فنون
محمد كرمسينما عادل إمام.. جدل الحقائق والأكاذيب
2024.12.07
تصوير آخرون
سينما عادل إمام.. جدل الحقائق والأكاذيب
تشترط الزعامة السياسية عقدًا يتنازل فيه الأفراد عن حقوقهم الطبيعية في ممارسة صراع البقاء، الذي خاضه أسلافهم بغرائزهم وقواهم الجسدية، ويفوِّضون زعيمًا يُمثِّلهم، ليخوض هذا الصراع نيابة عنهم بتنظيم القوة العسكرية والسياسية والقانونية، لحفظ حقوقهم الطبيعية؛ فيجد جميع الأشخاص مصالحهم الخاصة تتحقق من خلال شخصية عامة: الزعيم. وكذلك فن التمثيل، إذ يعبر الممثل الواحد عن جماهير كثيرة، ويمثل مصالحهم ورغباتهم ويعبر عن مشاعرهم العميقة، فيروا آمالهم وآلامهم الخاصة تتجسد من خلال شخصية عامة: الممثل.
ربما لذلك لُقِّب الفنان عادل إمام بـ"الزعيم"، فالجماهير وقد فقدت من يمثل مصالحها بشكل واقعي؛ وجدت فنانًا يمثلها بشكل رمزي/خيالي، فاستحق لقب "الزعيم". لقد مثَّل عادل إمام رغبات الجمهور الدفينة، غير المتحققة، في التمرد على السلطة ومقاومة عيوب المجتمع.. في فيلم "الغول"، الذي ألفه وحيد حامد وأخرجه سمير سيف، قام عادل إمام بدور الصحفي عادل عيسى الذي قتل رجل الأعمال الفاسد فهمي الكاشف (فريد شوقي)، بعدما فشل في هزيمته بالقانون. وفي أثناء التحقيق يقول له صديقه وكيل النيابة صلاح السعدني إنه وإنْ كان خلَّص الناس من شخص فاسد، فهو قد أرجعهم إلى شريعة الغاب. لكن إذا كان عادل عيسى قد خرج عن العقد الاجتماعي التمثيلي بين الأفراد والدولة فعادل إمام، بتمثيله لشخص يقتل أحد حيتان الفساد في فيلم "الغول"، لم يخرج عن العقد الذي بينه وبين الجماهير الغفيرة المتضررة من أمثال فهمي الكاشف، حيث إنه عبَّر في الخيال عن رغبة دفينة داخلهم يعجزون عن تحقيقها في الواقع، ورغم ذلك أصرَّ أن يُحاسب بالقانون، فهو هنا "زعيم الرغبات المُحبطة" إن جاز التعبير.
تعددت أساليب مقاومة الشخصيات التي مثَّلها عادل إمام للسلطة والفساد والفقر، وأحد تلك الأساليب هو الكذب عند التعرض لاستجوابات السلطة، لكن الكذب إذا كان مرتبطًا بغاية نبيلة، وإذا كان مقاومةً لمنظومة زائفة، وإذا كان معبرًا عن مكنون شخصية تقيدها الأغلال الاجتماعية؛ صار أكثر تعبيرًا عن الحقيقة من الصدق، وهذا ما يميز فن التمثيل -الذي أتقنه عادل إمام- بوصفه تجسيدًا للشخصيات عن التزييف الذي يمارسه النصابون باعتباره انتحالًا للشخصيات. ودعونا نستعرض هنا ثلاثة أمثلة لشخصيات جسَّدها عادل إمام استخدموا الكذب تعبيرًا عن الحقيقة:
ماهر النمر.. الكذب معبرًا عن الحقيقة
يُعتبر فيلم "المشبوه" 1981 –تأليف إبراهيم الموجي وإخراج سمير سيف- رحلة تحوُّل في شخصية الضابط طارق الروبي (فاروق الفيشاوي)، فهو وقد امتلأ بالغيظ بعدما فشل في القبض على لص سرق منه سلاحه -والسلاح للضابط يمثل له شرفه- أصر على الانتقام باحثًا عن اللص ماهر النمر (عادل إمام) بأي طريقة. في المشهد الوحيد الذي صوَّر طارق الروبي في منزله مع أسرته؛ يقول له والده الضابط السابق إن بحثه عن اللص ماهر النمر صار لا علاقة له بدوره كضابط شرطة، فهو يأخذ الأمر على محمل شخصي، والضابط مهمته تنفيذ القانون دون نظر لتصفية الحسابات الشخصية، ثم يحكي له عن قاطع طريق أصاب ذراعه برصاصة وهرب منه في أثناء مطاردة في الماضي، وظل يبحث عنه لسنين، وبعدما وجده وضع الكلابشات في يديه، ثم وضع عشرة جنيهات في جيبه. يتعجب طارق، فيوضح له والده أن المجرم أطلق عليه النار من يأسه، فيعترض قائلًا: بل من إجرامه. رحلة تحوُّل الضابط طارق بمرور أحداث الفيلم هي رحلة اكتشاف "اليأس" الكامن وراء الإجرام عمومًا، وإجرام ماهر النمر خصوصًا.
