دراسات

شريف إمام

أكذوبة رمي اليهود في البحر – الجزء الثالث

2024.07.20

مصدر الصورة : ويكيبديا

رمي الفلسطينيين في أَبْحُر الشَّتات: الفكرة والتطبيق

 

إذا كانت الصهيونية قد بنت أسطورة الهولوكست العربي المزعوم على أساطير دينية، وسعت إلى تعميم تلك الأسطورة والاستفادة منها، فإن وقائع التاريخ تثبت لنا أن الصهيونية هي من رمتنا بدائها وانسلت. فلقد سعت منذ أن كانت فكرة إلى طرح مشروع رمي سكان فلسطين في أَبحر الشَّتات، وساقت من أجل ذلك شعارها التاريخي: "فلسطين أرض بلا شعب". كان هذا الشعار الذي ظهر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر[1]، لا يعبر عن حقيقة ديموغرافية بقدر ما عبر عن رغبة في التطهير العرقي والإبادة عبر التهجير والإلقاء في غيابات الشَّتات[2]. 

كانت البداية العملية لفكرة إلقاء سكان فلسطين الأصلين في أبحر الشَّتات، عندما قدّم اللورد شافتسبري أثناء مؤتمر لندن 1840 مشروعًا لتوطين اليهود في فلسطين، متعللًا بأنها أرض مهجورة قاحلة، تفتقر للأيدي العاملة، وكان هذا المشروع إيذانًا بالميلاد العملي لشعار: "وطن بلا شعب، لشعب بلا وطن"[3]. ومع بروز الصهيونية السياسية على يد هرتزيل، صار إقامة وطن قومي لليهود يعنى بالضرورة التخلص من السكان الأصليين، ففي يومياته كتب في يونيو 1895 – قبل أن يحدد موطن الدولة اليهودية المزمع إنشائها- : "سيكون من الضروري إخراج غير اليهود من مثل هذه الدولة"[4].

It would be necessary to remove the non-Jews from such a state

لكن الخطوة الأكثر وضوحًا في مشروع طرد الفلسطينيين، جاءت عندما همَّ هرتزيل بوضع ميثاق لإنشاء رابطة للاستيطان في فلسطين، ورحل إلى القسطنطينية من أجل حمل السلطان عبد الحميد الثانى على تسهيل هجرة اليهود، وكانت المادة الثالثة في الميثاق تنص على منح اليهود الحق في ترحيل الأهالى الأصليين في فلسطين، إلى مناطق أخرى داخل الإمبراطورية العثمانية[5]. كان ميثاق الترنسفير الصهيوني لهرتزيل، قد تزامن مع تصريح لزعيم الصهيونية التوطينية إسرائيل زانغويل Israel Zangwill بعد زيارته لفلسطين عام 1898 قال فيه: "إن فلسطين أضيق من أن تستوعب شعبين، إن اليهود والعرب لن يعشوا بسلام، ولا مفر من إجلاء العرب ونقلهم بالقوة إلى البلدان المجاورة"[6]. وأَعاد في خطاب له في نيويورك عام 1904 وبلغة أكثر عنفًا التأكيد على قناعته فقال: " علينا أن نكون على استعداد لطردهم – أي العرب- من الأرض بقوة السيف، مثلما فعل أجدادنا ضد القبائل التي عاشت فيها"[7]. وعندما تلقَّى الوهم الصهيوني أكبر نجاحاته، بصدور إعلان بلفور عام 1917، أعاد زانغويل التأكيد على ضرورة طرد العرب إلى المملكة العربية المزمع إنشائها لأبناء الشريف حسين، والتي ستتعاون معه الدولة اليهودية بشكل ودي، معللًا ذلك بأن إعادة التوزيع العرقي لصالح السعادة العالمية العامة، وهي إحدى مهام عصبة الأمم[8].

كان خطاب الترانسفير نتيجة طبيعية لسقوط دعاوى الصهيونية حول الفراغ السكاني في فلسطين، فحاولت الصهيونية تقديم ذريعة جديدة لتهويد فلسطين، باستخدام مقولة الفراغ الحضارى، ووصف شعب فلسطين بالتخلف، وأنهم جماعات غير متحضرة، وفى مستوى متدن من سلم الحضارة والرقي التي يعتلي اليهود ربوعه. وعليه لا يستحق هؤلاء أن يستوطنوا تلك الأرض، وأنه وجب ترحيلهم إلى البلاد العربية المجاورة، ولا ضير لدى الصهيونية في إعطاء مبرر لذلك، فعرب فلسطين ليسوا سكان تلك المنطقة وإنما قبائل مرتحلة من شبة الجزيرة العربية وما حولها، فمنها وفدوا وإليها يعودون، سواء أكان الأمر طواعية تحت إغراء الأموال أو قسرًا بقوة السلاح.

