عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

جون بيلامي فوستر

الطبقة الحاكمة الأمريكية وسلطة ترامب – الجزء الثاني

2025.04.20

مصدر الصورة : رويترز

ترجمة: راجي مهدي

 

الطبقة الحاكمة الأمريكية وسلطة ترامب – الجزء الثاني

 

بتأثير من مقالتي بول سويزي في مونثلي ريفيو "الطبقة الحاكمة الأمريكية" و"نخبة سلطة أم طبقة حاكمة؟" وكذلك مقالة ميلز "نخبة السلطة" قدم دومهوف تحليلًا طبقيًّا متميزًا في كتابه "من يحكم أمريكا؟" 1967، لكنه مع ذلك فضَّل استخدام مصطلحًا أكثر حيادية "الطبقة المسيطرة" بدلًا من مفهوم "الطبقة الحاكمة" باعتبار أن هذا الأخير يعبر عن نظرة ماركسية للتاريخ. بالرغم من ذلك، فبحلول عام 1978 حينما كتب دومهوف "السلطة القائمة: هيمنة الطبقة الحاكمة في أمريكا" كان متأثرًا بالمناخ الراديكالي السائد لينتقل إلى موقف يقول إن "الطبقة الحاكمة هي طبقة اجتماعية ذات امتيازات ولديها القدرة على الاحتفاظ بمواقعها في قمة الهيكل الاجتماعي". أُعيد تعريف نخبة السلطة كـ"ذراع قيادة" بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة. غير أن إقحام دومهوف لمفهوم الطبقة الحاكمة في تحليله لم يدُم طويلًا. في الطبعة التالية من كتابه "من يحكم أمريكا؟" وحتى الطبعة الثامنة التي صدرت في 2022، أصبح دومهوف أكثر ميلًا إلى العملية الليبرالية والتراجع عن مفهوم الطبقة الحاكمة. بل إنه حذا حذو ميلز حين ضم الملاك (الطبقة العليا) والمديرين تحت تصنيف "أغنياء الشركات" فأصبح يُنظر إلى نخبة السلطة باعتبارها تتكون من المديرين التنفيذيين ومديري مجالس الإدارات والمستشارين الذين يتقاطعون مع كل من الطبقة العليا (متضمنة العلاقات الاجتماعية ورواد الطائرات النفاثة) ومجتمع الشركات وشبكات رسم السياسات. هذه النظرة أسست لاتجاه بحثي يهتم بهيكل السلطة، بينما غابت تمامًا مصطلحات الطبقة الرأسمالية والطبقة الحاكمة.

بين عامي 1962-1963، قدم الاقتصادي السوڨييتي ستانيسلاف منشيكوف عملًا تجريبيًّا ونظريًّا أكثر تميزًا من عمل دومهوف، وقد تُرجم إلى الإنجليزية عام 1969 تحت عنوان: "مليونيرات ومديرين" كان منشيكوف جزءًا من عملية تبادل تعليمي بين الاتحاد السوڨييتي والولايات المتحدة عام 1962، حيث زار مع رئيس البعثة، مديري ونواب مديري عشرات الشركات وثلاثة عشر من أصل خمسة وعشرين بنكًا تجاريًّا" تمتلك أصولًا تقدر بمليارات الدولارات. كان هنري فورد ودافيد روكفلر ضمن من التقاهم منشيكوف، واستطاع من خلال احتكاكه بالسيطرة المالية للشركات والمجموعة أو الطبقة الحاكمة تقديم تقييم متماسك للهيمنة المستمرة تحديدًا للرأسماليين الماليين ضمن الفئات شديدة الثراء، كما ميز بوضوح بين الأوليجاركية المالية التي تسيطر على عديد من الجماعات المالية وبين المديرين التنفيذيين للبيروقراطية المالية للشركات. أشار منشيكوف أيضًا إلى ما يمكن تسميته بـ"تكتل المليونيرات والمديرين" في نفس السياق الذي أشار إليه ميلز "أثرياء الشركات"، حيث هناك تقسيم للعمل على مستوى الطبقة الحاكمة نفسها، "الأوليجاركية المالية" وهي مجموعة من الناس تقوم سلطتهم الاقتصادية على أساس امتلاكهم كميات عملاقة من رأس المال الوهمي الذي يشكل عصب كل المجموعات المالية الرئيسية، وهم من يحكمون المكان لا المديرون التنفيذيون للشركات. علاوة على هذا، استمرت هيمنة الأوليجاركية المالية في التوسع لا الاضمحلال. وقد أشار تحليل منشيكوف التفصيلي كما أشار تحليل سويزي "مجموعات المصالح في الاقتصاد الأمريكي" الذي كتبه كجزء من بحث في "هيكل الاقتصاد الأمريكي" المعد للجنة الموارد الوطنية أثناء الصفقة الكبرى، لاستمرار الطابع العائلي للهيمنة على معظم ثروات الولايات المتحدة.

