نظر

خالد يوسف

القدس: الحياة اليومية في انتظار قدوم المسيح

2018.10.01

يوتيوبيا الأوضاع الراهنة بعد ربع قرن من أوسلو وعقد من «الرصاص المصبوب»

 

"لم أخرج من نابلس خلال الثلاث سنوات الأخيرة، نقاط التفتيش أصبحت صداعًا، أصبح خروج الشباب تحت سن الثلاثين مستحيلاً، لقد تم احتجازنا كرهائن، هناك دوريات تطوف نابلس كل ليلة. الشرطة الفلسطينية تفتح الطريق في الحادية عشرة مساء للجيش الإسرائيلي، الأمر أصبح مهينًا للغاية، نابلس هي السجن الكبير، هكذا أصبح لقبها هنا، لا يمكنني صنع قصص مصورة، من الذي يريد قراءة شيء عن هذا؟".

 

* رسام فلسطيني شاب يشرح للرسام الكندي جي ديليل واقعه اليومي الذي يمنعه من ممارسة الرسم بشكل متواصل، وذلك في أثناء ورشة يقيمها ديليل في جامعة القدس- صفحة 219 من رواية «القدس» المصورة.

 

يشعر جي ديليل الرسام الكندي الفرانكفوني بملل قاتل في أول ظهيرة له بالقدس الشرقية، يحاول أن يصنع كوبًا من القهوة، وحيدًا في المطبخ، يتابع شمس شرق أوسطية لافحة من النافذة. يحكي لنا أنه لم يرسم اسكتشًا منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ أنهى ثلاثيته الشهيرة عن كوريا الشمالية وبورما والصين. يخطف نظره «شكل» خزانات المياه السوداء فوق أسطح المنازل البيضاء بحي بيت حانينا المنتمي إلى الجانب الفلسطيني من المدينة المقدسة، شيء ما يجذبه نحو تلك الصورة التقليدية عن «الفقر الجميل». حالة شكلية أصيلة لرسام يبدو كورقة ناصعة البيضاء في علاقته بالشرق الأوسط كله، وليس فقط كل ما يتعلق بفلسطين والكيان الصهيوني في حقبة شديدة الضبابية.

بعد ما يقرب من 200 صفحة من روايته «القدس: حكايات من المدينة المقدسة»،  كان ديليل يدرك الحقيقة الأكثر مرارة في ما يتعلق بتلك الخزانات، الأمر يتعدى الحالة السطحية التي ألهمت الرسام الكندي والضيف الجديد على منطقة شديدة التعقيد في نزاعاتها؛ أدرك ديليل  أن الخزانات لا تحوي بداخلها ماءً بمقدوره التخفيف من حر أغسطس في القدس، ولكنه رمزية شديدة الإيحاء لما سيختبره ديليل على مدار عام كامل في المدينة، والتي وثقها على نحو مصور في  نحو 237 صفحة من الكوميديا السوداء، التي تنزف غرائبية وعبث كامن بأزقتها الضيقة. خصوصًا مع حقيقة أنه عن طريق تلك الخزانات يمكن التعرف عن هوية مستخدميها العرب، وطبقتهم الاجتماعية، وشكل الجحيم الذي يغلف حياتهم اليومية، خصوصًا في وجود أبراج المياه المرتفعة، التي هي ملك حصري لسكان المستوطنات التي تحيط ببيت حنينا من كل جانب، فيما تترك الخزانات السوداء للسكان الأصليين، معتمدين على قدومها من رام الله، تابعة للنظام المائي الأردني هناك، في أنابيب عتيقة يكسوها الصدأ في أغلب الأحيان.

مع كل صفحة يبدو ديليل أكثر وجومًا وهو الذي يبدو «زبونا» مثاليًّا للوضع في القدس، كونه رسام غربي، يعمل أبًا وأمًا في الوقت نفسه، وذلك لفتى في الخامسة من عمره وفتاة في الثانية من عمرها، وزوجًا لم يقم باختيار وجهته مطلقًا، تاركًا مصيره وموطنه المؤقت في يد زوجته الطبيبة عضوة منظمة «أطباء بلا حدود»، والتي أتت إلى الضفة الغربية ضمن الفريق الطبي للوقوف على الوضع الصحي هناك إلى جانب زيارة إجبارية مع توالي صفحات الرواية إلى قطاع غزة في أعقاب عملية «الرصاص المصبوب» في مطلع شتاء ونهاية عام 2008.

