عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

جون بيلامي فوستر

الطبقة الحاكمة الأمريكية وسلطة ترامب - الجزء الأول

2025.04.13

مصدر الصورة : آخرون

ترجمة: راجي مهدي

 

 المقال الأصلي منشور على موقع Monthly Review في تاريخ 1 أبريل 2025[1]

 

على امتداد القرن الماضي كانت الطبقة الحاكمة الأمريكية هي الأقوى والأكثر وعيًا عبر التاريخ العالمي بلا شك، وقد فرضت سيطرتها على الاقتصاد والدولة ومارست هيمنتها محليًّا وعالميًّا. لعبت الدعاية الأيديولوجية دورًا مركزيًّا حين رَوَّجت أن القوة الاقتصادية الضخمة للرأسمالية الأمريكية لم تُترجم إلى هيمنة سياسية، وأنه مهما بلغت درجة الاستقطاب الاقتصادي في المجتمع الأمريكي، فقد بقيت الديمقراطية مصونة. طبقًا لتلك الدعاية الأيديولوجية فإن مصالح الأغنياء التي تحكمت في السوق، لم تتحكم في جهاز الدولة وهو ما يشكل الفكرة الحاسمة في الديمقراطية الليبرالية. تلك الأيديولوجية المهيمنة تنهار الآن أمام الأزمة البنيوية التي تعانيها الرأسمالية الأمريكية والعالمية، وتدهور الدولة الديمقراطية الليبرالية نفسها بما يؤدي إلى انقسام عميق في الطبقة الحاكمة وصعود جناح يميني جديد يمثل الهيمنة الرأسمالية الصريحة على جهاز الدولة.

قبل أيام من عودة ترامب الظافرة إلى البيت الأبيض وفي خطابه الوداعي للأمة، أشار الرئيس جو بايدن إلى أن الديمقراطية الأمريكية تواجه تهديدًا من فئة أوليجاركية متمركزة في قطاع التكنولوجيا الفائقة وتعتمد على المال الأسود. بينما حذر السيناتور بيرني ساندرز من الآثار المترتبة على تركز الثروة والسلطة في "طبقة حاكمة" مهيمنة جديدة والتخلي عن ما تبقى من دعم للطبقة العاملة في كلا الحزبين الرئيسيين.

بالطبع لا يمكن اعتبار وصول ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية دلالة على تنامٍ مفاجئ في النفوذ السياسي للرأسمالية الأوليجاركية، بل كانت تلك حقيقة واقعية منذ زمن طويل، ففي السنوات الأخيرة كانت البيئة السياسية بأكملها تتوجه نحو اليمين وخاصة منذ الأزمة المالية في 2008، بينما تصاعدت الهيمنة الأوليجاركية المباشرة على الدولة. والآن يهيمن قطاع من الرأسمالية الأمريكية بشكل مباشر على جهاز الدولة الأيديولوجي عبر إدارة من الفاشيين الجدد تلعب فيها الميول النيوليبرالية السابقة دورًا محدودًا. هدف هذا التحول هو إعادة هيكلة الولايات المتحدة بشكل قمعي نحو وضعية حرب دائمة نتيجة لتراجع هيمنتها وعدم استقرار الرأسمالية الأمريكية، بالإضافة إلى ظهور الاحتياج لطبقة رأسمالية أمريكية أكثر تمركزًا تستطيع فرض هيمنتها القابضة على جهاز الدولة.

أثناء الحرب الباردة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، سعى حماة الديمقراطية الليبرالية في الإعلام والوسط الأكاديمي إلى التقليل من شأن الدور المهيمن الذي يلعبه الرأسماليون الصناعيون والماليون في الاقتصاد الأمريكي الذين كان من المفترض أنه قد تمت إزاحتهم فيما عُرف بـ"ثورة المديرين" أو تحجيم دورهم بقوة موازية، طبقًا لهذه الرؤية فإن أطراف ثنائيات الملاك والمديرين، ورأس المال والعمل يحدون بعضهم من نفوذ بعض. فيما بعد تم إلى حد ما تنقيح هذه النظرة العامة عبر تمويه مفهوم الهيمنة الطبقية لرأس المال الاحتكاري باستحداث صيغة "الكوربوراتية".

