فنون
سلمى مبارك"العوامة 70".. مدن وجرائم وكاميرات – الجزء الأول
2024.09.07
مصدر الصورة : ويكيبديا
"العوامة 70".. مدن وجرائم وكاميرات – الجزء الأول
عادت الحبكات البوليسية للظهور في سينما الثمانينيات، في إطار التجارب السينمائية الأولى لمجموعة من السينمائيين، ممن أُطلِق عليهم مخرجو الواقعية الجديدة: داود عبد السيد، رأفت الميهي، محمد خان، خيري بشارة، عاطف الطيب... إلخ. أعادت تلك التجارب صياغة الشكل الكلاسيكي الموروث من الخمسينيات لأفلام الجريمة المصرية، فقدمت فضاءات جديدة لتصوير مشاهد الجريمة والمطاردات، اتخذت موقعها داخل مشهد حضري متحول، رأينا من خلاله مدينة القاهرة بشكل مبتكر، ورأينا كذلك أبطالًا جددًا –وأحيانًا ما يكونون أبطالَ ضدٍّ– يجدون أنفسهم متورطين بالصدفة في قصص معقدة، يواجهون فيها بمفردهم جماعات الجريمة المنظمة. تتراءى في الخلفية التحولات الاجتماعية التي أنتجتها السياسات الاقتصادية الليبرالية التي هزت مصر في فترة حكم السادات، وما أدت إليه من تنامي الفساد الاجتماعي والمؤسسي، وهو الموضوع الذي تناوله الكثير من أفلام تلك المرحلة.
في هذا الإطار أتناول فيلمًا رائدًا من أفلام السينما المصرية الجديدة وهو: "العوامة 70" (1982) إخراج خيري بشارة، وسيناريو فايز غالي. يطرح الفيلم صياغة جديدة لفيلم الجريمة الكلاسيكي كما عرفته السينما المصرية؛ فمن خلال لغة سينمائية مستحدثة، وسرد متحرر من الأنماط التقليدية، يقدم الفيلم مشاهد القتل والمطاردات بوصفها جزءًا من مشهد حضري يصور قاهرة الثمانينيات. ومع توطين الجريمة في السردية السينمائية الحضرية، تتشكل مدينة ذات ملامح خاصة، نتعرف عليها من خلال علاماتها المميزة: مسرح الجريمة، ومسارات شخصية المخرج/ المحقق/ حامل الكاميرا، ورحلات البحث عن الحقيقة، حيث يشكل الوصول إلى الدليل المستتر في كثافة المدينة تحديًا للعين البشرية؛ لذا تتخذ الكاميرا -تلك العين الصناعية- موقعًا مهمًّا في هذه السردية، حيث تسمح بالتقاط التفاصيل، وباكتشاف المخفي بحثًا عن غير المعتاد الذي يستقر في الزوايا النائية، أو المدفون في حركة الشارع الصاخبة.
تدور الأحداث حول شخصية تعيش على أطراف المجتمع. هو مخرج أفلام تسجيلية يقع أثناء تصويره بالمصادفة على جريمة يتم التقاط صور لواحدة من حلقاتها؛ مما يقود البطل إلى عالم الجريمة المنظمة الذي يتوغل في أروقة المجتمع ومؤسسات الدولة، ويستهدف ثروة قومية تحمل رموزًا تتعلق بالتاريخ المصري: القطن المصري طويل التيلة. يتحول المخرج إلى محقق، وتقوم كاميرا الشخصية بأدوار عدة، فهي الشاهد، وأداة التحقيق، ومنها يُستخرَج دليل الإدانة.
يفرض وجود الكاميرا وشخصية المصور/ المخرج تحولات على النوع السينمائي، من خلال الحوار مع تراث السينما العالمية (سينما هتشكوك وأنتونيوني وتزيجا فرتوف على وجه الخصوص)، ومن خلال مزج الحبكة البوليسية بفيلم السيرة الذاتية.