فالأوليجاركية المالية الأمريكية تمثل طبقة حاكمة لكنها لا تحكم بشكل مباشر أو بشكل حر من أي تدخلات. كتب منشيكوف أن "الهيمنة الاقتصادية للأوليجاركية المالية ليست مكافئة لهيمنتها السياسية، غير أن تلك الهيمنة السياسية لا يمكنها أن تكون قوية بما فيه الكفاية دون الارتكاز على الهيمنة الاقتصادية، في نفس الوقت تلك الهيمنة الاقتصادية بمفردها وترابط الاحتكارات وجهاز الدولة لا زال غير كافٍ. لكن حتى في الولايات المتحدة حيث خدم جهاز الدولة الاحتكارات لمدة عقود وصار نفوذ هذه الأخيرة في الاقتصاد الأمريكي غير قابل للشك، فإن السلطة السياسية للأوليجاركية المالية كانت دومًا مهددة بقيود تحاول الطبقات الاجتماعية الأخرى فرضها، وبالفعل تنجح في ذلك أحيانًا. ومع هذا فإن الاتجاه الرئيسي هو ترجمة القوة الاقتصادية للأوليجاركية المالية تدريجيًّا إلى سلطة سياسية".

وكما يقول منشيكوف فإن للأوليجاركية المالية حلفاءها الصغار الذين يقومون بدور الحاكم السياسي للدولة وهم مديرو الشركات والنخبة العسكرية والسياسيون المحترفون الذين يستبطنون الاحتياجات الداخلية للنظام الرأسمالي، بالإضافة إلى النخبة البيضاء التي هيمنت على نظام الفصل العنصري في الجنوب، غير أن الأوليجاركية المالية كانت هي ذاتها القوة متزايدة الهيمنة. مثّل سعي الأوليجاركية المالية للتحكم المباشر في جهاز الدولة أحد الميول الرئيسية للإمبريالية الأمريكية في العقود الأخيرة، كنتيجة لنمو قوتها الاقتصادية وما تولد عن ذلك من احتياجات. ومع ذلك لم تكن تلك عملية بسيطة، فالرأسماليون الماليون في الولايات المتحدة لا يتصرفون بشكل موحد بل إنهم منقسمون فيما بينهم إلى شرائح متنافسة كما أن تعقيدات النظام السياسي الأمريكي التي تتيح للاعبين عديدين التأثير في العملية قد أعاقت محاولات الأوليجاركية المالية للتحكم الكامل في الدولة. يضيف منشيكوف: "قد يبدو أن السلطة السياسية الكاملة للأوليجاركية المالية صارت مضمونة، لكن الحال ليس هكذا، فآلة الدولة الرأسمالية المعاصرة ضخمة وثقيلة، والسيطرة على مواقع في أحد أجزائها لا يؤمِّن السيطرة على كامل دولاب عملها. تسيطر الأوليجاركية المالية على آلة الدعاية وتستطيع رشوة السياسيين والمسؤولين الحكوميين في مركز وأطراف الدولة، لكنها لا تستطيع رشوة الناس -الذين لا يتحملون كل قيود الديمقراطية البرجوازية- الذين ينتخبون الهيئة التشريعية والذين ليست لديهم خيارات كثيرة بالطبع، غير أنه ما لم تقم الأوليجاركية المالية رسميًّا بتعطيل الإجراءات الديمقراطية فإنها لن تضمن بشكل مؤكد وقوع حوادث غير مرغوب فيها".

نُشر عمل منشيكوف الاستثنائي "مليونيرات ومديرون" في الاتحاد السوڨييتي غير أنه لم يؤثر في النقاش حول الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة. الميل العام الذي انعكس في تقلبات دومهوف، وكذلك تقلبات بولانتزاس في أوروبا، كان يشير إلى التراجع عن مفاهيم الطبقة الحاكمة وحتى الطبقة الرأسمالية لتحل محلهما مفاهيم حول أثرياء الشركات ونخبة السلطة لتنتج ما يمكن تسميته بنظرية النخبة.