هناك زعم شائع أن الديمقراطية الأمريكية هي نتاج تفاعل جماعات متعددة تتوسط بينها نخبة السلطة، وأنه لم تكن هناك طبقة حاكمة مهيمنة في الفضائين الاقتصادي والسياسي، حتى وإن كان ممكنًا الحديث عن الهيمنة الاقتصادية للطبقة الرأسمالية، فإنها لم تتحكم في جهاز الدولة الذي كان مستقلًّا. تم التعبير عن هذه الرؤية في عديد من الأعمال الرئيسية للتيار التعددي، بداية من كتاب جيمس برنام "ثورة المديرين - "1941، مرورًا بجوزيف شومبيتر في كتابه "الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية - "1942، وكتاب "من الذي يحكم؟ - 1961" لروبرت دال، وكتاب جون كينيث جالبريث "الدولة الصناعية الجديدة - "1967، مرورًا بالمحافظين وانتهاءً بالليبراليين. كل هؤلاء يعتبرون أن السيادة كانت إمَّا للتعددية وإما لنخبة إدارية بيروقراطية، نافين أي هيمنة طبقية رأسمالية في فضائي الاقتصاد والسياسة. بحسب تلك النظرة التعددية للرأسمالية القائمة بالفعل، والتي كان شومبيتر أول من صاغها، فإن السياسيين هم مجرد رواد أعمال على المستوى السياسي يتنافسون من أجل الأصوات تمامًا كما يتنافس رواد الأعمال اقتصاديًّا في السوق المفتوح، لينتجوا نمطًا من "القيادة التنافسية".

لترويج وهم أن الولايات المتحدة بقيت دولة ديمقراطية أصيلة، بالرغم من السلطة الواسعة التي تمتلكها الطبقة الرأسمالية، تم تنقيح الأيديولوجية السائدة وتدعيمها بتحليلات يسارية سعت إلى إعادة مفهوم السلطة إلى نظرية الدولة، واستبدال الرؤى التعددية المهيمنة التي كان دال أحد رموزها، وفي نفس الوقت رفض مفهوم الطبقة الحاكمة. كان العمل الأكثر أهمية الذي يعبر عن هذا التحول هو كتاب رايت ميلز "نخبة السلطة - "1956، الذي جادل حول أن مفهوم "الطبقة الحاكمة"، المرتبط تحديدًا بالماركسية، يجب استبدال به مفهوم "نخبة السلطة" الثلاثية الذي يشير إلى أن للسلطة في الولايات المتحدة مصادر ثلاثة هي الكوربوراتية والنخبة العسكرية والسياسيين المنتخبين. وقد اشتهر عن ميلز أنه أشار إلى مفهوم الطبقة الحاكمة باعتباره "اختصارًا" يفترض أن الهيمنة الاقتصادية تعني ببساطة الهيمنة السياسية. تحدى ميلز بشكل مباشر مفهوم ماركس حول الطبقة الحاكمة قائلًا: "لا يمكن عبر أي تبسيط أو كحقيقة بنيوية اعتبار الحكومة الأمريكية لجنة عن الطبقة الحاكمة." "إنها شبكة من اللجان، ورجال آخرين من هيئات أخرى بجانب كوربوراتيين يشكلون هذه اللجان".

واجهت فكرة ميلز عن الطبقة الحاكمة ونخبة السلطة تحديًا من منظرين راديكاليين وخصوصًا بول سويزي في مونثلي ريفيو، بينما كان ويليام دومهوف أول من تعرض بالنقد لهذه الأفكار في كتابه "من الذي يحكم أمريكا؟ - "1967، لكن في النهاية اكتسبت أفكار ميلز نفوذًا ملحوظًا في صفوف اليسار، ففي1968، سيكتب دومهوف في "رايت ميلز ونخبة السلطة": "اعتُبر مفهوم "نخبة السلطة" كحلقة وصل بين المواقف الماركسية والتعددية.. وتنبع أهميته من أنه ليس كل القادة الوطنيين أعضاء في الطبقة العليا. من هذا المنطلق يمكن اعتباره تعديلًا وامتدادًا لمقولة: "الطبقة الحاكمة".

