دراسات

راجي مهدي

تاريخ تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الجزء الثاني

2024.07.20

مصدر الصورة : الجزيرة

تاريخ تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الجزء الثاني

 

لقد أسهبنا في تفصيل مرحلة الأردن لأنها كانت المرحلة المفصلية في المسار التاريخي للجبهة الشعبية، فقد انتهت الجبهة من المسائل التنظيمية والأيديولوجية وهي على شفير إطلاق الحرب الأهلية في الأردن، الحرب التي انتهت بهزيمة فاجعة للثورة الفلسطينية وفي القلب منها اليسار، هزيمة وقفت أمامها الجبهة طويلًا بعد نقل قواعدها إلى لبنان ودفعتها إلى التصرف بحذر وتردد في بعض الأحيان، وأدت إلى انشقاق آخر تحت اسم "الجبهة الشعبية الثورية" بقيادة أبو أحمد يونس، الذي اتهم قيادة الجبهة باليمينية ووسم الجبهة بأنها تنظيم للبرجوازية الصغيرة. 

عقدت الجبهة مؤتمرها الثالث في 1972 وقد أجرت مراجعة طويلة للأحداث في الأردن كان أهم عناصرها هو فشل اليسار الفلسطيني أو عدم اهتمامه بإرساء تحالف مع الحركة الوطنية الأردنية والحلول محلها وإيلاء كل الاهتمام للعمل العسكري من دون عمل سياسي دؤوب بين الجماهير الأردنية، لذا مرت المذبحة الأردنية دون أن يجد حسين أي مقاومة حقيقية من الشعب والجيش الأردنيين. قد يكون هذا التحليل صحيحًا لكن لا بد من عدم إغفال أن اليسار الأردني ومن الأساس الحزب الشيوعي الأردني كان رافضًا للعمل العسكري، في حين اعتبر جزء من الشيوعيين الأردنيين أن العمل الحقيقي لا بد أن يكون في الأرض المحتلة نفسها غير أن كل المحاولات لإرساء شبكة تنظيمية في الضفة الغربية والقطاع كانت تواجه ضربات هائلة جعلت الاستمرار في المحاولة شديد الكلفة بشريًّا وماديًّا.

كانت إحدى النقاط البارزة في مؤتمر 1972 هي إدانة تكتيك خطف الطائرات والتخلي عنه، وفصل وديع حداد من المكتب السياسي، غير أن بسام أبو شريف يؤكد في كتابه "وديع حداد: ثائر أم إرهابي" أن قرارًا قد اتخذ بألا يقوم فرع العمل الخارجي بأي عملية إلا بعد الموافقة السياسية من جورج حبش حصريًّا، ما يدعم هذا الخط أن فرع العمليات الخارجية قد استمر في العمل وأن جزءًا من العوائد المالية قد صب في خزائن الجبهة وفي أوقات بالغة الصعوبة على الجبهة من الناحية المالية.

بينما تمترست الجبهة الشعبية على يسار الثورة الفلسطينية، كانت هزيمة الأردن فرصة اليمين الفلسطيني للعمل على تسوية. وبعد حرب أكتوبر تقدمت الجبهة الديمقراطية ببرنامج النقاط العشر الشهير الذي كان أول إفصاح رسمي عن الحل المرحلي الذي اعتمده المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورة 1974. انسحبت الشعبية من دورة المجلس وشكلت جبهة رفض الحلول الاستسلامية وأدانت سعي منظمة التحرير للمشاركة في مؤتمر جنيف القاضي بحل الصراع على أرضية قرار مجلس الأمن رقم 242.

شهدت مرحلة لبنان تبدلات عميقة في المواقف السياسية للجبهة، ففي حين رفضت الحل المرحلي المتمثل في النقاط العشر المطروحة عام 1974، فإنها عادت عام 1979 لتقبل بالحل المرحلي غير أنها قد حددته تحديدًا صارمًا بأنه يتضمن أي أرض تحررها الثورة الفلسطينية وتقيم عليها دولتها ومنها تستكمل التحرير. هذا التحديد يتناقض مع سعي اليمين الفلسطيني إلى حل الدولتين عبر المفاوضات وهو الخطر الذي حذرت منه الجبهة منذ مطلع السبعينيات خاصة مع بروز مساعي السادات التصفوية وتشكُّل محور رجعي يسعى إلى التسوية السلمية.