تزامن رفض دومهوف في عمله الأخير لمفهوم الطبقة الحاكمة (وحتى مفهوم الطبقة المسيطرة) مع نشر عمل بلوك "الطبقة الحاكمة لا تحكم" الذي لعب دورًا محوريًّا في تشكيل الفكر الراديكالي في الولايات المتحدة، وقد كتب بلوك عمله إبان انتخاب جيمي كارتر رئيسًا للولايات المتحدة، الذي اعتبره الليبراليون والديمقراطيون الاجتماعيون مثالًا لقيادة مختلفة أخلاقيًّا ذات سمات تقدمية، وفيه جادل بلوك بأنه لا وجود لطبقة حاكمة ذات سلطة حاسمة على الفضاء السياسي في الولايات المتحدة وفي الرأسمالية عمومًا، مفسرًا الأمر بأن الطبقة الرأسمالية والشرائح المكونة لها تفتقد الوعي الطبقي -عكس ما يقول به بولانتزاس- الذي يمكنها من العمل وفق مصالحها في الفضاء السياسي أو السيطرة على الهيكل السياسي. بدلًا من ذلك، تبنى بلوك منظورًا بنيويًّا يعتمد على مفهوم العقلانية عند ماكس فيبر، الذي يقول بمقتضاه إن الدولة تعقلن أدوار ثلاثة متنافسين هم الرأسماليون ومديرو الدولة والطبقة العاملة. هذه الاستقلالية النسبية للدولة في المجتمع الرأسمالي، إحدى وظائفها محاكم محايدة بين قوى عديدة تتصادم، لكن أيًّا منها لا يحكم.

كتب بلوك مهاجمًا هؤلاء الذين يروجون أن الرأسمالية تتمتع بموقع مهيمن في الدولة قائلًا: "لتقديم نقد متماسك للذرائعية، علينا رفض فكرة وجود طبقة حاكمة واعية طبقيًّا"، فطبقة رأسمالية واعية بذاتها سوف تسعى إلى الحكم، وبينما لاحظ أن ماركس استخدم مقولة الطبقة الحاكمة الواعية بذاتها فإنه انتقص منها باعتبارها مجرد اختزال سياسي لحتمية بنيوية.

لقد كان بلوك واضحًا حين قال إن الراديكاليين أمثاله حين ينقدون مقولة الطبقة الحاكمة فإنهم "يفعلون ذلك لتبرير السياسات الاشتراكية الإصلاحية"، وبنفس الحماس أصر على أن الطبقة الرأسمالية تعمدت -بشكل واعٍ طبقيًّا- ألا تحكم الدولة سواء من داخلها أو بوسائل خارجية، مضيفًا أن الحدود البنيوية لـ"ثقة مجتمع الأعمال" كما يعبر عنها الصعود والهبوط في سوق الأسهم، تؤكد أن النظام السياسي في توازن مع الاقتصاد، ما يتطلب من الفاعلين السياسيين تبني وسائل عقلانية لتأمين الاستقرار الاقتصادي. طبقًا لنظرة بلوك البنيوية، فالدولة تعقلن الرأسمالية بما يفتح طريق السياسات الديمقراطية الاجتماعية إليها.

ما هو واضح أنه بحلول نهاية السبعينيات تخلى منظرو الماركسية الغربية عن مفهوم الطبقة الحاكمة بشكل كامل تقريبًا، ليرسموا صورة لدولة مستقلة عن السلطة الطبقية لرأس المال لا بشكل نسبي بل بشكل شبه مطلق وهو ما شكَّل جانبًا من التراجع العام عن التحليل الطبقي. في بريطانيا، كتب جوف هودسون في كتابه "الاقتصاد الديمقراطي: نظرة جديدة للتخطيط والأسواق والسلطة"1984 أن "الحديث عن طبقة "حاكمة" يجب مواجهته، فهو مفهوم ضعيف ومضلل. من الممكن الحديث عن طبقة مهيمنة في المجتمع لكن فقط في ضوء هيمنتها على نوع محدد من البنية الاقتصادية. أما الحديث عن طبقة "حاكمة" فهو يعني أكثر من ذلك بكثير، فهو يعكس انخراطًا ما في الجهاز الحكومي." ثم يضيف أنه من الضروري تجاوز المفهوم الماركسي الذي يربط بين "أساليب إنتاج مختلفة وطبقات حاكمة مختلفة" تمامًا كما بولانتزاس وبلوك في مراحلهما المتأخرة، يتبنى هودسون نظرة ديمقراطية اجتماعية لا ترى تناقضًا حاسمًا بين الديمقراطية البرلمانية في صيغتها الرأسمالية وبين الانتقال إلى الاشتراكية.