 

ديليل هو ذلك الغربي المثالي في مدينة مثل القدس؛ لا يحمل على كتفه دراسات وأفكار أكاديمية عن المكان؛ يبدو غير مكترث لأغلب ما يدور حوله؛ صبره قليل، ولكن دأبه أكبر. شغله الشاغل مع صباح كل يوم هو إيصال أولاده إلى الحضانة أو المدرسة حتى يمكنه التفرغ لرسم اسكتشاته حول المدينة، كمغامر مزيف، متسكعًا كصعلوك وفي صعلكته، يجد متعته -حتى لو أنكر هذا - في مشاعر التيه داخل طرق وأزقة تلك المدينة المعقدة. لا يؤمن بأي معتقدات دينية ثابتة؛ هو أقرب للبوذية في تفسيرها الغربي الحديث. لا يظهر مشاعر مصطنعة تجاه امتعاضه من التعقيدات التي تحيط بمدينة يسيطر عليها فكرة «المعتقد» في كل تفصيلة من تفاصيل حياتها، كل صامولة بكل سيارة، وكل مصعد تخرج منه أدعية الركوب في المباني التابعة للأحياء الفلسطنية، أو الآيس كريم الذي يتوجب خلوه من أي نوع من أنواع الخمائر المحرم تناولها أيام السبت في الحدائق التابعة للمناطق اليهودية الأرثوذكسية، والتعقيدات المبالغ فيها من الكنائس الست التي تتشارك في الإدارة والسيطرة على أركان كنيسة القيامة  أو تصنيفه مسيحيًّا من قبل الحرس التابع لجيش الاحتلال، والذي يمنعه من زيارة الحريم الشريف والمسجد الأقصى لنحو ثلاث مرات متتالية.

 

يوتوبيا الأوضاع الراهنة

ضيق ديليل الظاهري من «تعقيدات المعتقدات» في المدينة المقدسة يتحول مع كل صفحة إلى حلقة دراسية ثيولوجية أنثروبولجية ديموغرافية مصنوعة بأكبر قدر من بساطة العرض، ومتعة التناول. هو يجعل من نفسه في تلك الرواية طفلاً تتفتح عيناه على عالم شديد القدم، تتحكم به ثلاثة أفكار ومشاعر رئيسية أبعد من مجرد مظاهر الحجاب الإسلامي، أو غطاء رأس السيدات اليهوديات الأرثوذكس، أو كل طقوس الكنسية الأرثوذكسية الروسية الصارمة التي تضعها لزوارها، أو حالة الشلل الأسبوعية في كل الأماكن اليهودية المتشددة أيام السبت. أفكار ومشاعر تتعلق بالمحاور الثلاثة الهوية، والحياة اليومية، والحيرة. المحاور التي يبدو أنها غلفت الصراع السياسي والاجتماعي والعقائدي لمنطقة بأكملها لقرون طويلة، من قديم الأزل، وصولاً إلى أنباء المساء في مطلع خريف عام 2018 مع حوادث الطعن من جانب الشباب الفلسطينيين في مواجهة المستوطنين.

 

فكرة الهوية والتصنيف طبقًا لتلك الهوية واحدة من الأفكار المتكررة التي تنضح بها صفحات الرواية المصورة، فعلى حد قول أحد أفراد المنظمات غير الحكومية من المجتمع الغربي القابع في الضفة الغربية «أنت أحيانًا ما ترتدي» وأحيانًا أخرى «ما تأكله»، وفي الأغلب «أنت ما تحمله من سلاح»؛ مجموعات هائلة من الشفرات التي يتوه معها ديليل في الصفحات الأولى، ويصبح معها قرب النهاية خبيرًا، حيث يمكنه تحديد الفصيل الديني والطبقة الاجتماعية لمجموعة ما من البشر العابرين من أمامه (وهي