في هذا الوقت كانت الجبهة تمتلك علاقات متباينة مع الأقطار الأربعة: سوريا والعراق وليبيا والجزائر، وبينما كان العراق المموِّل الأول للجبهة بعد صعود البعث في 1968، فإنها تلقت أموالًا من ليبيا، بالإضافة إلى شحنات سلاح من كلا البلدين بينما كان الدعم الجزائري سياسيًّا فقط. على كل حال، لم تُخضع الجبهة الشعبية قرارها السياسي لمتطلبات التمويل الذي كان إحدى المشاكل الدائمة التي تم التعويض عنها جزئيًّا بنشاط جهاز العمل الخارجي الذي كان يطالب مقابل الرهائن بفدًى مالية بالإضافة إلى الإفراج عن رهائن للجبهة.

كان هامش المناورة أمام الجبهة ضيقًا، من خلفها كانت فتح التي سيطرت على أموال منظمة التحرير وتلقت دعمًا خليجيًّا هائلًا بالإضافة إلى أن معظم مؤسسيها وكثير من أعضائها ينحدرون من العاملين في بلدان الخليج - ومن أمامها نظام عربي رسمي متهالك ومتشبث بما تمنحه الإمبريالية من فتات التسويات السلمية. في حين كان الانقسام في المعسكر الاشتراكي حادًّا، وقد كانت الجبهة أقرب بحكم ظروف تكوينها إلى الماوية غير أنها منذ بداية السبعينيات سعت إلى منافسة فتح في العلاقات مع السوفييت، تلك العلاقات التي نسجها عبدالناصر حين اصطحب عرفات في إحدى زياراته للاتحاد السوفييتي. وقد يكون الإعلان عن توقف العمليات الخارجية خطوة تكتيكية لكسب ود السوفييت الذين لم يقتنعوا بجدوى تلك العمليات، مع هذا لم يمتنع جورج حبش عن توجيه نقد لاذع إلى الموقف السوفييتي من تقسيم فلسطين. كما وجه نقدًا إلى التحول الذي حدث في الصين بعد ماو.

قد يكون الاختراق الأهم الذي حققته الجبهة الشعبية على صعيد الاتصال بالمنظمات الماركسية قد حدث خارج المعسكر الشرقي، تحديدًا منظمات العمل المباشر كالجيش الأحمر الياباني ومنظمة بادر ماينهوف الألمانية، وغيرها من الجماعات التي ظهرت كانشقاقات في الأحزاب الشيوعية الأوروبية بدافع من انتشار الجيفارية والحرب الفيتنامية والانتفاضة الطلابية في 1968، وقد قامت الجبهة وتحديدًا من خلال وديع حداد باجتذاب عديد من كوادر هذه المنظمات للاشتراك في عمليات للجبهة وتدريب عناصر هذه المنظمات في معسكراتها في الأردن ثم لبنان.

في لبنان كان الهدف الإستراتيجي للجبهة الشعبية هو تعميق التلاحم مع الحركة الوطنية اللبنانية وفي القلب منها اليسار، بهدف حماية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، كان السقف ينخفض، غير أن اليمين اللبناني بادر بإشعال الحرب الأهلية لتجد الجبهة الشعبية نفسها في أتون قتال دامٍ، تخوضه كإحدى القوى المؤسسة في القوات المشتركة بين الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية. وبينما كان الحسم يتجه لصالح القوات المشتركة، تدخل الجيش السوري وحافظ الأسد لفك المشنقة عن رقبة اليمين اللبناني مساهمًا في حصار وإسقاط تل الزعتر، بعدما كان قد أحجم عن تقديم الغطاء الجوي لوحدات سورية تحركت لدعم الفدائيين في الأردن. وقف جورج حبش وقتها في قاعة جمال عبدالناصر في بيروت قائلًا إن رابين صرح يوم 13 مايو 1976 بأن "القوات العاملة تحت قيادة سوريا في لبنان قد قتلت عددًا من مخربي فتح وجبهة الرفض أكثر مما قُتل من المخربين في الصدامات مع إسرائيل على امتداد العامين الأخيرين"، ليضيف حبش صارخًا: "خسئ النظام السوري العميل". سعى الأسد بتوافق عربي غربي إسرائيلي إلى نزع سلاح الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية وقطع خطوط الإمداد عبر الحدود السورية، كان الأسد معاديًا في العلن لسعي عرفات نحو تسوية منفردة لكنه كان في الحقيقة يسعى إلى تدمير القرار الفلسطيني المستقل، وهذا ما يفسر أنه خرب المحاولة التي قامت بها الجبهة الشعبية بالتعاون مع الديمقراطية وبقية فصائل الرفض في منظمة التحرير لمواجهة سيطرة عرفات على المنظمة خلال دورة المجلس الوطني المنعقدة في دمشق في 1979 حين أوعز إلى وكلائه -الصاعقة والقيادة العامة- بالانضمام إلى عرفات في اللحظة الحاسمة. لم يكن النظام العربي راغبًا في قرار فلسطيني مستقل، لكن عدم رغبته كانت أشد حين يتعلق الأمر بصعود اليسار.

بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وما نتج منه من إجلاء الثورة الفلسطينية عن بيروت، وفي مقابل خروج عرفات إلى تونس، اختارت الجبهة الشعبية البقاء على حدود الوطن، كان الخيار السوري سيئًا لكنه كان الخيار الوحيد المتاح. كان الوجود في سوريا يعني تحجيم عمل الجبهة العسكري تمامًا، لكنه كان يعني توفير اتصال بالجزء المتبقي من الجسم العسكري في لبنان، وما إن بدأت حرب المخيمات التي شاركت فيها الجبهة الشعبية ضد حركة أمل وحلفائها السوريين حتى قررت قيادة الجبهة الانتقال إلى العراق لتفادي أي رد فعل من السلطات السورية، كانت حرب المخيمات حربًا كريهة بالنسبة إلى الجبهة الشعبية، اقتتل فيها الفلسطينيون على خلفية استقطاب عربي حاد، وكان انخراط الجبهة فيها مدفوعًا بعاملين، أولهما إنقاذ ما تبقى من الوجود الفلسطيني المسلح في المخيمات، والثاني فك طوق الحصار الذي ضربته أمل وحلفاؤها حولها.

كانت الثمانينيات الزمن الأكثر قسوة بالنسة إلى الجبهة الشعبية، الصين والمعسكر الشرقي يتراجعان كلٌّ على طريقته، تم تشتيت المقاومة الفلسطينية، عرفات مدعومًا من الرجعية العربية يهرول في اتجاه التسوية، كان السقف ينخفض أكثر، وكان ضيق هامش المناورة أمام الجبهة يرجع إلى ظروف موضوعية تخص الوضعين الإقليمي والدولي غير أن عوامل ذاتية قد أعاقت الجبهة عن إيجاد مسار بديل.

جزء من هذه العوامل يمكن رصده بالاطلاع على التقارير السياسية للمؤتمرات العامة للجبهة، خصوصًا الفترة بين المؤتمرين الثاني والسادس. إذ كانت الجبهة قد تبنت هدف التحول إلى حزب الطبقة العاملة، حزب ماركسي لينيني، ليس على مستوى الشعارات فقط لكن أيضًا على مستوى البنية والممارسات، وبالرغم من التقدم على مستوى البناء الداخلي للتنظيم فإن الجبهة ظلت حبيسة جدران البرجوازية الصغيرة ككل منظمات الثورة الفلسطينية، يرجع هذا أساسًا إلى طبيعة أوضاع الطبقة العاملة الفلسطينية تاريخيًّا وتشتتها، كما يرجع في جزء منه إلى أن جزءًا مهمًّا من الكادر القيادي للجبهة ظل إلى حد ما غير قادر على استيعاب الماركسية وهضمها بل وفي بعض الأحيان متشبعًا بالتراث القومي المعادي للماركسية. بالطبع لم تتوفر للجبهة فرصة الانكباب على إعداد كوادرها نظريًّا، لأن تلاحق الأحداث والدور الرئيسي الذي اضطلعت به الجبهة جعل قيادتها وكوادرها غير قادرين على إنجاز برامج تثقيف وتأهيل نظري وظل إنتاج الوثائق مسؤولية حلقة ضيقة على رأسها جورج حبش وغسان كنفاني حتى استشهاده، كما أن معالجة الأوضاع الفلسطينية احتاجت حلولًا خلاقة لوضع اجتماعي ووطني مركب وفي ظروف إقليمية ودولية معادية لإستراتيجية التحرير الكامل التي تبنتها الجبهة. بالإضافة إلى هذا، لم تستطِع الجبهة الشعبية إطلاق حرب الشعب طويلة الأمد التي تبنتها منذ التأسيس، ولم تتناول وثائقها التاريخية هذا الفشل الذي كان فشل الثورة الفلسطينية عامة، صحيح أن الجبهة قد استطاعت وضع قوى جبارة في المواجهة مع الصهيونية غير أن تلك القوى لم تلتحم بالفعل في حركة جماهيرية أوسع تشكل قاعدة حرب تحرير شعبية. هذا الفشل راجع في جزء منه إلى عوامل ذاتية تخص غلبة العنصر البرجوازي الصغير، كما تعود في جزء منها إلى فشل اليسار العربي في خلق أوضاع ثورية في دول الطوق تحديدًا، تمثل قاعدة انطلاق لا بد منها لأي حرب تحرير في مواجهة احتلال استيطاني اقتلاعي من هذا النوع.