في آخر مشهد للفنان سعيد صالح (الذي قام بدور بيومي شقيق ماهر النمر) يحكي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لشقيقه عن أول جريمة سرقة ارتكبها عندما رآه رضيعًا يبكي من الجوع، إذ سرق طاقم أسنان ذهبيًا من جثة في مقبرة وباعه ليشتري له لبنًا يسد به جوعه، فالفقر إذن هو الذي دفعه إلى السرقة.
المشبوه
المشاهد الأهم في الفيلم هي مشاهد تحقيق طارق الروبي مع ماهر النمر، فهي تبرز مفارقة من الأهمية بمكان، فبعدما التقى طارق بماهر صدفة في القسم الذي يتمم الأخير مراقبته فيه -بعد أن خرج من السجن وتاب عن السرقة، وأصبح بائعًا للملابس- يتذكره طارق من عينيه التي رآهما خلف القناع عندما سرق منه سلاحه في الماضي، ويحقق معه مستخدمًا العنف طورًا واللين تارةً؛ لكن ماهر ينكر تمامًا أنه الشخص المقصود. تكمن المفارقة في أن المشاهد يعلم أن ماهر هو سارق السلاح، وأنه يكذب، ورغم ذلك يصدقه! ويدفع المخرج المشاهِد لتصديق ماهر عندما يقول لطارق: "يا سعادة البيه... أنا لو خطر زي ما بتقول ما كنتش أقف وقفتي دي في السوق علشان أروح بجنيه ولا باتنين!". فأداء عادل إمام في هذا المشهد، مصحوبًا بالموسيقى المؤثرة لهاني شنودة ينقل شعورًا للمشاهد بصدق البطل وليس بمراوغته للنجاة من الحبس، فكذبه المستند إلى ظاهرة اجتماعية -وهي الفقر الذي دفعه للسرقة، ثم دفعه للعمل الشاق بعد ذلك- أكثر تعبيرًا عن الحقيقة من الصدق والاعتراف، تلك الحقيقة التي سيدركها طارق والتي أخبره بها والده، فيطلق سراح ماهر، بل ويساعده في استرداد ابنه من عصابة خطفته، فيرجع ماهر إليه سلاحه في أثناء المطاردة، هذا السلاح الذي طارده به في الماضي؛ يساعده به بعدما أدرك الحقيقة.
حسن بهنسي بهلول.. الكذب سندًا للحقيقة
جسَّد عادل إمام في فيلم "اللعب مع الكبار" 1991 (تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة) عن طريق شخصية حسن بهنسي بهلول مقولةَ الفيلسوف الألماني نيتشه: "ذلك الذي لا يستطيع الكذب لا يعرف ما هي الحقيقة". يبدو حسن من موقعه في الهامش –فهو فقير عاطل من سكان بولاق- خارج أُطُر السلطة التي تُخضع بها الأفراد، ويستمد من ذاته سلطة أخرى لا تخضعه لأحد. تتقاطع سلطة حسن مع سلطة الدولة عندما يعرف من صاحبه مهندس التليفونات علي الزهار (محمود الجندي) معلومات عن جرائم يخطط لها كبار من أصحاب النفوذ، فيذهب إلى ضابط أمن الدولة معتصم الألفي (حسين فهمي) ليبلغ عن تلك الجرائم، وعندما يُسأل عن مصدر المعلومات يقول: "كان حلم". إنها ليست كذبة عادية، ولا هي لمجرد حماية صديقه الذي يخالف قوانين مهنته ويتنصت على المكالمات، بل هي كذبة تقول حقيقة لا يمكن قولها بالصدق كما أن هناك حقائق لا تُدرك إلا في الحلم. فهو "حلم" بسيادة الشعب ومشاركته في مقاومة كبار المحتكرين الذين يخربون الوطن لصالحهم. وإذا كان "صاحب السيادة" (كما عرَّفه الفيلسوف الألماني كارل شميت) هو من يستطيع أن يفرض حالات استثناء عن القوانين المعتادة، مثل "قوانين الطوارئ"، من أجل غاية عليا مثل مصلحة الدولة، فعلي الزهار قد خرج عن القانون بتنصته على المكالمات، وبإبلاغ صديقه حسن بهلول بما سمعه، من أجل غاية نبيلة عليا وهي مصلحة الشعب والوطن، فهذا "الحلم" يكشف حقيقة أن تحقيق الغاية من القانون يستند إلى خرق للقانون. فقيام معتصم الألفي بمنع الجرائم التي أبلغه بها حسن بهلول يستند إلى جريمة التنصت التي يرتكبها علي الزهار، على أن الالتزام الحرفي بالقانون يكون أحيانًا في صالح "المجرم" كما أوضح حسن في إحدى مناقشاته مع المقدم معتصم. وهي حقيقة لا تخضع للاعتراف من الدولة كالحقائق التي لا يعترف بها وعي الفرد ولا يدركها إلا في الأحلام.