وفى أعقاب اشتداد المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني واندلاع ثورة البراق عام 1929، التأم اجتماعٌ في وزارة الخارجية البريطانية في لندن في الخامس من ديسمبر 1930 حضره حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، قدم فيه ما يعتقده حلًّا جذريًّا للصراع، عبر نقل العرب من فلسطين إلى شرق الأردن، وطلب من المجتمعين الاهتمام بتنمية بلاد شرق الأردن - التي يراها فارغة-واستصلاح الأراضي. وأشار وايزمان إلى أنه من مصلحة خط الأنابيب والسكك الحديدية المتوقع إنشاؤهما من العراق إلى حيفا تطوير وتوطين مجتمع سكاني مستقر في شرق الأردن، وأضاف أن رئيس الوزراء الأردني يرى ذلك مقترحًا عمليًّا، بشرط أن يتم تقديم نوع من المساعدة من قبل بريطانيا. واعترف وزير الخارجية هندرسون بأن "هذا الاقتراح يستحق الدراسة"[9].

شكَّل اندلاع الثورة العربية الكبرى دليلًا دامغًا للصهيونية على عمق ارتباط الشعب الفلسطيني بأرضه واستعداده للقتال من أجل ذلك، فوجدت أن لا مناص من إعلاء فكرة الترحيل القسري، ووجدت في توصيات لجنة بيل عام 1937 –التي شارك رؤوس الحركة الصهيونية في صياغتها- خير معين على ذلك[10]. فظهرت في نفس العام خطة سوسكين للترحيل القسري للعرب باعتبار أن ذلك شرطًا ضروريًّا لقيام الدولة اليهودية، ومن أجل ذلك دعا إلى إنشاء لجنة توطين العرب، يكون دورها انتقاء مساحات شاسعة من شرق الأردن بغية توطين العرب الذين سيتم ترحليهم[11]. صيغت عدة خطط ترحيل بعد خطة سوسكين منها؛ خطة يوسف وايتز (1937)؛ خطة بونيه (1938)؛ خطة روبين (1938)؛ خطة الجزيرة ( 1938-1942)، خطة إدوارد نورمان للترحيل إلى العراق ( 1934 واستمرت حتى 1948)؛ خطة الياهو بن حورين (1933- 1938) عرف لاحقا "بمشروع هوفر" بعد عرضه على الأمريكان[12].

إبَّان الحرب العالمية الثانية، وجدت الصهيونية أنه من السهل إعادة طرح مشروع الترانسفير العنصري، فأعاد وايزمان طرح الفكرة على مسامع السفير السوفياتي إيفان مايسكي Ivan Maiskii في لندن، وأكد له أن ترحيل نصف مليون عربي من فلسطين سيسمح بتوطين مليوني يهودي، وأن العرب سيرحلون إلى العراق أو إلى شرق الأردن، وأن الظروف في شرق الأردن لا تختلف كثيرًا عن الظروف في تلال فلسطين. ولتبرير إلقاء عرب فلسطين في صحراء الأردن والعراق، قال وايزمان: "لا تقلق فكثيرا ما يطلق على العربي اسم ابن الصحراء، وسيكون من الأصح أن ندعوه بأبي الصحراء. فكسله وبدائيته يحولان الحديقة المزدهرة إلى صحراء. أعطني الأرض التي يشغلها واحد مليون عربي، وسوف أقوم بسهولة بتوطين خمسة أضعاف هذا العدد من اليهود عليها[13]. بعد هذا اللقاء بأشهر اِلتقى موشيه شاريت مع والتر سمارت Walter Smart سكرتير الشؤون العربية في السفارة البريطانية في مصر، وأخبره أن أرض فلسطين تستوعب ما لا يقل عن خمسة ملايين يهودي، وأن هناك مليونا عربي يمكن طردهم لصالح مزيد من الهجرة اليهودية. واقترح أن يطردوا إلى سوريا، حيث لا تزال مساحاتها فارغة، وقابلة لاستيعاب عدة مئات الآلاف من العرب، وسيوفر الشعب اليهودي الأموال لسوريا من أجل استيعابهم، والأمر نفسه ينطبق على العراق[14].