 أوسلو وما بعدها

 كان الخروج من بيروت بمثابة نهاية للثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1965 وتبلورت بعد هزيمة يونيو 1967، وبينما سعت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير إلى البحث عن أفضل السبل للتسوية، وراح عرفات يقلب في الدفاتر الأردنية والمصرية في مواجهة رغبة سوريا في احتكار الورقة الفلسطينية، كانت الجبهة تهاجم بعنف هذه الخيارات باعتبار أنها تساوق واضح مع مخططات تصفية القضية الفلسطينية، وقد ظن حبش أنه في الإمكان بناء محور بديل اعتمادًا على سوريا وبدعم ليبي، غير أنه كان يدرك تمامًا أنها دعوة محفوفة بالمخاطر، لأنها قد تعني الإذعان لنظام برجوازية صغيرة آخر، على أي حال، كان هذا الخيار هو المتاح الوحيد للجبهة وقواتها العسكرية في المنفى لأن الخيار الآخر يعني التصفية مباشرة.

كان أفق العمل في الأرض المحتلة شبه مسدود، غير أن الانتفاضة الأولى طرحت إمكانيات جديدة للعمل، وبينما كان عرفات يعتبر أن الانتفاضة هي فرصته للخروج بتسوية مشرفة، كان حبش يراها فرصة تسمح بخلخلة قبضة الاحتلال بما يتيح للمنظمات الفلسطينية بناء قواعد لها على الأرض المحتلة.

في دورة المجلس الوطني المنعقد بالجزائر عام 1988 أعلن عرفات قيام دولة فلسطين على أراضي 1967، لم تعترض الجبهة على إعلان الاستقلال غير أنها هاجمت بشدة البرنامج الذي قدمته فتح ويتضمن الاعتراف بقراري 242 و338، وهو البرنامج الذي تطور إلى تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني ليعترف بإسرائيل ويدين المقاومة المسلحة. كانت الجبهة تراوح بين موقفين، الاستفادة القصوى من ظروف شديدة السوء، أي اعتراف بأن الحل المرحلي هو المتاح الآن مع عدم التخلي عن الهدف الإستراتيجي الذي هو التحرير الكامل بما يعنيه الالتزام بالمقاومة المسلحة.

كان هذا التنازل الجديد للمرحلية تعبيرًا عن إدراك الجبهة للظروف التاريخية التي أدت إلى هزيمة الثورة ونتجت منها غير أن الجبهة لم توافق على التفاوض مع إسرائيل وما نتج منه من اتفاقيات تكللت باتفاق أوسلو الذي وصفه جورج حبش بـ"ذروة الانتكاسات والهزائم" كما اعتبر أن "المعاهدات والاتفاقات الأمنية ستضع بلا شك قيودًا عديدة وستضيف عقبات كبيرة أمام مواصلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال". كانت الجبهة وما زالت ترى في أوسلو خطرًا داهمًا، غير أن هناك خلطًا مستمرًّا بين موافقتها على الخيار المرحلي بشروط محددة وبين أوسلو، فليست أوسلو في نظر الجبهة سوى استسلام، عبَّر عنه الشهيد أبو علي مصطفى بقوله: "إن هناك سلطتين تتعاونان على ضرب العمل المسلح في الأرض المحتلة، السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال".

كان انتقال ثقل العمل الفدائي إلى الأرض المحتلة في التسعينيات محفوفًا بمعوقات ضخمة عانتها الجبهة، تفكك الكتلة الشرقية الذي نوقش في مؤتمر 1993 والكونفرنس الوطني عام 1994 اللذين أكدا على الالتزام بالماركسية وبالخيار الاشتراكي وقدما نقدًا للماركسية السوفييتية، بالإضافة إلى هذا عانت الجبهة أزمة مالية ضخمة في ظل توقف الدعم من العراق وليبيا وتوقف العمل الخارجي تمامًا، وهجوم غير مسبوق من الاحتلال على شبكة العمل السري التي بنتها الجبهة في الضفة وغزة أثناء الانتفاضة.

