قضايا

محمد بامية

القضية الفلسطينية وحل اللادولة

2024.07.27

مصدر الصورة : آخرون

المترجم: محمد السادات

 

الدول هي جذور المشكلة وزوالها هو الحل

 

في 28 يناير 2024، استضافت مجموعة من المؤسسات المحلية فعالية كبيرة في مدينة فيكتوريا بكندا لمناقشة "حل اللادولة" للمنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. إن فكرة اللادولة كانت مفهومة على أنها تتصدر فضائل المنظمات الحرة، والولاءات المتعددة، والنظام الحر، إذ تعد جميعها أثقالًا موازنة للسيطرة المركزية، والدول العسكرية، والولاءات العصبوية، والتعبئة المستمرة للشعب. إن انتهاج حل "اللادولة" قُدِّم على أنه أكثر إخلاصًا للأنماط التاريخية للحياة في هذه المنطقة، وأيضًا لم يكن أقل واقعية من الدولة -المنهاج القائم- الذي فشل فشلًا متكررًا وكارثيًّا.

نظمت الندوة كرد على تساؤلات ومداخلات محمد باميه ويوري جوردان. إذ نبعت من مفاهيم أناركية للحياة السياسية الاجتماعية التي رأت أن الدول هي جذور المشكلة وزوالها هو الحل. غطت المناقشة نطاقًا واسعًا من القضايا. تلك القضايا التي شملت منطق الدولة وحدودها، وطبيعة الانعتاق الجماعي للإسرائيليين والفلسطينيين بالطرق التي تنخرط فيها الدولة، ودور تقاليد التطوع الاجتماعي في المجتمعات المنظمة ذاتيًّا، مثل روجافا والتجارب الثورية الأخرى في المنطقة، تلك التجارب ربما يمكنها أن تمثل عناصر نموذجية، ومكانًا ذا صراعات إيكولوجية في هذه الصيغة، وتحديًا تشكله مختلف الأصوليات.

إن الاهتمامات المنبثقة من هذه الفكرة تنبع من ذلك الجزء المعني بفشل البدائل. الحل المفترض أنه الأكثر واقعية، حل الدولتين يبدو أنه بلا أمل في الوصول إليه. حتى أن الحلول الأخرى بعيدة عن الوصول، حل الدولة الواحدة لديه ميزات نسبية حيث يصف الواقع الحالي على الأرض، كما لاحظ عدد من المعلقين أن حل دولة واحدة موجودة بالفعل هي دولة فصل عنصري وبالتأكيد ليست دولة ديمقراطية.

إن حل اللادولة يبدو أيضًا بعيدًا عن النوال، بل لا يمكن تصوره. على الرغم من ذلك تميل الأفكار الراديكالية إلى اكتساب صدى حينما يتبين أن الأساليب الواقعية هي أساليب شبحية، وهذا ما كان عليه الوضع قبل الحرب الحالية. "الواقعية" تعني التنفيذ داخل الحدود الممكنة الواضحة، لكنها في هذه الحالة تقود إلى حائط سد. فكرة اللادولة إذن تواجه الأفق المسدود لكل من: واقع الإبادة الجامعية غير المقبول وقصور تقليد "الواقعية" الذي لن يقود إلى أي مكان عدا الحائط المسدود.

هل اللادولة فرضية واقعية؟ هنا نحتاج إلى أن نتدبر أن الوقائع الجديدة غالبًا ما تنتج من خلال تلك التي تعتزم تجاهل الواقع الموجود. ففي أيامها الأولى لم تظهر الصهيونية على أنها خطة واقعية ولا حتى موجات المقاومة الفلسطينية لها. وعلى نطاق عالمي فإن الحركات الثورية الناجحة خلال القرن العشرين كانت غالبًا تتشكل وتُقاد بواسطة أشخاص لا تهتم للواقعية، هؤلاء الذين فهموا أنه يستلزمهم العمل داخل مخطوطة النظام الشنيع القائم. لكن الدعاوى من أجل حل ثوري تميل في المواقف المتفاقمة إلى خلق رفض راديكالي للواقع غير المقبول والعاجز.