 

الشفرة التي لا تفلت هدفها أبدًا لدى تعرفه على مجموعة من المستوطنين الأرثوذكس المتشددين، يحملون بنادق خلف ظهورهم في جولاتهم العائلية، أو الحال نفسه بالنسبة لفك الشفرة العمرية للحراس من جيش الاحتلال، فالجنود عند الجدار الأمني العازل لا يتعدون العشرين من عمرهم، فيما يستقر عمر من هم في نقاط التفتيش عند سن الـ18 عامًا، خصوصًا عند «المنطقة هـ 1» على أطراف مدينة الخليل.

 

تحديد الهوية أمر حتمي مصيري في القدس، يجعل منك جلادًا أو ضحية أو شاهدًا صامتًا. الهوية ترسم الأدوار، والإيقاع اليومي؛ عند بائع البوظة، وفي مطار بن جوريون يصبح جواز السفر هو الفيصل في علاقتك مع السلطات الإسرائيلية وفي إمكانية قضاء ليلتك إلى جوار زوجتك وأولادك أو في غرفة التحقيقات التي تعني المكوث لساعات دون سبب. لكل شخص قصة في مطار بن جوريون، حيث يتم ترقيم جواز سفرك الغربي من الأرقام من 1 إلى 6، ليصبح الرقم الأعلى معناه أنك تمثل خطرًا محدقًا على الأمن. ديليل اكتشف قرب النهاية أنه كان يحمل الرقم 2 (مما يعني أنه لا خوف منه مع توخي الحذر).

للهوية علاقة وثيقة بالقصة الدينية، فتلك القصة بتنويعاتها المختلفة جزء  أساسي من تشكيل حياتك اليومية كالصلصال ورسم خطوط تلك الرواية أيضًا بشكل غير مباشر. قصة النبي إبراهيم تسهم في رسم محيط الحرم الشريف وحائط المبكى وكنيسة القيامة، القصة الدينية التي تخرج من ترانيم باخ التي تنطلق من الكنيسة اللوثرية، إلى حالة الحصار والعزلة التي يشعر بها السامرائيون (اليهود الفلسطينيون الأصليون). استقرار الشمس في أعياد الفصح اليهودية في المكان نفسه الذي شهد أول يوم من عملية الخلق يزيد من احتمالات قدوم المسيح خلال أسبوعين من تاريخه، أو جبل الزيتون الذي سينطلق منه نفير الخروج إيذانًا ببدء يوم الحساب، والذي سيبدأ مع أول صف من القبور القابعة على ربوة الجبل (ديليل يتمنى لصاحب القبر الأول شلومو التوفيق، ويوم حساب سهل عليه).

 

 

انتظار قدوم المسيح أسلوب حياة، وطريقة عمل، وحزب سياسي، وتوجه لا يتزحزح بالنسبة لكل من في القدس، وربما من يعيش خارجها (خصوصًا الإنجليين الأمريكيين والمجموعات الصهيونية الأمريكية الراغبة في تعجيل قدوم المسيح من خلال تقديم تبرعات تدعم وجود المستوطنين في المدينة حتى قدوم الساعة المرجوة). الجميع في القدس يبدو وأنه في انتظار المعجزة، ربما هي البقرة الحمراء التي تحمل معها علامات قيام الساعة، أو المعجزة التي ينتظرها بدورهم رواد الكنسية اليونانية، والذين يقومون في أعياد الميلاد بانتظار معجزة كل عام بحمل 33 شمعة غير موقدة، يتم اشتعالها تلقائيًّا دون تدخل بشري بمجرد اقترابها من قبر السيد المسيح، نار تلك الشموع لا يكوى بها أحد لمدة 33 دقيقة كاملة. حتى شبيه الممثل أنتونين أرتاو الذي يحذر الجميع من نهاية العالم في المقاهي والمطاعم بشكل عشوائي، حتى حديقة حيوان القدس تحمل هيكلًا لسفينة نوح، التي جمعت كل أصناف الحيوانات على ظهرها، وكأن الهدف الرئيسي لكل من تطأ قدماه القدس هو النجاة إليها، أو ربما منها.