وقد اقتفى يوسف فايتس، مدير دائرة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي، أثر وايزمان وشاريت، ففى 20 ديسمبر 1940 ذكر: "ليكن واضحًا أنه لا يوجد مكان في البلاد للشعبين"It must be clear that there is no room in the country for both peoples، لا يوجد أماكن شاغرة هنا من أجل التنازل عنها. ولا سبيل إلا نقل العرب من هنا إلى الدول المجاورة، نقلهم جميعاً[15]. ولقد أكد ديفيد بن جوريون هذا المعنى عندما وضع مشروعه الذي أطلق عليه "خطوط للسياسة الصهيونية" في 15 أكتوبر 1941، ومما جاء فيه: إن أرض إسرائيل ما هي إلا جزء صغير من الأراضي التي يسكنها العرب، وعرب أرض إسرائيل ما هم إلا جماعة لا قيمة لها، ودولتا العراق وسوريا قليلتا السكان، ويمكنهما استيعاب عرب إسرائيل ببعض الإغراءات المالية. وشدَّد على أن التهجير لن يتم إلا قسرًا؛ لأن مجموعات قليلة كالدروز هم من يقبلوا الرحيل بقليل من المزايا، أما الترحيل الجماعى لن يتم إلا بالقوة كما حدث في ترحيل السكان بين اليونان وتركيا[16]. وتطالعنا الوثائق بمزيد من النصوص عن دعاوى التهجير القسري للعرب، لكن اللافت للنظر هو الترحيب الغربي بتلك الدعاوى. فحزب العمال البريطاني اعتمد وثيقة مباديء عام 1944 تدعو إلى تسهيل الهجرة اليهودية لفلسطين ونقل العرب خارجها، كجزء من تسويات تهدف لخلق حالة سلمية في الشرق الأوسط[17]. ولعل هذا الترحيب الغربي يعكس حالة التوحد بين الغرب والمشروع الصهيوني، بشكل يجعله ليس بحاجة إلى تبريرات صهيونية من أجل تقديم المساعدة لإسرائيل.

عمليًا، فإن العصابات العسكرية الصهيونية سعت حتى قبل نكبة 1948 في إرهاب الفلسطينيين وإخراجهم قسرًا من ديارهم، وقبل إعلان قيام دولتهم، وضع مخطط شامل للترحيل والتطهير العرقي للفلسطينيين عرف بـ "خطة دالت"[18]، والقائمة على الإسراع في طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وبالفعل شكلت هذه الخطة مجمل الرؤية التوسعية للصهيونية من حيث شموليتها في تصفية الوجود الفلسطيني، بحيث يتم تفريغ مناطق فلسطينية وفرض سيطرة عسكرية عليها. وهدفت الخطة إلى تنفيذ تطهير عرقي وترحيل الفلسطينيين، وكانت السبب المركزي في تحويل الفلسطينيين إلى لاجئين وسقوط مدنهم وقراهم بيد العصابات الصهيونية. ونفذت العصابات الصهيونية سلسلة من المجازر بحق الفلسطينيين في معظم القرى والمدن التي احتلتها بالقوة أو باستسلام أهاليها، وذلك بهدف خلق أجواء رعب وخوف. فمجزرة دير ياسين نموذج لهذا الأسلوب، فقد قال عنه إسرائيل شيب – إلداد، وكان وقتها عضوًا في قيادة ليحي (عصابة شتيرن): "لولا دير ياسين لكان نصف مليون عربي يعيشون اليوم داخل دولة إسرائيل. وما كان لدولة إسرائيل أن توجد[19].وتبعتها مجازر في الصفصاف واللد وعيلبون والطنطورة والدوايمة وغيرها. وهكذا شهد التاريخ الفلسطيني أكبر عملية تفريغ وهدم وترحيل وتطهير عرقي بموجب هذه الخطة[20].

إن ما يتبيَّن من المقترحات الصهيونية المبكرة لطرد العرب عن أرض فلسطين، أن الصهيونية آمنت بصعوبة أن تتسع أرض فلسطيين لهم ولسكانها الأصليين في وقت واحد، وإن بقاء عرب فلسطين يهدد مشروعهم، فأرض إسرائيل في زعمهم- حقًّا وراثيًّا لليهود، وملكًا لليهود حصرًا، والعرب "غرباء" وعليهم أن يقروا بيهودية أرض إسرائيل/فلسطين وبالسيادة اليهودية الحصرية عليها، أو أن يرحلوا.

