شغلت بدرخان في كتابه الإرشادي، هي مسألة المكان السينمائي. في فصل "السيناريو"، وتحت العنوان الجانبي "اختيار المكان"، يكتب بدرخان: "لوحظ أن القصة السينمائية (السيناريو) التي تدور في أوساط بسيطة كأوساط العمال والفلاحين يكون نجاحها محدودًا. لأن السينما -قبل كل شيء- مبنية على المناظر. وأن الطبقة المتوسطة من الشعب، وهي السواد الأعظم من رواد السينما، لا تحب أن ترى العالم الذي تعيش فيه، بل على العكس تطمح إلى رؤية الأوساط التي تجهلها وتقرأ عنها في الروايات"، ولذا فهو يخلص إلى أن الفيلم يجب أن تتخلله "مناظر فخمة وأماكن شائقة طريفة". ثم يُعدِّد الأماكن التي يراها لائقة بأن تظهر في الشريط السينمائي، وهي: "المسرح، الموزيك هول (قاعات الموسيقى)، إدارة جريدة، فندق كبير، البورصة، المصيف، سباق الخيل، مخازن الأزياء، النوادي الرياضية، نوادي القمار، الأوساط الصناعية، معسكرات الجيش، المرافئ، الصحراء، البواخر.. إلخ".[6] يُلاحَظ أن معظم الأماكن التي اعتبـرها بدرخان لائقة بالظهور السينمائي، تنتمي، على نحوٍ أو آخر، إلى نطاقات مدينية أو شبه مدينية، وأنها تستبعد، بصورة لا واعية، ربما، الريف بأماكنه المختلفة.

تشير الباحثة والدكتورة سلمى مبارك،[7] إلى أن المدينة كانت هي المكان "الذي أسست فيه السينما المصرية هويتها المبكرة، عندما صور محمد بيومي أول فيلم مصري في 1923 فوضع كاميرته في ميدان الأوبرا ليسجل حركة الشارع وتحية الجموع لموكب سعد زغلول العائد من المنفى". تضيف مبارك أن صورة الريف السينمائية في ظهورها الأول "قد خرجت من رحم الأدب، حين اقتبس محمد كريم رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل وحوَّلها إلى فيلم صامت، تدور أحداثه بالكامل في الريف".

يمثل "زينب" حالةً ذات خصوصية في تاريخ الأدب والسينما على السواء. صنع المخرج محمد كريم فيلمين لا فيلمًا واحدًا، كانا نتاج شراكة فنية بين اثنين من أبناء النخبة المصرية ممن تلقوا تعليمهم في أوروبا: محمد حسين هيكل بدراسته للقانون في باريس، ومحمد كريم بتعلُّمه لفن السينما في ألمانيا. وكما كتب هيكل قصته في أثناء فترة وجوده بباريس وزياراته المتقطعة لسويسرا، قرأها كريم للمرة الأولى ووُلدَت لديه الرغبة لإخراجها للسينما في أثناء وجوده بألمانيا. فيلمان لنفس المخرج، مقتبسان عن نفس الرواية. الفيلم الأول صامت [مفقود الآن] صُنِع عام 1930، ليحتل رقم 9 في الترتيب الزمني لفيلموجرافيا السينما المصرية، وهو أول فيلم مقتبس عن قصة أدبية، وقد أنتجته شركة رمسيس فيلم التي أسسها يوسف وهبي، كما كان أول فيلم "يتم تصويره وطبعه بماكينات ستوديو مصر". والفيلم الثاني ناطق، أعاد فيه كريم اقتباس الرواية نفسها عام 1951. في الطبعة الأولى للرواية، لم يكتب هيكل اسمه كمؤلف على الرواية، بل اكتفى بكتابة "مصري فلاح"، خوفًا مما قد تجنيه صفة الكاتب القصصي على اسم المحامي. لاحقًا، حين سيرى هيكل الاهتمام والعناية الكبيرة التي أولاها كريم لإخراج عمله الأدبي، سيقرر إصدار طبعة ثانية من روايته، معلنًا اسمه كمؤلف هذه المرة.

كتب هيكل روايته عام 1911، وصنع كريم فيلمه الصامت الأول بعدها بنحو 20 عامًا، ثم فصل بين الفيلمين (الصامت والناطق) ما يزيد قليلًا على 20 عامًا. مع ذلك، فإن التصور الجمالي لكريم في كليهما كان نفسه تقريبًا، وهو تصور لا يبتعد عن الموقف من الواقع والميل لإعادة صياغته. رغم فقدان الفيلم الصامت، يقدم لنا كريم صورة شبه كاملة عن الفيلم وكواليس تصويره والصعوبات التي قابلته في أثناء تنفيذه، ويفرد له فصلًا كاملًا من مذكراته.[8] يكتب كريم: "كان ينقصني كل شيء: لا يوجد ستوديو أبني فيه الديكورات اللازمة.. لا يوجد مدير إنتاج.. لا يوجد ريـچـيسير.. ولا ماكيير.. ولا ولا.. فكنت أقوم بكل هذه الأعمال". تُعلّق سلمى مبارك في دراستها: "قصة صناعة الفيلم بالإمكانيات المحدودة للسينما المصرية والخبرات القليلة للعاملين بها في هذا الوقت، كما يحكيها محمد كريم في مذكراته، تشهد بالفعل على أن مخاض البدايات كان أولًا وقبل أي شيء آخر مخاضًا لصناعة وطنية".