تحدد الهوية أو المعجزة المرتبطة بها نوعية الجحيم الحقيقي في القدس، والذي يطلق عليه ضمنيًّا «الحياة اليومية». ديليل ينقلنا من عالم القصص الدينية إلى التأصيل الحقيقي لسياسات الفصل العنصري الممنهجة، دون وعظ، دون كلمات مغرقة في عاطفيتها ودون تراجيديات طاغية، كالتي تعج بها رواية «فلسطين» الشهيرة للأمريكي جو ساكو. منذ اللحظة الأولى لهبوط ديليل بيت حنينا ثم الخروج منها يكتشف ذلك الفارق بين شوارعها المهملة والقمامة التي تكتظ بها كمثيلاتها من الأحياء المنتمية للسكان الفلسطينيين، وبين الرفاهية التي تعيشها المستوطنات، والتي تحتل كل بورة وقمة كل تل في القدس. الرحلة الجهنمية التي يخوضها كل باص من المناطق العربية إلى نظيرتها في المناطق الإسرائيلية. الأمر يتجاوز نقاط التفتيش والمناظر فائقة التعاسة للجدار العازل، أو عملية الرصاص المصبوب بأكملها، إنه ظلام يتسرب إليك مع كل مربع رسم، مع كل مشوار يرغب فيه ديليل في قضاء حياة «طبيعية» (في تلك الحالة كونه أحد سكان بيت حنينا فإنه يعيش رحلة العذاب الفلسطينية).

يقدم ديليل القدس كيوتوبيا الأوضاع الراهنة المتجمدة (بعد 15 عامًا من اتفاقية أوسلو في توقيت أحداث الرواية). الرسام الكندي يقدم المنطقة حسب تفسير أوسلو على إنها حالة معاناة وربما «نصب» حقيقي، في ظل عشرات نقاط التفتيش التي تعج بها الضفة من كل جانب، والبؤس الذي تعيشه نابلس أو الخليل على نحو يومي مقابل الحياة الحديثة التي تعيش فيها تل أبيب. يعرض ديليل  كل هذا بسلاسة كاملة من خلال الجامعات والطلبة على الجانبين. رحلة ديليل نفسها الدائمة على مدار صفحات الرواية هي رحلة كل شاب نابلسي تحت الثلاثين، هي رحلة  للعبور فقط إلى «الجانب الآخر». 

 

 

 

الرحلة اليومية لديليل لتوصيل أولاده إلى المدرسة هي سرد كافٍ لطبيعة الحياة اليومية لمنطقة تبدو في حالة انتظار لإعلان نهاية المطاف، وصوت النفير الطويل الذي سينهي كل الآلام. قالها سائق ديليل الخاص عندما أبلغه بأن القدس مثلها مثل بقية الضفة الغربية هو مكان «مدمر للأعصاب»، حتى في ظل رحلة البحث عن «السلام الداخلي» لكل حجاجها من جميع الأطياف. السائق هنا لا يتحدث عن صعوبة العثور على المياه أو القوت اليومي، بل يشير إلى جحيم نقاط التفتيش. الهدف الأساسي من زرع ذلك الجحيم هو السؤال الذي طرحته إحدى العاملات في «أطباء بلا حدود» بشأن إمكان إقامة دولة فلسطينية بقولها «كيف يمكن بناء دولة في مثل هذه الظروف؟».