في عام 1999 عاد أبو علي مصطفى -نائب الأمين العام للجبهة- إلى الضفة الغربية، ثم عُقد المؤتمر السادس للجبهة، الذي تخلى فيه جورج حبش عن منصبه كأمين عام، كانت تلك ساعة الحقيقة بالنسبة إلى الجبهة الشعبية. لم يكن تأثير حبش اعتياديًّا، يمكن القول إن الجبهة كانت ماكينة يمثل حبش ترسها الأكبر، وأهم أقطابها النظريين، ومنتج وثائقها المهمة. مع ذلك لا نميل إلى الاعتقاد مع أسعد أبو خليل بأنه كانت هناك عبادة لحبش في صفوف الجبهة. فالرجل برغم كاريزميته وتأثيره الضخم، قد تعرض لانتقادات حادة من قبل بعض رفاقه بعد الخروج من الأردن، كما أن الجلطة التي أُصيب بها في 1980 وتركت اعتلالًا دائمًا في ذراعه وقدمه اليمنى قد حدَّت كثيرًا من حيويته ونقلت جزءًا من مهامه إلى أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية الآخرين ومع ذلك ظل وجوده نقطة اتزان لكثير من التجاذبات.

كان أبو علي مصطفى الذي حل محل حبش عام 2000 يميل أكثر إلى النشاط العملي، وقد أكسب وجوده في الضفة وقت الانتفاضة الثانية، أكسب الجبهة حيوية واضحة سرعان ما تعامل معها العدو الصهيوني بقدر ما مثلت من تهديد، فكان استشهاده عام 2001 يعني انتقال القيادة إلى جيل جديد في ظروف أكثر تعقيدًا من كل ما سبق. جيل لم يتشكل في خضم الصعود المدوي للماركسية بل في ظروف الهجوم العالمي عليها، وراحت هوية الجبهة النظرية تصير أكثر شحوبًا -على الأقل على مستوى الكوادر القاعدية باعتبار أن الوثائق السياسية لا زالت تستخدم اللغة والمفاهيم الماركسية- في ظل عالم الإسلام السياسي الجديد. الظاهرة التي شهد حبش صعودها وطالب بالتعامل معها بحذر والتفرقة بين مكوناتها ومحاولة إيجاد مشتركات للعمل على الساحة الفلسطينية، غير أن أحمد سعدات في كلمته من أسره للمؤتمر السابع للجبهة عام 2013 أكد على أن صعود الإسلام السياسي هو محصلة لتراجع التيارات اليسارية والقومية، وقد أشار إلى الدور الرجعي الذي لعبته حركات الإسلام السياسي إبان الانتفاضات العربية في 2011، لكنه في نفس الوقت أكد على ضرورة عدم التماهي مع قيام شرائح الكمبرادورية الطفيلية الحاكمة باستخدام الإسلام السياسي كفزاعة تهدف من خلالها إلى ترسيخ الأوضاع الطبقية القائمة التي تتسم بالخضوع التام للإمبريالية والصهيونية.

كما أكد التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر أن الصراع بين فتح وحماس، الذي لم تصطف فيه الجبهة مع أحد الطرفين، كان صراعًا على الحكم، حسمته حماس في غزة عسكريًّا لتصبح "بديلًا شرعيًّا لكل ما هو شرعي ووطني، وفرضت نموذجًا في غزة لا يختلف في جوهره كثيرًا عن نموذج حركة فتح". غير أن الجبهة لم تعمق نقدها للإسلام السياسي الحاكم في إيران والمتنفذ في لبنان والذي تقاتل معه كتفًا بكتف في غزة. النقد الذي لا يعني فصم عُرى التحالف في معركة مشتركة، بل يعني التأكيد على هوية المشروع الاجتماعي للجبهة من خلال إبراز التباينات بين رؤيتين مختلفتين جذريًّا لشكل وطبيعة الصراع مع معسكر الإمبريالية والصهيونية، يرجع هذا في جزء منه إلى الحصار الذي تعانيه الجبهة غير أنه لا يبرره. إن نقد سعدات لطبيعة حكم حماس في غزة في حاجة إلى تعميقه إلى موقف نظري أصيل يحدد طبيعة خطوط الالتقاء مع هذه القوى التي مثَّل صعودها إشكالًا نظريًّا وعمليًّا لليسار العربي.