علاوة على ذلك، فإن واقعية مفهوم اللادولة متجذرة في تاريخنا الاجتماعي، بالإضافة إلى الحاضر حيث أن المجتمع والدولة لا يندمجان. في شكلها الأولى، مفهوم اللادولة للحياة الاجتماعية ليس غريبًا عن الواقع التاريخي لهذه المنطقة الضخمة التي ندعوها اليوم "الشرق الأوسط": هي منطقة قد كانت دائمًا ما تؤدي مهامها بشكل متجانس كمنطقة، في حين أن حدودها لم تكن تعني إلا شيئًا بسيطًا حيث كانت حرية الحركة هي المعتاد، ولم تكن السيادة فكرة متعصبة. نتيجة لذلك، خصوصًا بالنسبة إلى الثقافات الحضرية للمنطقة تعاملت على أنها شبكة من الاقتصاد الاجتماعي والاتصال الثقافي وأوجدت حياة طائفية مزدهرة، حيث لم يشعر مجتمع ديني أو إثني بحاجة ملحة إلى الحصول على دولته الخاصة. على النقيض لم تعمل المنطقة أبدًا بشكل جيد تحت نظام الدولة الحديثة، في شكليها الاستعماري وبعد الاستعماري. يعيش الشرق الأوسط حاليًّا واحدة من أكثر فتراتة تفككًا في التاريخ، بخمسة حروب رئيسية (غزة، السودان، سوريا، ليبيا، اليمن)، وعدد لا يحصى من الحروب الأخرى: الديكتاتوريات العربية، وحكومة أقصى اليمين الإسرائيلية، وتفشي معدلات الفساد في كل مكان. كل هذا هو إرث الدولة الحديثة، التي وظيفتها الرئيسية -بعيدًا عن المحاباة والنهب- قد كانت تعزيز الإرهاب الجماعي، والعسكرة والحرب. لماذا لدينا حرب الآن؟ إنه لنفس السبب الذي حدثت له الحروب، تشتعل الحرب بسبب القدرة على بدأ حرب. وكنتيجة لهذا المبدأ، فهؤلاء الواثقون بامتلاكهم هذه القدرة سيميلون إلى عدم الشعور بضرورة العدالة كطريق إلى السلام. لإن غياب السلام ووجود الدولة لهما متممان بعضهما لبعض.

بينما تُقدَّم فرضية اللادولة على أنها فكرة أخلاقية متجذرة في التاريخ الاجتماعي فهي لا تنطوي بالضرورة على رفض كل الحلول الأخرى. بل إن السؤال هو أي الحلول هي الأفضل. على سبيل المثال، حل الدولتين يبقى الأفضل بالنسبة إلى الاحتلال. لكن حل الدولة الواحدة أفضل من حل الدولتين (ليس هنالك داعٍ إلى كثافة سكانية لترتيبات "الترحيل" تعقيد "الأمن"، تشويه جغرافيا التحركات، تصريحات خاصة للطرق، وهلم جرًّا). وحل اللادولة هو أفضل من حل الدولة الواحدة، لأنه يتجاوز الأداتية الشديدة للسلطة التي خلقت تلك الأزمة التاريخية التي تحول دون استعادة المنطقة لتاريخها في التحركات المفتوحة والحياة الطائفية ومراكز السلطة الرزينة. يمكن أن يكون هذا البديل الإنساني للدول التي تفرض نفسها الآن على السكان المعادين لها، فهي تخدم بشكل كبير كشبكة كليبتوقراطية وتشق طريقها عبر عنف غير قابل للمساءلة.