 

 

الحياة اليومية قبل القيامة

تفرض الحياة اليومية غرائبيتها الخاصة في القدس؛ الاقتصاد والديموغرافيا، والحاجة، وميكانيكا السيارات يفرضون واقعهم الخاص. المستوطنون يصلحون سيارتهم عند السكان الفلسطنيين بحي وادي الجوز لأنهم الأرخص ثمنًا، والطبقة المتوسطة الفلسطينية عددها يتزايد داخل المستوطنات نفسها لأنها المكان الأكثر اقتصادية للسكن. الحياة اليومية تفرض على الفتيات الفلسطينيات تعلم العبرية من خلال ثلاث عبارات هي «أوراقك - افتح السيارة - تحرك». الحياة اليومية عملية عبثية لإخلاء المستوطنات من قبل الجيش، والذي يقوم بحماية المستوطنين أنفسهم في أثناء عملية إعادة البناء. الحياة اليومية هي الاستفادة من عرض مطعم البيتزا في المناطق اليهودية في الخليل، والتي تتيح حصول كل جندي على بيتزا صغيرة مجانًا مع كل بيتزا عائلية ينوي شراءها. الحياة اليومية هي وجود أبراج المراقبة بجانب مقابر الفلسطينيين في بيت لحم، حيث يعتقد أحد الشباب مازحًا «قوات الاحتلال بحاجة إلى مراقبة موتانا حتى يتأكدوا من عدم عودتهم إلى الحياة مجددًا».

الحياة اليومية هي دفع المناطق الفلسطينية لمقدار الضرائب ورسوم القمامة نفسها التي تدفعه المستوطنات غير القانونية، لكن دون الحصول على تلك الخدمات. الحياة اليومية هي التي تفرض على جي ديليل شرب القهوة من الأماكن التي يشن منها الطيران الإسرائيلي غاراته ضد زوجته القابعة لمساعدة أهالي غزة في أثناء عملية الرصاص المصبوب. الحياة اليومية هي التي تفرض على الكنيسة الروسية تنفيذ عملية ترميم قبابها السبع بمواد كيمائية سامة معينة يقوم باستخدامها محكوم عليهم بالإعدام قادمين لتوهم من روسيا. الحياة اليومية هي الباص الفلسطيني الوحيد الذي تسمح قوات الاحتلال بعبوره شهريًّا داخل مستشفى الكنيسة اللوثرية، حتى يتلقى الأطفال العلاج هناك. الحياة اليومية هي طلب المستوطنين المتزايد على زجاج السيارات البلاستيكي النوع، والذي يتحمل أكثر الحجارة التي تلقى عليهم من السكان الفلسطينيين، الحياة اليومية هي ما قاله مهاجر برازيلي يهودي حديث العهد بالوضع في الأراضي المقدسة بإن «الناس هنا لا يعرفون كيف يستمتعون بحياتهم».

 الحياة اليومية هي ما أشارت إليه شارلوت الفرنسية الساكنة بأحد المستوطنات بأن أكثر الأشياء إثارة للحزن بالنسبة لها أنها «اعتادت على شكل الجدار العازل، لم تعد حتى تلحظه»، والذي لم يعد يسبب لها مشكلة أخلاقية من أي نوع. الحياة اليومية أيضًا هي ما قاله زوجها الفلسطيني المسيحي أندريه من أن وجوده في مسكنه الحالي يتيح للفلسطنيين إعادة استيطان المستوطنات من جانبهم. الحياة اليومية هي النوافذ المكسورة بفعل الرصاص، وحالات التبول اللا إرادي التي تصيب المراهقين الذين تتعرض منازلهم للتفتيش في منتصف الليل، أو أطفال البدو الذين يخوضون رحلة جحيمية أخرى تستغرق ساعتين للوصول إلى مدارسهم بعد قتل قوات الاحتلال للحمير؛ وسيلة التنقل الرسمية للبدو من خيامهم إلى بقية أنحاء القدس. الحياة اليومية هي انتظار المعجزة في الموافقة على «التنسيق الأمني» الذي يسمح قوات الاحتلال بحدوثه حتى يمكن للغربيين العبور من الضفة إلى غزة. الحياة اليومية هي حالة رفض «التنسيق» حيث يتحتم السفر إلى الأردن، ثم إلى القاهرة، ثم إلى معبر رفح حتى يمكن دخول غزة. الحياة اليومية هي اتخاذ طريق رأس الرجاء الصالح الفلسطيني.