كانت مسألة الطبقة الحاكمة والدولة في قلب الجدال بين المنظرين الماركسيين رالف ميليباند مؤلف "الدولة في المجتمع الرأسمالي - "1969، ونيكوس بولانتزالس مؤلف كتاب "السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية - "1968، ممثلين عن الاتجاهين الذرائعي والبنيوي بخصوص وضعية الدولة في المجتمع الرأسمالي. دار الجدل حول "الاستقلالية النسبية" للدولة عن الرأسمالية الحاكمة، وهي موضوع حاسم بالنسبة إلى آفاق استيلاء الحركات الاجتماعية الديمقراطية على الدولة.

اتخذ الجدل طابعًا حادًّا في الولايات المتحدة مع صدور دراسة فريد بلوك المهمة "الطبقة الحاكمة لا تحكم" المنشورة في دورية الثورة الاشتراكية عام 1977، وفيها ذهب بلوك بعيدًا حد القول بأن الطبقة الرأسمالية ينقصها الوعي الطبقي اللازم لترجمة سلطتها الاقتصادية إلى التحكم في الدولة. وبحسب بلوك، فتلك الرؤية ضرورية لخلق سياسات اجتماعية وديمقراطية واقعية. بعد انتصار بايدن في انتخابات 2020، أُعيد نشر دراسة بلوك في مجلة جاكوبين مع خاتمة جديدة كتبها بلوك نفسه مجادلًا أنه بما أن الطبقة الحاكمة لم تحكم، فإن بايدن لديه الحرية في انتهاج سياسات صديقة للطبقة العاملة بناءً على خطوط الصفقة الجديدة التي في إمكانها منع إعادة انتخاب أحد اليمينيين "أكثر مهارة وغِلظة" من ترامب في 2024.

بسبب من تناقضات إدارة بايدن وعودة ترامب إلى السلطة مع ثلاثة عشر مليارديرًا في وزارته، فالسجال الطويل حول الطبقة الحاكمة والدولة في حاجة إلى استكشاف جديد.

الطبقة الحاكمة والدولة

عبر تاريخ النظرية السياسية من العصور القديمة وحتى الآن، تم تحليل الدولة في علاقتها بالطبقة. في المجتمع القديم وتحت سيطرة الإقطاع، كتمييز عن المجتمع الرأسمالي الحديث، لم يكن هناك تمايز واضح بين المجتمع المدني (أو الاقتصاد) وبين الدولة. وكما أشار ماركس في كتابه "نقد نظرية الدولة عند هيجل - "1843 "تناول الدولة بهذا الشكل المجرد لم يحدث سوى في العالم الحديث لأن تناول الحياة الخاصة بشكل مجرد لم يحدث سوى في العالم الحديث. إن تناول الدولة السياسية المجرد هو منتوج حديث" لم يكتمل سوى تحت حكم البرجوازية. أعاد كارل بولاني صياغة هذا الاستنتاج لاحقًا بالإشارة إلى الطبيعة الخفية للاقتصاد في اليونان القديمة وتجليه مجردًا في ظل الرأسمالية على شكل انفصال بين المجال العام للدولة والمجال الخاص الاقتصادي. ففي اليونان القديمة حيث لم تكن الأوضاع الاجتماعية قد أنتجت مثل هذه التجريدات، كانت الطبقة الحاكمة هي من تسن القوانين ولم يكن موضوع الانفصال مطروحًا. في كتابه "السياسة"، كما يشير إرنست باركر في "الفكر السياسي لأفلاطون وأرسطو"، يتبنى أرسطو موقف أنه يمكن فهم اليونان بتحليل الطبقة التي تحكمها "يمكن للمرء أن يقول، أخبرني من هي الطبقة السائدة، أخبرك ما هو الدستور".

على النقيض من هذا، يتم تصوير الدولة في النظام الرأسمالي ككيان منفصل عن المجتمع المدني والاقتصاد. في هذا الإطار يُطرح دومًا السؤال عمَّا إذا كانت الطبقة التي تهيمن على الاقتصاد -تحديدًا الطبقة الرأسمالية-تهيمن على الدولة.