ومن هنا أسعى للإجابة عن عدد من الأسئلة التي تتعلق بالسياق التاريخي الذي أنتج هذا الشكل الجديد، وعن خصوصية الرؤية الفنية لخيري بشارة ودورها في صياغة الجريمة على الشاشة؛ كذلك أناقش فضاءات المدينة التي تصبح مسرحًا للفعل الإجرامي، وشخصية البطل/ البطل الضد التي اختارت أن ترى العالم من خلال الكاميرا، فتقودها إلى لحظات الكشف: الكشف عن الجريمة، واكتشاف العالم والذات.
المدينة والكاميرا وفيلم الجريمة:
على مدار القرن التاسع عشر اجتاحت أوروبا حركةُ تمدين أدت إلى زيادة مقلقة في نسب الجريمة والعنف، وفي لندن وباريس، صاغ كل من توماس دي كوينسي وإدجار آلان بو، القصص المؤسسة لأدب الجريمة الحديث[1]. وعلى جانب آخر، ارتبط ميلاد الفن السابع بالمدينة، فصور السينماتوغراف أول ما صور حركتها الصاخبة؛ لذا يتفق عدة من الباحثين على أن العلاقة بين المدينة الحديثة والكاميرا اقترنت بحركة التدفق الكبيرة للمارة والسيارات التي تميز المشهد الحضري، مما يفوق قدرة العين البشرية على التقاطها، فجاء اختراع آلة الإبصار -ألا وهي كاميرا السينما- ملبيًا لاحتياج ظهر مع التطور الحديث.
في هذا السياق، ستكون نقطة انطلاقي لصياغة العلاقة بين المدينة والكاميرا من خلال صورتين مؤسستين لهذه العلاقة؛ تشترك كل منهما في تصوير وسيط بصري صناعي يسمح برؤية أفضل من تلك التي تسمح بها العين البشرية، وبمشاهدة ما لا يجب أن يظهر للعيان، أو ما يتوجب إخفاؤه.
الصورة الأولى: هي لتزيجا فيرتوف المخرج الروسي الشهير وهو يضبط كاميرته، ويصور نفسه ويصور المدينة الحديثة كما رأيناها في فيلم "الرجل ذو الكاميرا" (1929) الذي قدم فيه بطريقة مبتكرة جدًّا يومًا في حياة مدينة سوفييتية. أما الصورة الثانية: فتحيك علاقة ثلاثية بين المدينة والجريمة والكاميرا؛ هي صورة شارلوك هولمز -النمط الأول لشخصية المحقق في الرواية البوليسية- وهو يحمل عدسة مكبرة بحثًا عن الحقيقة. هذا المحقق، الذي يحشد معرفته العلمية المرتبطة بالإيمان المطلق بالعقل الحديث، يجمع بين قدرته على الاستنتاج المنطقي الديكارتي، وقدرته على الملاحظة البصرية التي ترمز إليها العدسة المكبرة: والعدسة هي أداة بصرية، مثلها مثل الكاميرات، توفر رؤية أفضل لما يُفلِت من العين الطبيعية سعيًا وراء كشف الحقيقة.
لا يُغَيِّب عنا التاريخ الغربي المؤسس لسردية الجريمة الحديثة، اكتشاف وجودها في سياقات ثقافية مغايرة. فالتطور العمراني للمدينة في مصر بداية من القرن التاسع عشر، وتطور حركة الترجمة والقراءة، وتعقد الحياة الاجتماعية والتشريعات والقوانين، ونشأة السينما التي دخلت مصر في عام 1896، وتأثيرها الكبير على مخيلة كتاب وصناع السينما المستقبليين ... كلها عناصر ساهمت في تأسيس سردية الجريمة في السينما المصرية، حيث نشاهد القتلة وضباط الشرطة والملاحقات منذ عام 1930، في "جريمة منتصف الليل" للمخرج محمد صبري و"كوكايين" من إخراج وتأليف توجو مزراحي، الذي أنتجته الدولة في إطار حربها ضد المخدرات.