إن مفهوم اللادولة للحياة الاجتماعية ربما يبدو فكرة تجريدية، لكنها هي ما يفعله الشعب المضطهد أو المتجاهَل من الدول، لأن هذا ما يجب عليهم فعله. على سبيل المثال، لم يختفِ الفلسطينيون بعد 1948، وهذا ما قد افترضه جون فوستر ديلوز أنه سيحدث للفلسطينيين بعد جيل واحد. على النقيض من ذلك، أعاد الفلسطينيون تنظيم مجتمعهم بعد 1948، عندما تآمرت عليهم كل القوى، وبدون مساعدة من أي دولة. أسلوب إعادة توظيف الأنماط الثقافية لحياة الفلاحين الفلسطينيين لتنظيم الحياة في مخيمات اللاجئين لعقدين بعد 1948، تأسيس المجتمع المدني الفلسطيني في الشتات بين 1967-1982، الانتفاضة وهلم جرًّا، كانت تلك جميعها علامات على القدرة على التنظيم الذاتي. بإيجاز سريع، نحن نعرف كيف نعيش بلا دولة. والفلسطينيون ليسوا فريدين في هذا الأمر. الشعوب عبر هذه المنطقة لديهم تصوراتهم عن حل اللادولة لمشاكلهم المحلية، وغالبًا ما يرون دولهم على أنها مشكلة أخرى يجب عليهم تجاوزها.

حل اللادولة أيضًا هو شكل من أشكال التحرر، وفي كثير من الأحيان هو أكثر تحررًا مما تعرضه فكرة الدول الديمقراطية. على سبيل المثال، الإسرائيليون والفلسطينيون يمكن لكليهما أن يكونا متحررين من تعريف أنفسهم من منطلق مصطلحات هوية أولية واحدة، التي يتم استبدال بها مع الوقت ولاءات متعددة بسبب البراجماتية والحاجات اليومية. تنطوي اللادولة أيضًا على وعي ضد الاستعمار: يدرك من ذلك أن المشكلة لا تكمن في بعض تجريدات تدعى "الثقافة"، لكن تكمن تحديدًا في نظم الدولة التي بنيت وتعززت بالإمبريالية الأوروبية.

إن السجال حول حل اللادولة اليوم لا يحدث من فراغ. يجب أن نتأمل تطورات الإيديولوجيات المحيطة، وأيضًا تضخم الحركات الدينية ودورها السابق في الصراع العلماني. لكن التحليل الأنسب هنا يركز في المصادر المؤسِّسة للمشكلة أكثر من التركيز في أعراضها التي يعد التعصب الديني أحدها. الصراعات التي خلقت بواسطة الدول أو بواسطة طرق التفكير التي ترى الدول على أنها أساسية، ضرورية، وقادرة على أن تكون أفضل بدلًا من كونها منبعًا للإرهاب، والموت، والدمار، سوف ينظر إلى المجتمع بدلًا من الدولة على أنه مصدر المشكلة. لكن هيكل التطرف الذي نراه في المجتمع على أنه عرض لشيء ما آخر، متأجج، ومتأزم بعمق حيث لا تستطيع دولنا أن تحله. من هنا لدينا مساران: مصداقية متساوية وراديكالية متساوية، اللادولة التي تتصدى لجذور المشكلة، أو لأحد أشكال الدولة الفاشية. الحل الأخير يبدو واضحًا لنا لوهلة في كثير من أجزاء العالم، والآن يشمل إسرائيل حيث توجد قوات قومية متطرفة، وُلدت في مناخ من الصراع اللانهائي. الآن يجتمع في حكومة مسلحة حتى ضروسها، لا تبدي ندمًا للقتل الجماعي بينما تنعم بدعم الإمبراطوريات الحالية التي جعلت تلك المذابح ممكنة.


محمد باميه: أستاذ علم الاجتماع بجامعة بطرسبرج، وعضو بالمجلس العربي للعلوم الاجتماعية (ACSS). قام بالتدريس في عديد من الجامعات، منها: جامعة نيويورك، جامعة جورجتاون، وجامعة ماساتشوستس. محرر في International Sociology Reviews. من مؤلفاته:

 عوالم الحياة في الإسلام: براجماتية الدين (أكسفورد 2019)؛ العلوم الاجتماعية في العالم العربي: أشكال الحضور (ACSS 2015)؛ والفوضى كنظام: تاريخ ومستقبل الإنسانية المدنية (رومان وليتلفيلد 2009).