اختار كريم تصوير "زينب" الصامت في مكان مخالف لقرية "كفر غنام" المسرح الواقعي للقصة الأدبية، بسبب "خلو البلد من المناظر التي تصلح للسينما"، كما حرص على إظهار الفلاحين يلبسون "البُلَغ" في أقدامهم، لا حُفاة كما هم في الحقيقة. وتنامى لديه ذلك الميل إلى إعادة صياغة صورة الريف، حين أعاد إخراج الفيلم ناطقًا عام 1951، وهو الفيلم الذي تردد منتجه جبريل نحاس من ألا يطيب للمتفرج جو الريف المصري فيه، فطمأنه كريم بوعد منه أنه سيعرض الريف على الشاشة كما يجب أن يكون، لا كما هو عليه، وهو الوعد الذي نجح فيه تمامًا، معطيًا المساحة الأكبر للتصوير في ديكورات الإستوديو بديلًا من الحقول الحقيقية، إلى درجة دفعت هيكل إلى أن يمدح عمله قائلًا: "إننا نريد أن يكون عندنا في مصر ريف مثل هذا الريف الذي خلقته لنا في الفيلم". جدير بالذكر أن هيكل نفسه كان تعامله شبيهًا أثناء كتابته للرواية في الأصل، إذ يصرح في المقدمة التي كتبها للطبعة الثانية منها، أن زياراته لسويسرا، ومعاينته للمناظر الطبيعية الساحرة فيها، كانت هي مصدر إلهامه وهو يكتب.[9]

***

تبريرات طلعت حرب لقرار وقف "العزيمة"، ووصايا أحمد بدرخان في كتابه بشأن المكان اللائق سينمائيًّا، واشتغالات هيكل/كريم المتعالية بصريًّا على صورة الريف، تبدو كلها متسقةً مع مرحلة تاريخية كانت الهوية الوطنية فيها تفاوض حداثةً مأزومة في طور التشكُّل الحاد، بينما يطرح الواقع على الفنون بأنواعها تحديات التعبير عن وضع تاريخي صار أكثر زخمًا وتعقيدًا من رومانتيكية الفنان الفردية الطليقة، وضع جماعة وطنية تحدق إلى أزمتها الحضارية. أو بتعبير الناقد بيتر بروك: "إذا كانت الرومانتيكية قد مجدت الخيال، فإن الواقعية أعلت من شأن البصر". جاءت الواقعية أخيرًا إلى الفن السينمائي، وجاء معها الشعور المرتبك تجاه "الحقيقة" وصورها، تلك التي يتعارض إظهارها من وجهة نظر طلعت حرب مع الإنتاج النموذجي الرفيع، أمام الغرب.