خاتمة

لقد كانت فرية رمي اليهود في البحر إحدى تجليات ترنيمة الاضطهاد التي رددتها الصهيونية بخشوع أمام الرأي العام العالمي، مُتسربله بحُلَّة المظلومية، ومعتصمة بعقل وضمير غربي يقبل كل ما يخرج عنها. إن وضع تلك الفرية في مرمى النقد التاريخي يثبت عمق هشاشتها، وأنها إحدى إفرازات الدعاية الصهيونية، وأنها لم تكن شعارًا عربيًّا في أي مرحلة تاريخية، وأن رواجها جاء من قوة البروباجندا الصهيونية وتصديق الغرب لها، وانهزامية بعض المثقفين العرب ورغبة بعضهم في النكاية ببعض من اتهموا برفع هذا الشعار. إن هذا الشعار هو هاجس القتلة من ثورة دماء ضحاياهم، وتخوُّفات الظالم من لحظة القصاص، إنه إحدى ثمار التقمص التاريخي النصي لوقائع العهد القديم، الذي ينبغي إعادة تمثيل فصوله كاملة وعلى نفس المسرح الذى وقعت عليه. في المقابل، فإن فكرة الرمي والطرد في حق الآخر، عقيدة صهيونية آمنت بها منذ أيامها الأولى وحتى قبل أن تصبح مشروعًا، وأمست ممارسة من قبل عصاباتهم قبل أن تكون دولة. إن تفكيكنا لتلك الفرية لا يعنى أننا نغلق النوافذ على أصحابها، فعمليًّا شعار رمي اليهود في البحر انزوى استخدامه كفزاعة، لحساب تخرُّصات صهيونية أخرى قائمة على استخدام شعارات وطنية وتوظيفها لنفس الغرض، على رأسها شعار "من النهر إلى البحر.. فلسطين ستتحرر" (From the river to the sea, Palestine will be free). والتي يروج له اليهود على أنه دعوة صريحة لمحو إسرائيل، متناسين أن البرنامج الأصلي لحزب الليكود، حزب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والصادر عام 1977، به جملة تقول إنه "بين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية"، في إشارة إلى عدم وجود أي حقوق للفلسطينيين في كل أراضي فلسطين التاريخية. إنما كان قصدنا توضيح كيف تنشأ تلك الافتراءات وضعف منطقها، وأنها لا تعبر إلا عن مقاصد أصحابها تجاه أصحاب الأرض.

[1] Diana Muir, A Land without a People for a People without a Land" , Middle East Quarterly ,Spring 2008, pp. 55-56.

[2] للمزيد راجع دراسة نور الدين مصالحه:

Nur Masalha, A land without a people, London, 1997.

[3] Nahum Sokolov, History of Zionism, Vol. 1, New York, 1919, pp. 124, 127.

[4] Chaim Simons, A Historical Survey of Proposals to Transfer Arabs from Palestine, 1895-1947, Ulaan Baator, 2004, p. 11.

[5] David Hirst, The Gun and the Olive Branch, New York, 1977, p.l8.

[6] سعيد جميل تمراز، طرد الفلسطينيين في الفكر والممارسة الصهيونية (1882/1949)، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، الجامعة الإسلامية، غزة، 2013، ص 75.

[7] Robert MacDonald, "A Land without a People for a People without a Land": Civilizing Mission and American Support for Zionism, 1880s-1929, 2012, p. 13.

[8] Israel Zangwill, the voice of Jerusalem, New York, 1921, p. 105.

[9] Chaim Simons, Op. Cit., p. 37.

[10] نور الدين مصالحه، طرد الفلسطينين: مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882- 1948، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1992، ص 50- 52.

[11] Chaim Simons, Op. Cit. , p. 242.

[12] للمزيد عن تلك الخطط راجع: مصالحه، مرجع سابق، ص 66 وما بعدها.

[13] Benny Morris , The birth of the Palestinian refugee problem revisited, Cambridge, 2004, p. 53.

[14] Ibid, p. 53.

[15] Chaim Simons, Op. Cit. , pp. 137, 138.

[16] Benny Morris , Op. Cit., p. 55.

[17] Yosef Gorni , The British labour movement and Zionism, 1917-1948 , 1983, pp. 178, 180.

[18] Benny Morris , Op. Cit., p. 165.

[19] Uri Davis and Norton Mezvinsky (eds.), Documents from Israel 1967-1973 ,London, 1975, p. 187.

[20] راجع نور الدين مصالحه، التصور الصهيوني لـ"الترحيل": نظرة تاريخية عامة، مجلة دراسات فلسطينية، مج 2، ع 7، صيف 1991، ص 18.