أما العصر الذهبي لفيلم الجريمة المصري فكان في الخمسينيات والستينيات؛ حيث قدم مغامرات تعيد إنتاج الشروط الهوليودية للفيلم البوليسي، فنجد النهايات السعيدة، مع القبض على المجرمين، وإعادة إرساء العدالة، وتعميق الإيمان بالشرطة، وبالمؤسسات القانونية، وبالنظام الأخلاقي للمجتمع. إلا أنه مع هزيمة عام 1967، ظهر جيل جديد من المخرجين المؤلفين، ثاروا ضد تقاليد السينما السائدة؛ رغبة منهم في تحرير أعمالهم من المحرمات التقليدية، ومن سيطرة الرؤى الرسمية على الفن، فقدموا سينما تركز على الفرد وعلى اغترابه وتهميشه، وتطرح تساؤلات حول إمكانية العدالة في ظل نظام فاسد.
إذا كان الفيلم البوليسي التقليدي هدفه هو اكتشاف الفاعل، ففي فيلم الجريمة الحديث غالبًا ما يكون المجرمون معروفين، لكن لا توجد سبل لإيقافهم، وفي بعض الأحيان يكونون جزءًا من شبكة متشعبة في مؤسسات الدولة، أو مدعومين من قبل قوى فساد مهيمنة. تعكس سردية الجريمة الحضرية واقع المدينة وأمراضها، ومن خلالها تطرح الأسئلة عن الأزمات الوجودية و"الجانب المظلم" في الإنسان؛ وهي سمات نجدها في العديد من أفلام الثمانينيات: "ضربة شمس" و"الحريف" لمحمد خان، "العوامة 70" لخيري بشارة، "الصعاليك" لداود عبد السيد، "أهل القمة" لعلي بدرخان ... في هذه الأفلام نرى شخصيات محبطة، تفقد روح المقاومة، وتظهر الجريمة بوصفها تعبيرًا عن قلق وجودي يصبح الخلفية الاجتماعية لهذا العصر.
يتقارب هذا التحول في سردية الجريمة في السينما المصرية مع ما يتغير في النوع عالميًّا، وهو ما يظهر في رفض الخيال البطولي، والنهايات السعيدة، وتوطين الجريمة في سياقات اجتماعية وسياسية معاصرة. لم نعد نجد بطلًا منقذًا، بل نجد أبطالًا مهزوزين، نجد عنفًا قاسيًا، وغيابًا للعدالة، وأحيانًا حدودًا غير حاسمة بين الخير والشر.
يستكشف "العوامة 70" العلاقة الإشكالية بين المدينة والجريمة؛ فمسار التحقيق الذي يعتمد على الكاميرا يتخذ بُعدَين: بُعدًا موضوعيًّا يسعى البطل من خلاله إلى اكتشاف اللغز، وبُعدًا ذاتيًّا يشتبك مع أزمة صانع الفيلم - خيري بشارة ذاته - وعالمه الرمزي الذي ينعكس على عالم بطل الفيلم، فيما يشبه السيرة الذاتية[2].
تدور قصة الفيلم حول مخرج أفلام وثائقية، يذهب للتصوير في محلج قطن بحثًا عن سردية ما مخفية تحت المظاهر والخطابات الرسمية، تتعلق بأسئلة مثل: سبب عزوف الفلاحين عن زراعة القطن، وأحوال العمل داخل المحلج. أثناء ذلك تقع عيناه بالمصادفة على عامل مطارد يختبئ وراء جدران مبنى قديم، يحاول أن يتواصل معه لإبلاغه بشيء ما. يُقتل هذا العامل فيما بعد، ويجد المخرج نفسه متورطًا في مؤامرة ذات طابع بوليسي، بسبب ما شاهده وما عرفه من العامل عبد المعطي عن جرائم المحلج. تلعب الكاميرا دورًا مزدوجًا في هذه القصة؛ فهي أولًا أداة تقدم دليلًا في التحقيق الذي يقوم به المخرج أحمد الشاذلي، حيث رصدت لحظة كاشفة في قصة الجريمة. ثانيًا: هي وسيط يقف بينه وبين العالم الذي يخشى مواجهته؛ مما يضعه أمام معضلة الاستمرار في البحث ومواجهة الواقع سعيًا وراء الحقيقة، أو التراجع للخلف والاكتفاء بالوقوف خلف الكاميرا، وأمام طاولة المونتاج، هربًا من واقع معقد وخطير.