أفكار ماركس حول هذا الموضوع كانت معقدة، بالطبع لم تَحِد عن مقولة أن الدولة في المجتمع الرأسمالي تسيطر عليها الطبقة الرأسمالية، بينما يعترف بظروف تاريخية متغيرة يحدث فيها تعديل لهذا التصور. فمن جهة قدم مع فريدريك إنجلز في "البيان الشيوعي" فكرة أن "الدولة الحديثة ليست إلا لجنة لإدارة شؤون البرجوازية كلها" وهذا يعني أن الدولة أو فرعها التنفيذي تتمتع باستقلالية نسبية بالنسبة للمصالح الرأسمالية المفردة غير أنها مع ذلك مسؤولة عن إدارة المصالح العامة للطبقة. وكما أشار ماركس في مواضع أخرى أن هذا قد يعني إصلاحات جوهرية كتشريع يوم عمل من عشر ساعات الذي وبالرغم من أنه يبدو كتنازل للطبقة العاملة يتناقض مع المصالح الرأسمالية، إلا أنه كان ضروريًّا لتأمين التراكم الرأسمالي عبر تنظيم قوة العمل وتأمين إعادة إنتاجها. من جهة أخرى، يشير ماركس في "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" إلى حالات لم تسيطر فيها الرأسمالية على جهاز الدولة مباشرة لتظهر حالات حكم نصف مستقلة طالما لم تتداخل مع هيمنتها الاقتصادية ولم تُعِق قيادتها للدولة في نهاية المطاف. كما أشار أيضًا إلى حالات يحدث فيها سيطرة إحدى الشرائح الرأسمالية على الدولة دون الشرائح الأخرى. في كل هذه الحالات أكد ماركس على الاستقلال النسبي للدولة عن المصالح الرأسمالية وهو ما مثل عاملًا حاسمًا في كل النظريات الماركسية حول الدولة في المجتمع الرأسمالي.

وقد استقر منذ زمن طويل أن الرأسمالية لديها وسائل عديدة للعمل كطبقة حاكمة من خلال جهاز الدولة، حتى في حالة التنظيم الديمقراطي الليبرالي. من جهة، يمكن أن يتخذ هذا شكل النفاذ في الجهاز السياسي بميكانيزمات عديدة كالسيطرة الاقتصادية والسياسية على جهاز حزب سياسي واحتلال هيكل قيادته السياسية مباشرة من قبل الرأسماليين وممثليهم. إن المصالح الرأسمالية في الولايات المتحدة تمتلك اليوم القدرة على التأثير في الانتخابات بشكل حاسم. علاوة على هذا، تمتد الهيمنة الرأسمالية على الدولة لحدود أبعد من الانتخابات، كالسيطرة على البنك المركزي وبالتالي التحكم في التدفق المالي ومعدلات الفائدة وتشريعات النظام المالي، والتي تم تسليمها لسلطة البنوك. من جهة أخرى، تسيطر الطبقة الرأسمالية على جهاز الدولة بشكل غير مباشر من خارجه عبر قوتها الاقتصادية الطبقية الهائلة التي تمكنها من فرض ضغوط مالية مباشرة، تكوين التكتلات، وتمويل جماعات الضغط ومراكز الأبحاث، سياسة الباب الدوار بين اللاعبين الأساسيين في الحكومة وعالم البيزنس، والسيطرة على أجهزة الثقافة والتواصل. لا توجد سلطة سياسية في مقدورها الحفاظ على بقائها في ظل الرأسمالية ما لم تخدم مصالح الربح والتراكم الرأسمالي، وهي الحقيقة التي تواجه كل اللاعبين السياسيين.