النيوليبرالية والطبقة الحاكمة الأمريكية

بالرغم من اتساع موجة تجاوز مفهوم الطبقة الحاكمة في أوساط الماركسية الغربية في أواخر الستينيات والسبعينيات، فإن هناك مفكرين قد خرجوا عن هذا الخط. واصل سويزي على صفحات المونثلي ريفيو دفاعه عن فكرة أن الولايات المتحدة تخضع لهيمنة طبقة رأسمالية حاكمة. وهكذا بيَّن بول باران وبول سويزي في كتابهما "رأس المال الاحتكاري" عام 1966 أن "مجموعة أوليجاركية صغيرة تمتلك سلطة اقتصادية عملاقة وهي تتحكم بالكامل في الجهاز السياسي والثقافي للمجتمع" ما يجعل من فكرة أن الولايات المتحدة ديمقراطية نموذجية محض تضليل.

"باستثناء فترات الأزمة، تعد الديمقراطية البرجوازية هي النظام السياسي الاعتيادي للرأسمالية سواء كانت تنافسية أو احتكارية. الأصوات الانتخابية هي المصدر الاسمي للسلطة السياسية، بينما المال هو المصدر الحقيقي: بتعبير آخر، النظام ديمقراطي شكلًا لكنه بلوتوقراطي من حيث الجوهر. الآن صار هذا معلومًا وليس ضروريًّا إعادة مناقشته. يكفي القول إن كل الأنشطة والوظائف السياسية التي تشكل السمات الأساسية للنظام -الدعاية وتوجيه الاقتراع العام، تنظيم وديمومة الأحزاب السياسية، وتنظيم الحملات الانتخابية- كلها لا يمكن القيام بها سوى بالمال، كثير من المال. ولأن الشركات العملاقة هي أكبر مالك للمال في الرأسمالية الاحتكارية فإنها أيضًا صاحبة السلطة السياسية المهيمنة".

كان هذا "العصر الذهبي للرأسمالية" حين دلل باران وسويزي على مدى هيمنة الطبقة الحاكمة على الدولة بالقيود التي فُرضت على توسع الإنفاق الحكومي المدني (والذي عارضه رأس المال باعتباره يتداخل مع فرص التراكم الخاص)، بينما أُطلق العنان للإنفاق العسكري ودعم الشركات الكبيرة. وعلى العكس من مقولات فيبر عن العقلانية، فقد برهنا على "لا عقلانية" نظام الرأسمالية الاحتكارية المحاصَر بأزمات التراكم الزائد التي تتجلى في انعدام القدرة على امتصاص فائض رأس المال الذي لم يعد قادرًا على فتح آفاق استثمارية مربحة ما جعل الركود عادةً في الرأسمالية الاحتكارية وليس استثناءً.

خلال سنوات من نشر "رأس المال الاحتكاري" دخل الاقتصاد الأمريكي منذ بدايات وأواسط السبعينيات في حالة ركود عميقة لم يستطِع التعافي منها بشكل كامل خلال النصف قرن التالي، حيث تراجع النمو الاقتصادي عَقدًا بعد عَقد، حيث دخل رأس المال في أزمة بنيوية وهو تناقض قائم في كل الدول الرأسمالية المركزية. أزمة التراكم الرأسمالي المستدامة تلك أدت إلى النزوع النيوليبرالي إلى إعادة تشكيل الاقتصاد والدولة على كل مستوى وفرض سياسات قمعية هدفها تثبيت هيمنة الرأسمالية، وهو ما قاد في النهاية إلى تفكيك التصنيع والوحدة في قلب الرأسمالية وأمولة وعولمة الاقتصاد الدولي.