اللعب مع الكبار
لا يريد حسن شيئًا لنفسه، فعندما عرض عليه معتصم الألفي أن يعمل لصالح جهاز أمن الدولة بأجر؛ رفض بنبل قائلًا: "أنا عين البلد مش عين الحكومة". فكل ما يريده هو تحقيق "الحلم"، وعندما يُهدَّد حلمه باستجوابه من قِبل ضابط آخر الأسيوطي (مصطفى متولي) مستخدمًا العنف؛ يغير حسن الكذبة قائلًا إن مصدر معلوماته ليس "حلمًا" بل "كابوسًا"، فالكابوس هو عدم استكمال "الحلم" الذي كان يشاركه فيه المقدم معتصم الألفي، هو معرفة الجرائم مع العجز عن منعها، وعندما يقتل الكبار علي الزهار في نهاية الفيلم، يراه معتصم فيقول حسن له: "هو ده الحلم إللي أنا ما حلمتوش". موت علي هو موت "الحلم"، وهذا ما كان يحاول المخرج شريف عرفة إظهاره طوال الفيلم، فالجمل الحوارية القليلة لمحمود الجندي، وطريقة تصوير الكاميرا له باقترابها منه للتركيز على ملامحه الصامتة البريئة في أول مشاهده؛ تحوِّله من شخص إلى رمز، وكأن وجوده ليس في الواقع بل في "حلم".
فارس الحريف.. الكذب وسيلة للتحرر
في فيلم الحريف 1983 (إخراج محمد خان وتأليف بشير الديك) يُستدعى فارس (عادل إمام) إلى القسم للتحقيق معه في جريمة قتل جارته العجوز، يرسل له الضابط جنديًا مكلفًا بإحضاره، فيهرب منه فارس، وعندما يعود الجندي إلى مكتب الضابط صبري عبد المنعم في القسم ليبلغه بهروب المطلوب إحضاره؛ يجد فارس جالسًا أمامه، فكأن هروبه مسابقة سرعة بينه وبين الجندي ليرى من سيصل إلى القسم قبل الآخر! تلك هي طريقة فارس في مراوغة السلطة في فيلم "الحريف"، فهو خارج عن أُطُر "الذوات" المصطنعة إيديولوجيًا، التي لا ترى السلطةُ الأفرادَ إلا من خلالهاـ لكنه يدرك أن تلك السلطة أقوى منه، فلا حيلة أمامه لمقاومتها والتعبير عن تمرده عليها إلا باللعب والمراوغة، حتى لو كان مصيره هو الاستسلام، مثل مباراة الاعتزال التي لعبها في نهاية الفيلم قبل بداية عمله تحت سلطة المهربين.
الحريف
حقق الضابط مع فارس مرتين، وفي كلتيهما استجوبه عن معلومات تخص حياته الشخصية، لا علاقة لها بالقضية، أكثر من استجوابه عن معلومات تخص القضية، فالضابط (ممثل السلطة) يستجوبه لخروجه عن تحديدات السلطة للأفراد، الذي لا يعاقب عليه القانون، أكثر من استجوابه للاشتباه في ارتكابه لجريمة قتل يعاقب عليها القانون. يجيب فارس في التحقيق الأول عن الأسئلة المتعلقة بالقضية بصدق، فيقص للضابط بالتفاصيل المملة، وبنبرة استهزاء، تحركاته يوم وقوع الجريمة؛ لكنه يصمت عندما يستجوبه عن حياته الخاصة. وعندما سأله عن حالته الاجتماعية قال إنه غير متزوج؛ لكن السلطة لا تفضل في استجواباتها تعريفات سلبية مثل "غير متزوج"، لذلك يوبخه الضابط في التحقيق الثاني لأنه لم يجب بالتعريف الإيجابي "مُطلّق"، ويعتبر ذلك كذبًا. يرد فارس بأنه لم يكذب؛ لكنه رأى أن تلك المعلومة لا تخص القضية، فيصر الضابط على أنه كذب عليه.
بما أن التحقيق هنا ليس أسئلة لفارس عن معلومات تخص جريمة القتل بقدر ما هو استجوابًا عن شخصيته، فصمته ونفيه (الذي اعتبره الضابط كذبًا) يعتبران من وسائل مقاومة ما أسماه الفيلسوف الفرنسي ألتوسير استجواب سلطة الإيديولوجيا للأفراد (بشكل عام وليس في غرف تحقيق الأجهزة القمعية للسلطة فقط) فنفي فارس لكونه متزوجًا أمام الضابط هو تعبير عن إرادة داخله للتحرر من علاقة كبلته، وحاولت إخضاع تمرده فيكون من أولئك المألوفين لإيديولوجيا السلطة. وكأن مشاهد التحقيق مع فارس توضح لنا أنه من كان يريد التحرر من استجوابات سلطة الإيديولوجيا وإيديولوجيا السلطة فليُجِب بالنفي أو ليصمت.