جدد المؤتمر السابع تبني الجبهة للحل المرحلي غير أنه تمسك بأن يكون هذا الحل تكتيكًا لا هدفًا نهائيًّا، فالهدف النهائي ظل بالنسبة إلى الجبهة هو تحرير كامل التراب وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية.

غير أن المؤتمر الثامن للجبهة والمنعقد عام 2022 قد خرج بقرار رفض الحل المرحلي باعتبار أنه "مثل بوابة لتقديم مزيد من التنازلات أمام الموقف "الإسرائيلي" الواضح، الذي داس حتى اتفاقية "أوسلو"، ويريد اليوم ضم الضفة كلّها، مؤكدة أمام جماهيرها أن أُولى خطوات العلاج واستعادة المشروع الوطني الفلسطيني تتمثَّل في التخلي عن كل الصيغ التنازلية، والعودة إلى الأساسات: "التمسك بفلسطين كل فلسطين".

وبالرغم من جسارة الطرح في ظل الأزمة العامة لليسار العربي وأزمة اليسار الفلسطيني خصوصًا والجبهة في القلب منه، فإن الجبهة لم تطرح إستراتيجية حقيقية للتعامل مع الإفرازات المرحلية، وأهمها السلطة الفلسطينية التي قامت على أساس أوسلو كسلطة تنسيق أمني، وقبل السلطة، لم تطرح الجبهة حلًّا لمسألة منظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت إلى كابح للنضال الفلسطيني عبر احتكار تمثيله، وهو الاحتكار الذي حازت المنظمة مشروعيته من المواجهة المسلحة مع العدو، غير أنه بدءًا من 1988 أسقطت المنظمة من ميثاقها الكفاح المسلح واعترفت بإسرائيل، ما نسف تلك المشروعية وحوّل المنظمة إلى أداة تأديب لفصائلها المارقة وعلى رأسها الجبهة الشعبية التي أوقفت قيادة منظمة التحرير مخصصاتها المالية أكثر من مرة. فقد كفت منظمة التحرير عن أن تكون جبهة للقوى الفلسطينية وتوحدت مع فتح في جسد واحد وصارتا جهازًا تابعًا للسلطة التي ساهمت مع الاحتلال في تفكيك عشرات من خلايا الجبهة العسكرية في الضفة.

وبعد، فقد مثل ميلاد الجبهة الشعبية نقلة نوعية في مسار اليسار الماركسي العربي، وكان نقدها لأنظمة البرجوازية الصغيرة، واجتراؤها على سطوة عبدالناصر القومية، ونبذها للتراث القديم للأحزاب الشيوعية العربية الذي نقل المفاهيم السوفييتية عن التطور اللارأسمالي والتعايش السلمي، كل هذا كان حجرًا ضخمًا في مياه الماركسية العربية الراكدة، وكان الأكثر إلهامًا هو أن الجبهة التي قدمت مثل هذه الطروحات -لم تكن وحيدة بالطبع في هذا الصدد- قد خرجت من رحم القوميين العرب فكانت بهذا شهادة وفاة الأيديولوجيا القومية بحق، غير أن جملة الظروف الإقليمية والعالمية وخصوصية الوضع الفلسطيني، قد قادتا الجبهة إلى أزمة مريرة منذ منتصف الثمانينيات.

كانت الجبهة عدو كل ما هو سائد، حتى في خطابها عن الوحدة الجماهيرية العربية الذي يمكن الاطلاع على جزء منه في وثيقة "مناقشة حول التنظيم الشيوعي الفلسطيني في الضفة الغربية" وهي وثيقة صادرة عام 1979 تتناول مسار صعود البرجوازيات العربية واستسلامها وتسلط الضوء على كامب ديفيد والتحولات التي جرت في مصر بعد 1967 كمثال للتردي الذي حاق بأنظمة البرجوازية الصغيرة.

 طرحت الجبهة سقفًا عاليًا في حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، غير أنها لم تستطِع التحول إلى أداة تنظيمية قادرة على النهوض بحجم المهام، وبالرغم من التذبذبات في مواقفها، ظلت الجبهة قريبة جدًّا من إستراتيجية تأسيسها، غير أن عدم إيلاء الاهتمام الكافي بالتمايز التنظيمي وعدم العكوف على خلق كوادر تحمل بعمق تطلع الجبهة إلى تحولها إلى حزب العمال والكادحين الفلسطينيين، مع عدم قدرة الجبهة على تعميق هويتها النظرية والأيديولوجية الذي قد يودي بأهم تنظيمات اليسار الماركسي العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.