 

 

تبدو اختلافات الحياة اليومية في الخليل محصورة في أن الفلسطينيين ليس من حقهم استخدام أراضيهم الزراعية في الخليل. كما أن هناك طرقًا محجوزة للمستوطنين ممنوعة على الفلسطينيين؛ مسموح فيها للمستوطنين والجيش بالسير والقيادة، ورسم نجمة داوود على المتاجر لتأكيد وجودهم في المنطقة، وفي مفارقة الكتاب الكبرى هي أجواء مشابهة بشكل عكسي -حسب قول جي ديليل- لألمانيا في أحياء الجيتو في الثلاثينات.

 

 

طقوس الحيرة

هذه الحياة اليومية تثير عند جل ديليل كل علامات الحيرة، مع كل سؤال لابنه عن ماهية الحرب، ليستعير ديليل جوابه من أحد أفلام جان لوك جودار «الحرب قطعة من الحديد تستقر في قطعة من اللحم».  الحيرة بخصوص سبب وجود الحياة الطبيعية في مدينة مثل تل أبيب. الحيرة الأخلاقية بخصوص شراء حفاظات الأطفال من متاجر المستوطنات فائقة الفخامة.

والحيرة بخصوص نوعية السؤال الذي قد يجبره على البقاء تحت طائلة التحقيقات لساعات في مطار بن جوريون. عن الفتيات الفلسطينيات العاجزات عن رسم الأشخاص خلال ورشة في جامعة القدس، إما لأسباب موضوعية أو عقائدية. الحيرة في كل مرة يتم فيها شرح موقف القدس من كونها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، لكن دون اعتراف دولي بذلك.

 

 

الحيرة هي المشاعر الرسمية التي يشعر بها ديليل في ديستوبيا الروايات المتجاورة التي تعج بها القدس، روايات مجموعة «كسر الصمت» التابعة لجنود سابقين في جيش الاحتلال، عازمين على فضح الممارسات والتجارب العصيبة التي يمر بها ويتسبب بها الجيش الإسرائيلي خلال عملياته. «كسر الصمت» تقوم بجولتها الأسبوعية السياحية داخل إحدى المستوطنات لترويج برنامجها.

 ولكنها الحيرة التي تصيب ديليل عند أخذه الجولة نفسها ولكن هذه المرة برفقة أحد المستوطنين، والتي تصبح فيها مذابح الفلسطينيين لليهود هي الموضوع الرئيسي، وتلاوة صلوات المباركة حول «ضريح» باروخ جولدشتاين، منفذ مذبحة الحرم الإبراهيمي عام 1994، حيث يرقد «القديس» باروخ حسب قول شاهد القبر. الحيرة بخصوص ثمن قبعات الشترايمل اليهودية والتي يبلغ ثمنها 400 دولار. الحيرة بخصوص طبيعة حياة نبيلة جليسة الأطفال الفلسطينية التي مات ابن عمها بطعنات مستوطن إسرائيلي لا يؤمن بوجود الفلسطينيين، وحقيقة أنها تلقت إخطارًا بوجوب إخلاء وهدم منزلها، ضمن منازل عديدة في الحي نفسه. إنها الحيرة التي يظهرها ديليل بأن حياته التي أنهى فيها كتابه السابق في كوريا الشمالية كانت أقل تعقيدًا عن تلك الحياة في القدس. إنها الحيرة نفسها التي تصيبه في آخر مشوار له قبل الرحيل مع أسرته بعد عام كامل في المدينة المقدسة، عندما شاهد مستوطنًا يحتل بيتًا فلسطينيًّا خاليًا مهدمًا، معلنًا أن هذا المنزل أصبح ملكه بوضع اليد.

 

لا تحوي الصفحات الأخيرة من رواية «القدس» الكثير من الكلمات، وربما لا تحوي الكثير من الأحداث، فيها ما يشير إلى هروب صامت لجي ديليل من المكان الذي يعلم الجميع بذهابه إليه؛ هروب حزين من واقع يومي بدأ فيه ديليل بالكاد في فهم الوضع وصنع الأصدقاء، مكتفيًا برسم أخير لطائرته وهي تترك المدينة وسمائها حالكة السواد مع توقيعه «تاريخ انتهاء الرواية: 2011».