تعقيد وضبابية المقاربة الماركسية لمفهوم الطبقة الحاكمة تجليا فيما أعلنه كارل كاوتسكي عام 1902  "الطبقة الرأسمالية تسيطر ولا تحكم" ثم أضاف بعد ذلك بقليل أنها "تقنع نفسها بالحكومة القائمة". وكما يلاحظ، كان موضوع الاستقلال النسبي للدولة عن الطبقة الرأسمالية هو بالضبط أساس السجال الشهير بين ما صار يُعرف بالنظرية الذرائعية والنظرية البنيوية حول الدولة، ممثلة في ميليباند في بريطانيا وبولانتزاس في فرنسا على الترتيب. تأثرت نظرة ميليباند بشكل حاسم -كما قال في كتابه الاشتراكية البرلمانية- بنهاية حزب العمال البريطاني كحزب اشتراكي فعلًا. هذا ما وضعه في مواجهة القوة الهائلة للرأسمالية كطبقة حاكمة. وهو ما تبناه بعد ذلك في كتابه "الدولة في المجتمع الرأسمالي - "1969، وفيه كتب أن "أحد الأهداف الرئيسية لهذه الدراسة هو السؤال حول إذا ما كان مناسبًا على الإطلاق الحديث عن طبقة حاكمة"، ففعليًا "السؤال الأهم من بين كل الأسئلة التي يطرحها وجود مثل هذه الطبقة المهيمنة هو حول إذا ما كانت تمثل طبقة حاكمة". ثم يشرح أنه بينما لا يمكن الحديث عن الطبقة الرأسمالية "كطبقة حاكمة" بالشكل الذي حكمت به الأرستقراطية، إلا أنها بالفعل تتحكم بشكل مباشر وبشكل غير مباشر في المجتمع الرأسمالي. فقد حولت سلطتها الاقتصادية بطرق عدة إلى سلطة سياسية إلى الحد الذي يدفع الطبقة العاملة إذا أرادت مواجهة الطبقة الحاكمة أن تواجه هيكل الدولة الرأسمالية نفسه. 

كان هذا هو موضع خلاف بولانتزاس مع ميليباند. في عام 1968 نشر بولانتزاس كتابه "السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية"، مشددًا فيه على فكرة الاستقلال النسبي للدولة في مواجهة فرضية ميليباند حول خضوع الدولة مباشرة لحكم الطبقة الرأسمالية، وإن كان الطرح الأخير يتوافق مع معظم كتابات ماركس حول الموضوع. يؤكد بولانتزاس على أن الرأسمالية تسيطر على الدولة بشكل بنيوي وغير مباشر ما يسمح بمساحة أكبر من تنوع الأنماط الطبقية للحكومات، ليس فقط من الشرائح المختلفة من الرأسمالية بل أيضًا من الطبقة العاملة، وقد كتب قائلًا: "وجود أفراد رأسماليين في جهاز الدولة والحكومة ليس هو الجانب الجوهري في الموضوع، فالعلاقة بين البرجوازية والدولة هي علاقة موضوعية، المشاركة المباشرة لأفراد من الطبقة الحاكمة في جهاز الدولة ليس سببًا بل نتيجة هذه الصدفة الموضوعية". وبينما تبدو هذه الفقرة معقولة بما فيه الكفاية لكنها تعني نفي دور الطبقة الحاكمة كطبقة واعية بذاتها. جاءت بنيوية بولانتزاس في ذروة صعود الشيوعية الأوروبية لتشير إلى قدر كبير من الاستقلالية النسبية لجهاز الدولة ما فتح الباب للاعتقاد بأن الدولة ككيان لا تحكمه الطبقة الرأسمالية حتى ولو كانت الدولة في النهاية خاضعة لهيمنة قوى موضوعية ذات أصل رأسمالي.

مثل هذه النظرة التي واجهها ميليباند كشفت عن ميول "جبرية متطرفة" أو اقتصادوية في النظر للدولة تميز بها "الانحراف اليساري المتطرف" أو "الانحراف اليميني" نحو الديمقراطية الاجتماعية التي نفت تمامًا وجود طبقة حاكمة. وفي الحالتين، كانت حقيقة الطبقة الرأسمالية الحاكمة التي مارست حكمها بعمليات متعددة كما كشف عنها البحث النظري لميليباند وآخرين، تبدو كأنها مقطوعة عن عملية تطوير إستراتيجية صراع طبقي من أسفل. في 1978، انتقل بولانتزاس في كتابه "الدولة والسلطة والاشتراكية" إلى الجدال حول الاشتراكية البرلمانية والديمقراطية الاجتماعية أو (الاشتراكية الديمقراطية)، مؤكدًا على ضرورة الحفاظ على معظم أجهزة الدولة القائمة في أي تحول باتجاه الاشتراكية، في تناقض تام مع ما أكد عليه ماركس في "الحرب الأهلية في فرنسا" ولينين في "الدولة والثورة" حول ضرورة استبدال الدولة الرأسمالية بهيكل قيادة سياسية جديد يُبنى من أسفل.


1- https://monthlyreview.org/2025/04/01/the-u-s-ruling-class-and-the-trump-regime/#lightbox/0/