عُرض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية في مصر وفرنسا وإسبانيا وهولندا، وفاز بأربع جوائز في المسابقات المحلية، بما في ذلك جائزة أفضل فيلم روائي طويل، حصل عليها من قِبَل جمعية النقاد السينمائيين المصريين في 1982، وكانت مسوغات الجائزة أنه "عرض معاناة جيل كامل، بأسلوب جديد ومبدع يكشف عن نضج السينما المصرية الجديدة".
الجريمة ترسم علامات المدينة:
القاهرة السينمائية في الخمسينيات والستينيات هي غالبًا مدينة ثرية تم بناؤها في الأستوديوهات، أو تم تصويرها في منازل برجوازية لعائلات ميسورة، بينما ظهرت الحارة الشعبية بوصفها امتدادًا طبيعيًّا لعالم القرية المصرية، وضامنًا لمجموعة من القيم الأخلاقية والاجتماعية التضامنية. مع سينما الثمانينيات، تغيرت صورة القاهرة، فخرجت الكاميرا من الأستوديوهات لاكتشاف مشهد حضري جديد شكلته الاضطرابات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية في السبعينيات والثمانينيات، فأدت إلى تغيير جذري في بنية الحارة التي اختفت لتحل محلها صورة الشارع، حيث لا يعرف المارة بعضهم البعض، وحيث يتوه البشر وسط الزحام ويواجهون أخطار المدينة، وحيث يعرض المجتمع الاستهلاكي فحشه.
اهتمت هذه السينما الجديدة بمشهد المدينة، وأعطت أهمية خاصة للتجوال في الشوارع، ولتصوير المكان بشكل وصفي، إما من خلال حركات بانورامية واسعة، أو لقطات ترافلينج طويلة تتبع حركة البطل والسيارات في الشارع، سعيًا وراء استكشاف المشهد الحضري الجديد. يتكرر مشهد التجوال الليلي مرارًا في "العوامة 70"، ويظهر البطل في لقطات تتبع جانبية، وهو يسير في شوارع القاهرة المضيئة بواجهات المحلات والملصقات الإعلانية.
المدينة في فيلم بشارة مزدوجة ومتناقضة؛ نجد هناك أماكن الحياة والعمل كئيبة ومظلمة (العوامة القديمة، النهر، المصنع الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمان... إلخ)، وهي أيضًا الأماكن التي تحدث فيها الجرائم. على الجانب الآخر نجد أماكن اللقاءات الرومانسية بين البطل وحبيبته، أماكن المتعة والرفاهية في الفنادق والمطاعم والملاهي الفاخرة، والحدائق المبهجة حيث تدور الحياة هادئة لاهية. يبدو أن هاتين المدينتين تتجاهلان بعضهما البعض؛ فالمدينة القديمة هي التي توجد بالأسفل، حيث يغامر البطل بالدخول إلى العالم التحتي بحثًا عن الحقيقة. أما المدينة الحديثة فمشرقة، وتمثل أحلام وطموحات الرفاهية والحياة البرجوازية التي تتنامى في مجتمع استهلاكي جديد.
يعيش أحمد الشاذلي هذا التمزق للطبقة الوسطى؛ حياته اليومية هي جهد دائم للحياة بشكل كريم، فهو يريد صناعة أفلام ملتزمة تظهر الواقع الاجتماعي للأشخاص الأكثر حرمانًا من جانب، لكنه يحلم بحياة رغدة وناعمة من جانب آخر.
تابعوا معنا الجزء الثاني من المقال في الأسبوع المقبل، لنستكشف الأماكن التي تميز مدينة الجريمة ومسارات التحقيق بها، ونتساءل عن دور الكاميرا في كشف الحقيقة أو التلاعب بها من قبل المخرج/المحقق.