في أغسطس 1971، قبل شهور من قبوله تسمية ريتشارد نيكسون له قاضيًا مشاركًا في المحكمة العليا الأمريكية، كتب لويس بويل مذكرته سيئة السمعة لغرفة التجارة الأمريكية، هدف من خلالها أن تنتظم الولايات المتحدة في حملة صليبية نيوليبرالية ضد العمال واليسار الذي عزا إليهم ضعف نظام "المشاريع الحرة" الأمريكي. لذلك، في نفس الوقت الذي كان اليسار يتخلى فيه عن مفهوم الطبقة الحاكمة الأمريكية الواعية بذاتها، كانت الأوليجاركية الأمريكية تعيد تأكيد هيمنتها على الدولة عبر إعادة بناء اقتصادية وسياسية تحت لواء النيوليبرالية التي هيمنت على سياسات الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وقد تجلى هذا في الثمانينيات عبر تطبيق سياسة اقتصاديات العرض أو الاقتصاد الريجاني، التي عُرفت عاميًّا باسم "روبن هود مقلوبًا".

في 1958، كتب جالبريث في ذا أفلوينت سوسايتي قائلًا: "لزمنٍ طويل تملَّك من الأثرياء الأمريكيين خوف حاد من المصادرة، خوف كان يتبدَّى حتى في حالة أي إجراءات إصلاحية طفيفة كانوا ينظرون إليها بالحكمة المحافظة التقليدية كتمهيد للثورة. الكساد ومن ثم الصفقة الجديدة كانا ترويعًا كبيرًا لأثرياء أمريكا". لقد أعادت النيوليبرالية وتجدد الركود الاقتصادي إحياء هذه المخاوف ما أدى إلى تأكيد أقوى على هيمنة الطبقة الحاكمة على الدولة بكل مستوياتها بهدف تدمير كل المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة في عصر الصفقة الجديدة والمجتمع العظيم اللذين أشير إليهما كسبب للأزمة البنيوية الرأسمالية.

بتعمق الركود الاستثماري على مستوى الاقتصاد كله، حيث أصبح الإنفاق العسكري غير كافٍ لتعويم النظام كما حدث فيما يُسمى بـ"العصر الذهبي" عبر حربين إقليميتين رئيسيتين في آسيا، أصبح رأس المال في حاجة إلى منفذ لفوائضه العملاقة. في المرحلة الجديدة لرأسمال الاحتكاري المالي، تدفق هذا الفائض في القطاع المالي (التمويل والتأمين والعقارات)، وفي مراكمة الأصول الذي صار ممكنًا عبر إلغاء الحكومة للقيود التنظيمية على التمويل وتخفيض معدلات الفائدة (سياسة ألان جرينسبان الشهيرة)، وأيضًا تخفيض الضرائب على الأغنياء والشركات الكبيرة، ما خلق بنية مالية جديدة فوق الاقتصاد الإنتاجي حيث يتوسع التمويل بسرعة بالتزامن مع ركود الإنتاج. كان هذا ممكنًا فقط عبر مصادرة تدفقات الدخل من خلال الديون العقارية وتكاليف التأمين والرعاية الصحية وتخفيض المعاشات التقاعدية، أي على حساب الطبقات الأدنى.

في نفس الوقت تحولت الشركات بشكل واضح إلى الإنتاج في بلدان الجنوب العالمي بحثًا عن سعر أرخص للعمل في عملية باتت تعرف بمفاضلة العمل العالمي. وقد صار ذلك ممكنًا بفضل تكنولوجيا الاتصال والنقل الجديدة وما أدت إليه العولمة من إنشاء قطاعات جديدة في الاقتصاد العالمي. كانت النتيجة هي تفكيك الاقتصاد الصناعي في الولايات المتحدة. تزامن كل هذا مع النمو الهائل في رأس مال التكنولوجيا الفائقة ورقمنة الاقتصاد وظهور أجيال احتكارية جديدة في قطاع التكنولوجيا الفائقة في التسعينيات. المحصلة النهائية لهذه التطورات كانت زيادة هائلة في تركيز وتمركز رأس المال والتمويل والثروة. حتى في ظل التباطؤ المتزايد للنمو الاقتصادي، توسعت ثروات الأغنياء بقفزات هائلة، صار الأثرياء أكثر ثراءً وازداد الفقراء فقرًا بينما دخل الاقتصاد الأمريكي إلى القرن الحادي والعشرين راكدًا وغارقًا في تناقضاته. تم تمويه عمق الأزمة البنيوية الرأسمالية مؤقتًا من خلال العولمة والأمولة والتحول المؤقت لعالم أحادي القطب، وقد قوضتها كلها الأزمة المالية الكبرى 2007-2009.

يتبع..