يشير الباحثان روبرت ستام وإيلا شوحيط،[10] إلى معضلة قلما تم الانتباه لها عند دراسة بدايات ظهور السينما، ألا وهي تزامنها مع ذروة المشروع الإمبريالي. استعمل الغرب الاستعماري التقنية الوليدة (كاميرا السينما) في الاحتفاء بتوسعاته والتكريس لهيمنته الاستعمارية، وفي إنتاج وعرض فانتازياته المُتَخيَّلة عن الشعوب التي احتلها. جاب المصوِّرون بكاميراتهم الأراضي الشاسعة النائية للإمبراطورية، ملتقطين، بأعين أوروبية، المشاهد الكولونيالية الخلَّابة لمغامرات الفضاء المُحتَل. رغم ذلك، لا يقترح ستام/شوحيط أن الإمبريالية كانت محفورة في الجهاز أو في الشريط السينمائي، لكنهما يشيران إلى سياق القوة الإمبريالية الذي شَـكَّـل بدرجةٍ كبيرة الاستخدامات التي وُضِع في خدمتها الاختراع الجديد. تحفظات حرب في الاتجاه المقابل تجاه ما تصوَّره "إساءة لسمعة البلد"، قابلة للتفسير في ضوء مقاومة الاستعمار، فبالنسبة إليه، وإلى الخطاب العام آنذاك، كانت السينما معركة حاسمة تماثل في أهميتها معارك التحرر الوطني والاقتصاد المستقل. تكتب جريدة "الوادي"، في عددها الصادر بتاريخ 9 مارس 1931: "تُستخدم السينما كوسيلة للبروباجندة في كثير من الأمم الراقية المتمدنة، ويسرنا أن تحذو الحكومة المصرية حذو تلك الأمم فتهتم بإخراج الأشرطة الصالحة للدعاية عن مصر وما في مصر من مصنوعات وبضائع". وقبل اقتحامه مجال الأفلام الروائية، كانت تلك الغاية هي -وبوضوح- الهدف الأول لطلعت حرب. وكما يروي الناقد والمدير الفني السيد حسن جمعة، فإن معمل شركة مصر للتمثيل والسينما في بدايته كان يركز عمله بشكل أساسي "في تصوير الأفلام الإخبارية والتسجيلية التي كانت تصوِّر فيها مناظر مختلفة عن مصر وآثارها وصناعاتها".[11] يكتب الباحث السينمائي محمود علي: "لم يكن تواجد ستوديو مصر كقلعة من قلاع الصناعة إلا ثمرة من ثمار المد الوطني الذي بدأ يضخ في شرايين الأمة منذ ثورة 1919، لقد واكب إنشاء الإستوديو أحداثًا وتواريخ ساهمت في مولد هذه الصناعة، منها انعقاد أول مؤتمر للسينما (يناير 1936) الذي كان من قرارته تكوين لجنة لإنشاء دور عرض مصرية والاهتمام باللغة العربية على الشاشة وتخفيض ضريبة الملاهي لتشجيع صناعة السينما في مصر، ثم إلغاء معاهدة 1936 ومن بعدها الامتيازات الأجنبية (1937)، والتدرج في حركة تمصير الوظائف الحكومية ثم الشركات المساهمة منذ دستور 1923 حتى بلغت ذروتها بقانون 138 لسنة 1947".[12] إن تجربة ستوديو مصر لا يمكن فهمها بالكامل بمعزل عن الحراك الوطني آنذاك. سعى حرب إلى خلق نموذج وطني سينمائي مماثل، متبنيًا الصيغة التنويرية الأوروبية ذاتها، بينما كان سليم يطمح إلى ما يمكن وصفه بالحكي السينمائي المضاد.

إن الغرب/ الآخَر، الذي حضر متجسِّدًا في "أمريكان" طلعت حرب، وفي مقدمة كتاب بدرخان، مقرونًا بالإساءة إلى سمعة البلد أو تشويه صورتها، سيوالي الظهور كثيرًا بعد ذلك. ولن يكون "العزيمة" آخِر فيلم يتعرَّض لهذا المأزق، ويروي لنا التاريخ السينمائي المصري وقائع شبيهة مع أفلام أخرى، غالبًا ما كانت تشتعل، بدخول الغرب طرفًا في الموضوع.


1- "الحارة في السينما المصرية: 1939-2001"، مي التلمساني، ت: رانيا فتحي، المركز القومي للترجمة، القاهرة. ص 24.

2- "مذكرات بديع خيري: 1893-1966"، إعداد وتقديم: إبراهيم حلمي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة. ص 153-156.

3- "كتاب السينما"، أحمد بدرخان (1936)، طبعة حديثة صادرة عن "سلسلة المئويات" بتقديم الناقد سمير فريد، مكتبة الأسرة 2007، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة. ص 71.

4- جريدة "السياسة"، يوليو 1932، نقلًا عن كتاب "ثورة 1919 ونهضة السينما المصرية"، محمود علي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2019.

5- تناقضات الحداثة في مصر"، الدكتور أحمد زايد، طبعة مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006. ص 133.

6- "كتاب السينما"، أحمد بدرخان (1936). ص 78.

7- دراسة سلمى مبارك "اقتباس النوع في سردية الريف: "زينب" الرواية والفيلم الصامت"، كتاب "الاقتباس: من الأدب إلى السينما"، تأليف جماعي مشترك، دار المرايا، القاهرة، 2021. ص 67.

8- مذكرات محمد كريم: في تاريخ السينما المصرية"، سلسلة ملفات السينما، طبعة أكاديمية الفنون، القاهرة، 2006. ص 128 و136 و443.

9- "زينب"، محمد حسين هيكل، دار المعارف، القاهرة.

10- "المركزية الأوروبية بين المسلمات والتفكيك: التعددية الثقافية والإعلام"، إيلا شوحيط وروبرت ستام، ت: ربيع وهبه، منشورات الجمل، ألمانيا، 2019. ص 201.

11- "عاصرت السينما 20 عامًا"، السيد حسن جمعة، القاهرة، 1945. ص 27.

12- من فصل بعنوان "البنية الاقتصادية للسينما المصرية (1936-1952)"، كتاب "دراسات في تاريخ السينما المصرية"، محمود علي، سلسلة "آفاق السينما"، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012. ص 151.